عند البوابة الرئيسية للمحطة البرية بمدينة قالمة، يمكنك مشاهدة معرض للثمار والنباتات العطرية البرية، التي تنمو وتنضج في مثل هذا الوقت من كل عام، بغابات وسهول المنطقة التي تواصل الجود بخيراتها، رغم ما لحق بها من أذى على يد البشر الذين كل ما ضاق بهم الحال عادوا إلى أمهم الأرض التي تتسع للجميع.
كل صباح يمتلئ المكان برجال يبدو أنهم لا ينامون كثيرا، و يقضون ساعات طويلة من الليل والنهار في البحث عن أجود خيرات الأرض، يبدون سعداء وهم يشاهدون كل هذا الإقبال على الثمار البرية والنباتات البرية المفيدة، التي يعتقد الناس بأنها أفضل لهم وتذكرهم بتاريخ الأجداد القدامى، الذين كانوا يعتمدون على الطبيعة لكسب الرزق الحلال، فيها يعيشون و منها يأكلون.
خرشف بري، ثمار الريحان والبلوط والضرو، والفراولة البرية، وزيوت نباتية ثمينة وأعشاب عطرية وطبية، صارت مصدرا للرزق الحلال كما يقول أحد الباعة، وهو يمسك بمكيال صغير ويملأ أكياسا بلاستيكية شفافة بيضاء، بما جادت به الطبيعة في هذا اليوم من أيام الخريف الساخنة التي ينتظر فيها الناس الغيث الذي طال انتظاره، وغير بعيد من هنا، في مساجد المدينة كان رجال الدين يدعون ويتضرعون لمالك الأرض والسماء، لعلها تمطر وتحي الأرض من جديد، ويجد محمد وأصدقاؤه ما يجمعون من ثمار على مدار العام، فالطبيعة لا تتوقف عن العطاء و كل ما انتهت ثمار نضجت أخرى.
كان مشهد الثمار البرية اليانعة جميلا وجذابا، و كان الإقبال كبيرا في هذه الساعة المبكرة من يوم السبت الذي يخرج فيه الناس للسفر والتسوق.
الغابات مصدر الثمار البرية والنباتات العطرية
يقول محمد الذي اتخذ مكانا وسطا بين الباعة متحدثا للنصر "هذه ثمار ضرو وريحان وفراولة برية، جئنا بها من غابات سد بكوش لخضر بولاية سكيكدة، هناك مازالت الثمار تنمو كل عام، بهذه المنطقة تسقط الأمطار كثيرا و لذا مازالت الغابات محافظة على تنوعها، لكن الوضع بات مقلقا بغابات قالمة التي أصابها الجفاف، حتى الثمار البرية التي نضجت ببعض المناطق لم تعد جيدة كما كانت قبل سنوات الجفاف، قبل أيام قليلة كنت في الغابات القريبة من سد بوحمدان، لم يعد هناك ضرو ولا فراولة برية، كما كان الحال قبل سنوات مضت، الطبيعة مازالت تمنحنا خيراتها وفي المقابل يجب حمايتها فهي مصدر للحياة، والغابات تجلب الأمطار التي قلت ولم تعد تسقط لأشهر طويلة، نحن سعداء مع الطبيعة نعرف مواقع الثمار الجيدة ولا نترك مكانا إلا وذهبنا إليه بحثا عن الكسب الحلال".
وتعد غابات بني صالح الشهيرة بقالمة أيضا مصدرا هاما لثمار الضرو والريحان والبلوط، ونباتات عطرية وطبية كثيرة، حسب محافظة الغابات، و كلما اقتربنا من الساحل الشرقي للبلاد تزداد الغابات اخضرارا وتنوعا، ولذا يقصدها باعة الثمار البرية من أي مكان لجني خيرات الطبيعة، والعودة بها إلى الأسواق حيث ينتظر الناس كل صباح لشراء ثمار يانعة لم تمسسها يد البشر بسوء.
بدت الخرشف المعروضة للبيع في هذا اليوم جافة هزيلة، لكنها تباع بكميات كبيرة، في حين شد القسطل الذهبي المشوي إليه الأنظار، يدعمه الريحان الأسود، سيد الثمار البرية، و حبات الضرو والفراولة البرتقالية الجميلة، هنا حيث لا أسمدة عضوية ولا مبيدات كيماوية للأعشاب والحشرات، كل شيء على الحال التي نشأ عليها، ولذا كانت ثقة الناس في هذه الثمار والنباتات العطرية والطبية كبيرة، وتتزايد باستمرار.
قبل أيام قليلة كان الزعرور البري يباع هنا بالمدخل الرئيسي للمحطة البرية الشمالية، وقبله نباتات الزعتر والنعناع البري، لكل فصل ثماره ورجاله المتمرسون في البحث والتجوال وسط غابات وبراري قالمة، المقبلة على تحولات مناخية تثير قلق محمد وكل باعة الثمار البرية.
فتية النرجس والنقب
بيع الثمار البرية بقالمة مهنة ضاربة في أعماق التاريخ، فقد كان الأجداد القدامى يبيعون الخرشف البري والزعرور والفحم الخشبي لمواجهة الفقر والمجاعات التي حلت بهم، و منذ تلك العقود التي صارت مآسيها من الماضي، ظلت هذه المهنة قائمة رغم تحسن الأوضاع الاجتماعية للجزائريين بعد استقلال البلاد، وصارت اليوم أقرب الى الهواية وحب المغامرة والتجوال وسط الطبيعة.
حتى الأطفال الصغار يقودهم الحنين إلى الطبيعة عندما ينتهون من الدراسة، يجمعون ثمار السدر وأزهار النرجس الجميلة، ويبيعونها على الطرقات، يكسبون بها الرزق ويسعدون العابرين الذين يشترون منهم، و يأخذون تذكارا جميلا من طبيعة قالمة التي يأمل الجميع في أن تتعافى وتعود إلى ما كانت عليه من جديد.
ويصنع هؤلاء الأطفال كل خريف وربيع مشاهد جميلة في الحقول وعلى جوانب الطرقات، حتى أنهم صاروا تقليدا اجتماعيا يتجدد مع كل خريف وربيع، عندما تثمر الغابات وتزهر الحقول.
وتنمو ثمار السدر التي تعرف باسم "النقب" على نطاق واسع بقالمة، وهي في متناول الأطفال الصغار حيث لا تعلو أشجارها كثيرا، وثمارها ذات مذاق لا يقاوم، ويقبل عليها هؤلاء الفتية المغامرون بشغف، كما أزهار النرجس، وثمار الزيتون والخضر البرية التي تنمو على أطراف الحقول الزراعية.
وليست الثمار والنباتات البرية الثمينة في متناول الأطفال الصغار، فهي هناك في الحقول والغابات البعيدة الموحشة، و لم يقدر عليها إلا محمد وأصدقاؤه الذين تمرسوا في صيد الخيرات التي جادت بها الطبيعة بلا حساب.
قبل ان نغادر هذا المعرض الطبيعي الجميل، اشترينا كيلا من ثمار الضرو السوداء، القادمة من غابات سد زينت العنبة، إحدى الملاذات الطبيعية التي بقيت محافظة على تنوعها و ثرائها مدعومة بالأمطار الموسمية الغزيرة التي تميز ولايات الساحل الشرقي للبلاد.
فريد.غ