تمكنت جمعية مقام الثقافية الموسيقية لفن المالوف بقسنطينة، من تخريج أجيال من الموسيقيين والفنانين على مدار 30 سنة من النشاط،، منهم من لا يزال منتميا إلى تشكيلة فريقها التمثيلي، ومنهم من شق طريقه منفردا في عالم العزف والغناء، ويعتبر اليوم قدوة لصغار يتسابقون للظفر بمقعد في أقسامها، من أجل تعلم أبجديات الموسيقى.
تحت غطاء الثقافة والموسيقى ولدت جمعية مقام لفن المالوف، لتحتضن عشاق الفن القسنطيني الأصيل، وتعلم منتسبيها قواعد العزف والغناء، كما توثق لمختلف الطبوع والأنواع الفنية القسنطينية، عن طريق ألبومات يتم تسجيلها في استوديوهاتها الخاصة.
يركز القائمون على الجمعية، على تسجيل الطبوع التي تواجه شبح الاندثار، كما يستذكرون كبار المشايخ الذين تركوا إرثا فنيا كبيرا، فيعرفون بهم من خلال صور وفيديوهات تحكي عن تجاربهم الفنية، ونشاطهم الجمعوي على غرار سيرة ومسيرة عضو جمعية محبي الفن عبد المومن بن طبال، والشيخ قدور درسوني.
ويتم الاعتماد في ذلك على مراجع أكاديمية، إلى جانب تسجيل القصائد التي تغنت بها أعمدة الفن القسنطيني، و الربط بين الماضي الحاضر من خلال أعمال سمعية بصرية، تنشر عبر صفحة الجمعية على مواقع التواصل، وكذا عبر قناة الجمعية على اليوتيوب، وهي منصة تفاعلية تهدف للترويج لنشاط المؤسسة الثقافية وأيضا الحفاظ على التراث الموسيقي المحلي، من خلال عرض جوانب من أنشطة الجمعية وعمل فريقها التمثيلي، ناهيك عن تقديم دروس لتصحيح الأداء الصوتي للهواة والتعريف ببعض الطبوع وتاريخها وخصوصيتها وكل ما يتعلق بالموسيقى الكلاسيكية المحلية عموما.
من مبادرة عائلية إلى مدرسة لتعليم الفن
تتخذ "مقام" من دار الشباب بسطح المنصورة، فضاء لتعليم الناشئة والكبار الأداء الموسيقي وتقنيات العزف، وذلك منذ تأسيسها سنة 1995، بمبادرة عائلية مستقلة، وذلك حسب ما أوضحه حمزة بجاجة، مشيرا إلى أن هؤلاء الأقارب أرادوا أن يتشاركوا شغف الفن ويورثوه لأبنائهم، ولم يمنعهم نشاطهم المهني في تخصصات مختلفة كالطب والهندسة والتعليم، من التفرغ للعمل على هذا المسعى، حيث جمعتهم روح المبادرة، فكان الفنان إبراهيم بن عموشي من الرجال المساهمين في وضع لبنات الجمعية، وفي تكوين الدفعات الأولى، بوصفه مؤديا وعازفا على آلة المندولين.
يقول السيد بجاجة، بأن المؤسسين آنذاك اختاروا مكونين أكاديميين بدرجة أولى ومعروفين كذلك في الوسط الفني لتأطير المنتسبين لمقام كالأستاذ رابح خطاط، الذي قاد الفرقة التمثيلية للجمعية لمدة 15 سنة، منذ سنة 1995 إلى غاية سنة 2010، ليخلفه الأستاذ منجي بن مالك الذي لا يزال على رأس الفرقة التمثلية إلى غاية اليوم، إلى جانب أساتذة آخرين منهم، حسان بن طرحة، الذي يعتبر من أهم رجال المالوف والحوزي والخوان في المدينة، والشيخ مراد العايب، المتخصص في الزجل والمالوف عموما، و المشرف على تدريبات الأداء في نوبة الماية والصنايع وغير ذلك.
150 تلميذا
قال محدثنا، إنه واحد من التلاميذ الذين تدرجوا في مقام، فبدأ دارسا ليصبح اليوم رئيسا لها، رغم أنه توقف عن النشاط لفترة للانشغال بدراسة الهندسة قبل أن يعود إلى الجمعية مجددا سنة 2007، وقال إنه قبل ذلك كان قد تعلم العزف على بعض الآلات حين التحق بمديرية الأنشطة الثقافية و الرياضية، والتقى هناك بالأستاذ رابح خطاط الذي لقنه أساسيات العزف على آلة القيتار، ثم المندولين، والكمان والعود، على مدار سنتين.
وتعد مقام بمثابة مدرسة، بالنظر إلى حجم الدارسين بها، والبالغ عددهم 150 تلميذا، كما أن لها هيكلا تنظيميا و تعليميا مقسما لشقين حسبما أوضح، يتمثل الشق الأول في أقسام المدرسة التكوينية والثاني في القسم التمثيلي، وهو الفريق الذي يمثل الجمعية.
