يشكل باعة الفول المتجولون، جزءا من ديكور مدينة عين عبيد الريفية بولاية قسنطينة، و تنتشر عرباتهم بشكل كبير في الشوارع و عند مداخل الأحياء، أين يكثر الطلب على وجبة" الفول الساخن" التي يدمنها الصغار و البالغون كذلك.
ص-رضوان
تعود عربات الفول الساخن مع عودة الخريف إلى عين عبيد المعروفة ببرودة الطقس نظرا لطبيعتها الجغرافية، و تعتبر هذه الوجبة البسيطة، أفضل مضاد طبيعي للزكام و نزلات البرد حسب سكان المدينة، الذين يحبونها بل وينتظرون الموسم للاستمتاع بها، خصوصا وأنها غير لذيذة و غير مكلفة.
ثلاث قدور وطعم واحد
يشتهر باعة الفول المتجولون في المدينة، بأنهم يجرون ثلاث عربات تكون معبأة في العادة بالمرق الساخن الذي يطبخ فيه الفول اللذيذ، وتكون هذه العربات مهيأة لحمل القدور و إبقائها ساخنة، حيث تتوفر على موقد صغير " كانون"، بحرارة متوسطة يشغله البائع طوال النهار حتى يحافظ على غليان المرق و يقدم الوجبة ساخنة تماما كما يحبها الزبائن، الذين لا يستطعمون ذوق الطبق إلا إذا كان مغليا بشكل جيد، فيستمتعون بتبريده بأنفسهم من خلال النفخ عليه وهم يلتقطون حبات الفول الطرية المتشبعة بطعم التوابل الحارة.
عبد الوهاب، بائع متجول معروف في المدينة، عادة ما يقضي نصف يومه في العمل على عربته المتنقلة وسط الشوارع، ليستقر فيما تبقى من ساعات النهار على مستوى الشارع الرئيسي "لخضر بوشوشة"، يعرف بابتسامته التي لا تفارق محياه، وبحسن تعامله مع الزبائن الذين ينادونه "عمي"، كتعبير عن الألفة فهو عادة ما يتبادل أطراف الحديث مع زبائنه قبل أن يقدم لهم وجباتهم، فيما يفضل بعض عشاق الفول تناوله أمام العربة وهم يشاركون البائع بعض تفاصيل يومياتهم أو يحدثونه عن الطبق في حد ذاته.
تقربنا من البائع، وطلبنا صحنا لنجرب فوله الشهير، فقدم إلينا كمية قليلة فقط، سألناه عن السبب فتحجج بأن سعر الفول مرتفع هذه السنة، وأن نفس الإشكال بات يطرح بالنسبة للتوابل التي تستخدم في إعداد المرق، ناهيك عن ارتفاع سعر الفلفل الأحمر الضروري لبلوغ النكهة المطلوبة.
لاحظنا ونحن نناقش البائع حول موضوع الكمية والسعر، بأن غيرنا من الزبائن منغمسون في الأكل دون السؤال عن شيء، بل وقد بدوا مستمتعين لدرجة أن بينهم من كان يستخدم أصابعه للإمساك بحبات الفول الساخنة جدا، وقبل أن نباشر طعامنا علق أحدهم قائلا " إن الوجبة لذيذة جدا حتى وإن كانت قليلة، وهي تستحق ثمنها".
وقال آخر، "إنه علينا أن نجرب طعم الفول أولا لكي نحكم"، معلقا بأنه متأكد أننا سوف نحبه وسنطلب المزيد.
والظاهر، أن تعليقه كان تعبيرا عن واقع يتكرر أمام عربة الفول كل يوم، فقد طلب هو وصديقه صحنين إضافيين بعدما أنهيا صحنيهما، فيما كنا نجرب الوجبة التي اتضح بأنها لذيذة فعلا ومناسبة جدا للأجواء الخريفية والشتوية الباردة، لأن المرق الساخن و البهارات الحارة يساعدان على تدفئة الجسم.
ابتسامة مجانية مع كل طبق إضافي
قال لنا البائع، بأن المرق مجاني لمن أراد المزيد معلقا بأن الطبق عموما مفيد جدا للجسم ويخفف من حدة الزكام وآثار انسداد الجهاز التنفسي، ولذلك فإن هناك من يحبون احتساء المرق لوحده كنوع من " الشربة الساخنة"، مضيفا بأن عربته مقصد للعديد من الرجال يوميا لتناول وجبة تساعدهم على تحمل البرد و على مواجهة الجوع ليوم كامل، لأن الفول مغذ و يعزز الشعور بالشبع.
