غادر عمي «الطاهر الخياط» مدرجات الجامعة مبكرا، بداية ثمانينيات القرن الماضي بعدما كان طالبا في كلية العلوم الدقيقة والبيولوجيا، وكان حلمه الثاني دراسة الفيزياء و الحركة الذاتية لإنتاج الطاقة، ليقرر فجأة التخلي عن كل شيء ليدخل عالما آخر مختلفا تماما هو عالم الخياطة وتصميم الأزياء، أين وظف معارفه في الرياضيات ليتميز بفضل دقة تصاميمه و جودة تفاصيلها.
ص. رضوان
اتخذ عمي الطاهر ابن مدينة قسنطينة، محلا صغيرا قرب منزله بشارع صالح باي، و اشتغل فيه في مجال خياطة أفرشة العرائس وفي ليالي الشتاء الطويلة كان يقضي ساعات أمام ماكنة الخياطة ليتعلم كل أسرارها، متخذا من قطع القماش الصغيرة التي تسقط عن تفصيل المفروشات، مادة للتدريب على تصميم قطع الملابس، وهكذا وجد نفسه تدريجيا كما أخبرنا عندما زرنا ورشته، منخرطا كليا في الحرفة. كانت البداية الاحتراف الحقيقي، عندما اقتنى ملابس فتيات صغيرات من محلات في وسط المدينة، وفككها للحصول على القياسات و النماذج المضبوطة لكل الأعمار، ثم صار يعتمد عليها لتفصيل تصاميمه الخاصة من خامات مختلفة، و دخل بدوره مجال تجارة الملابس الجاهزة التي يقوم هو بتصميمها وخياطتها.
عصامية و شغف لا ينتهي
بعد مدة داهمه حنين الدراسة مجددا، فقرر العودة إلى مدرجات الجامعة، والتحق لفترة بمعهد بومرداس للبيتروكيمياء، ثم المدرسة العليا للإدارة، لكن شغفه بالتصميم ظل يراوده دائما، لذلك عاد مجددا إلى ماكينته و بدأ في خياطة ما خف من تجهيزات العروس لتتحول الحرفة في تلك الفترة إلى مصدر رزقه، وقد كان في ذلك الوقت عاملا في ورشة تعود ملكيتها إلى عمه.
قرر الانفصال عن قريبه، و الاشتغال لصالحه أين أنشأ ورشته الخاصة في بلدية عيد عبيد بقسنطينة، وتخصص في خياطة الملابس النسوية الجاهزة بكل أنواها، وبعدما اكتسب شهرة افتتح ورشة أخرى في واد زناتي، وثالثة في قالمة، ليبلغ بعدها العاصمة، قبل أن يقرر العودة مجددا إلى عين عبيد بعد وفاة والده.
قال محدثنا، إنه اختار التخصص في خياطة الملابس النسوية لأنها لم تكن متوفرة بكثرة في السوق على عكس الملابس الرجالية، مشيرا، إلى أنه مجال أكثر تنوعا لأن النساء تواكبن الموضة بشكل أكبر و تغيرن إطلالاتهن حسب الفصول، وقد استطاع طوال سنوات عمله في المجال، أن يبني علاقة ثقة مع العديد من الزبائن الذين يجدون ضالتهم في ورشته لأنه يجيد ترجمة أفكارهم إلى تصاميم جاهزة و مناسبة لأذواقهم وأجسامهم.
سرعة في الإنجاز أكسبته شهرة واسعة
يتميز عمي الطاهر، بسرعته في الإنجاز فمن يقصد ورشته وفي يده قطعة من القماش، لا يخرج منها إلا وهو يحمل التصميم الذي جاء في طلبه، حيث يستطيع أن يتم العمل في ظرف وجيز جدا وبدقة عالية وهو ما أكسبه شهرة واسعة، حتى إنه يخيط القطعة المطلوبة على مرأى من الزبون علما أنه متخصص حاليا في الملابس النسائية، و اللباس التقليدي الجزائري عموما، كما يخيط أيضا ملابس لكل الأعمار ومن الجنسين، وينجح في تفصيل أي تصميم يطلب منه مهما كانت القطعة، سواء تعلق الأمر بالسراويل أو السترات، أو القمصان أو التنانير ومعاطف الكشمير وغيرها، رغم كونه عصاميا كون نفسه بنفسه واستطاع أن يتحدى الظروف ويتفوق في مجاله دون الحاجة إلى دخول معهد للتكوين المهني.
والتنوراتوالمعاطف حسب الذوق، ابتداء من الكاشمير إلى الأقمشة القطنية معتمدا في كل ذلك على نفسه فهو عصامي التكوين لم يدخل مدرسة ولا معهد خياطة.
مواقع التواصل حولته إلى نجم
زادت شهرة عمي الطاهر الخياط، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، حيث احتفى به مستخدمون من أبناء مدينته عين عبيد مؤخرا، و قد ساعده ذلك على العودة إلى الواجهة ودل زبائن كثر على باب ورشته.
وقد استغل محدثنا، هذه الضجة ليلج مجال تعليم الخياطة عن طريق تقديم دروس ودورات في التفصيل والتصميم والخياطة، وقد بدأ تفاعله مع الفضاء الأزرق يزيد، بفضل تعليق من صديق مهتم بالموضة والأزياء، اتصل به وشجعه على الظهور ليتعرف عليه الناس أكثر ويكتشفوا قصته وموهبته.
خلال تواجدنا في محله بحي قصر الماء بعين عبيد، أكد لنا أن هذه التجربة فتحت مسارا جديدا في حياته المهنية، وسمحت له بدخول عالم الدورات التعليمية في قسنطينة وخارجها، بعد أن تقدم به العمر، ولم يعد قادرا على الجلوس مطولا على كرسي الخياطة.
تكريس لكل ما هو تقليدي
ويؤكد عمي الطاهر، أنه يركز في دوراته على الحفاظ على الصنعة والأزياء الجزائرية على اختلاف أنواعها وتصاميمها، كما يقدم تكوينا لتلاميذه في تقنيات تفصيل التصاميم الكلاسيكية الجاهزة ويستغل الدورات لنقل ذلك إلى الجيل الجديد الصاعد أو بالأحرى الجديد المتأثر بالموضة والأزياء العصرية.
ويؤكد أن له أسلوبه المميز في التعليم والذي يحافظ من خلاله، على خصوصية المدرسة جزائرية في الخياطة والتفصيل، ولا يعتمد على الطرق الغربية، كما أن له أسلوبا وقواعد مختلفة في رفع القياسات وتطبيقها على القماش، فتكوينه العلمي في الرياضيات والفيزياء ساعده على إتقان عمله واستحداث قواعد خاصة به في التفصيل.
عمي الطاهر، الذي حاز على شهادة البكالوريا في شعبة العلوم سنة 1980، كانت له أفكار علمية في الفيزياء تخص الحركة الذاتية، لإنتاج الطاقة ولكن ظروفا خاصة بددت أحلامه وأفكاره، فحول طاقته لعمل إبداعي كما عبرا، قائلا للنصر، إن انطلاقته الحقيقية كانت في بداية التسعينيات، حين اشتهرت تصاميمه التي تمزج بين اللمستين العصرية والتقليدية، مؤكدا أن قصته تحمل في طياتها رسالة عن السعي والأمل، وأن الفشل في مسار لا يعني التوقف بل البحث عن أبواب أخرى ليطرقها الإنسان في طلب الرزق و البحث عن بريق النجاح.