تتشكل المدرسة التكوينية من خمس أقسام، قسم المبتدئين الصغار في المستوى الأول، وقسم المبتدئين الصغار في المستوى الثاني، وكذا ثم قسم المبتدئين الكبار، إلى جانب قسمين اثنين للمستوى المتقدم الذي يضم فئات من مختلف الأعمار، حيث تحرص الجمعية في البداية على تعليم المنتسبين أبجديات الموسيقى، وكيفية إنتاج صوت، و الإيقاعات، ثم خصوصيات الآلات واختلافاتها، وبعدها الشروع في الدروس التطبيقية التي تبدأ من البسيط جدا إلى المعقد، لأن درجة التعقيد تزيد بالتقدم في المستوى.
أما القسم التمثيلي الذي يضم نخبة المدرسة، فيتميز عناصره بمهارة في الأداء والعزف، يتم انتقاؤهم من قبل مدير تقني ومؤطرين، بناء على المهارة الكافية في الأداء والعزف والحضور على الركح، ويحرص المؤطرون، على إدماج تلاميذ من الذين يمتلكون المهارة و الموهبة في حصص التدريبات لتحسين أدائهم والتمكن بذلك من بلوغ مستوى الفريق التمثيلي، المشكل من 25 فردا، أعمارهم بين 18 سنة و 42 سنة، إلى جانب قائد الفرقة منجي بن مالك صاحب 50 ربيعا.
التأطير حلقة مهمة
و يعتبر التأطير حلقة مهمة في "مقام" حسب حمزة بجاجة، فضمانه وبشكل جيد للمنتسبين يمكن من تحقيق الأهداف المرجوة، ويسمح بنقل وتمرير الرسالة الفنية للأجيال اللاحقة بشكل صحيح ودون تشويه أو مغالطات، حيث يشرف على المهمة عدد من المتطوعين من أساتذة وموسيقيين، هم عبد السلام بن طلحة، المشرف على قسم المبتدئين المستوى الأول، وعلي دهمشي المشرف على قسم المبتدئين الصغار المستوى الثاني، وحمزة بجاجة ومحمد زعزع المشرفان على قسم المبتدئين الكبار، ومحمد رياض بن طلحة مشرف على الفوج الذي التحق بالجمعية سنة 2015، ويسمى بقسم المستوى المتقدم، ويؤطره كذلك كل من حمزة بجاجة وشوقي بسطانجي ورياض بن طلحة.
أما قسم المستوى المتقدم كبار، فيشرف عليه محمد ندير تيفورة، وكل هؤلاء الأساتذة متطوعون بالوقت والجهد لتعليم الجيل الصاعد، كما يشرفون على تنظيم النشاطات وحسابات الجمعية على الفضاء الافتراضي، الذي يعد حلقة مهمة وواجهة لها.
اليوتيوب للتعليم عن بعد
وعن أنشطة الجمعية، أخبرنا المتحدث، بأن مقام تلبي دعوات الجهات الثقافية والفنية من مختلف ولايات الوطن، لتنشيط المهرجانات والتظاهرات، آخرها تظاهرة أيام المديح بولاية البليدة، إلى جانب مشاركات الدولية في تونس وفي فرنسا. أما عن الجوائز المتحصل عليها، فهناك العديد من التتويجات حسبه، آخرها سنة 2022، حيث نالت مقام الجائزة الأولى لمهرجان المالوف، سبقتها عدة تتويجات في ذات المهرجان، وذلك سنة 2008، و2010 و 2011، كما نالت الجائزة الثالثة في التظاهرة سنة 2007، والجائزة الثانية سنة 2015، وكذلك الجائزة الثالثة في مهرجان الحوزي في تلمسان سنة 2009.
تسجيل ألبومات الزجل والعروبي
قال رئيس الجمعية، إن التتويجات بمثابة وقود إضافي يؤمن طاقة للجمعية للمواصلة نحو تحقيق جملة من الأهداف، في مقدمتها الحفاظ على التراث الموسيقي القسنطيني، الذي يشمل المالوف والحوزي والزجل والعروبي وغيرها، وذلك من خلال الحرص على التكوين المتواصل صد تكريس هذا الفن بين الأجيال، وكذلك تسجيله وحفظه من خلال ألبومات موسيقية، والتي تخصص لها الجمعية ميزانية مهمة.
وأوضح، أنه سبق تسجيل ألبومين الأول سنة 2004، والثاني سنة 2012، ويتم حاليا العمل على تسجيل ألبوم ثالث، في نوبة رمل ماية العيساوية، يضم أغان مثل " ألف يا سلطاني، ومصطفي يا ممجد، وقلبي أنظر"، وهي ألوان موسيقية قسنطينية اندثرت، بعد غلق الزوايا ووفاة بعض المشايخ على غرار سليم مزهود، وعبد الرحمن قرعيشي وزين الدين بوعبدالله، وكلهم سبق أن قدموا يد العون للجمعية كما أكد.
وعن مدى الإقبال على الانخراط في المؤسسة الثقافية الموسيقية، أوضح محدثنا، أنه كبير جدا لدرجة أن الجمعية لم تعد تلبي كل الطلبات نتيجة عدم القدرة على استيعاب كل العدد، خاصة وأنها لا تمتلك مقرا وإنما تنشط بدار الشباب بسطح المنصورة، أين يفتح المدير توفيق بولخراش، الأبواب أمام الأعضاء والمنتسبين لمقام للتعلم والعزف والتكوين، مؤكدا بأن الرجل قدم الكثير للجمعية واحتضنها منذ سنة 2008، لأجل أن تزدهر وتستمر.
أسماء بوقرن