واصلنا حديثنا مع البائع المتجول خلال تناولنا للطبق، فعلمنا منه أنه يشتغل على عربته الصغيرة منذ سنوات، وأن أصل الاهتمام بالطعام الذي يقدمه راجع إلى الطبيعة الريفية لمدينة عين عبيد موضحا، أن الفول من المحاصيل الزراعية المهمة على موائد العائلات خلال موسمي الخريف والشتاء، ويعتبر مكونا رئيسيا في عديد الأطباق مثل " الكسكس" و " الدوبارة" و " الشرشم"، ولذلك فإن استهلاكه يتضاعف كثيرا في هذه الفترة و يعتبر طبق الفول بالمرق مطلوبا جدا.
ورغم إمكانية تحضيره في المنزل، إلا أن الطعم يكون مختلفا مقارنة بما يباع على العربات الصغيرة التي يفضلها الكثيرون كما أضاف.
مطعم صغير متنقل
قال محدثنا، إن عربته تعتبر بمثابة مطعم صغير متنقل، وإن أساس نشاطه هي القدر الكبيرة التي تحتوي على الفول ومرقه، وتكون مثبتة فوق " كانون" أو موقد صغير يبقى مشتعلا حتى نهاية اليوم ليحافظ على المرق ساخنا جدا.
كما تتوفر العربة كذلك على إناء من الألمنيوم لغسل صحون الفول بعد استعمالها، ويوجد بها مكان صغير مخصص للصحون و المغراف، وأوضح البائع أنه يقضي يومه في نشاط مستمر حيث لا يتوقف عن تقديم الوجبات لزبائنه الذين يقصده بعضهم مع ساعات الصباح الأولى قبل أن يلتحقوا بأماكن عملهم، فيما يتردد آخرون خلال فترة الغذاء للاستمتاع بالوجبة التي يقدمها لهم مع ابتسامة عريضة، كما يشاركهم لحظات تناولها من خلال فتح مواضيع للدردشة و الضحك كنوع من الحفاوة.
لاحظنا و نحن نقف أما العربة، أن الرجل سخي بشكل كبير حيث يردد على مسامع زبائنه في كل لحظة عبارات من قبيل " إلا ماعندكش السماح، نزيلك شوية مرقة ، وكول بصحتك".
ومع برد عين عبيد القارص، لا تكاد القدور تصمد طيلة اليوم حيث تنفذ الكمية سريعا، وقد يضطر البائع إلى تحضير المزيد خصوصا وأن وسط المدينة يعج بالمارة في الفترة المسائية ويتحول إلى سوق يومية للفواكه والخضروات الموسمية المنتجة محليا، التي يكثر الطلب عليها بالنظر إلى جودتها وملاءمة أسعارها، وهو ما يضاعف الحركية في المنطقة التي تعتبر مكان نشاط مثاليا للباعة المتجولين بما في ذلك باعة الفول الساخن.
لحم الفقراء
علمنا من البائع وبعض زبائنه، بأن الفول هو لحم الفقراء، وأن هذه الوجبة معروفة منذ زمن بعيد فقد كان الصحن في السبعينيات يكلف 20 سنتيما فقط، أو "أربعة دورو"، وكانت الوجبة المفضلة للتلاميذ في ذلك الوقت، حيث عرفت المدينة آنذاك إنشاء أول متوسطة تعليمية هي مؤسسة " ابن رستم"، التي ضمت تلاميذ من الأرياف والقرى المجاورة، كانوا يعتمدون على الفول كطعام مفيد يسد جوعهم طيلة اليوم الدراسي.
ويقول كل من السيد عبد الحميد قوميدة، والحاج عبد المجيد مراحي، وهما من كبار أبناء المدينة، أن استهلاك الفول في عين عبيد عادة متجذرة ولم تنقطع على مدار الأجيال، وتعود عادة تناول الفول بمحاذاة العربات الصغيرة المجرورة إلى ستينيات القرن الماضي، حيث يعتبر "الحاج بلخير" من أوائل من امتلكوا عربات بيع متجولة اشتهرت بتجارة الفول الساخن، تلاه بعدها جيل آخر من الكهول ومن ثم الشباب، ليستمر هذا النشاط إلى غاية اليوم، خصوصا في ظل وجود أوفياء وعشاق لهذه الوجبة اللذيذة الصحية، حتى إن فول عين عبيد تحول إلى علامة مسجلة كما عبرا.