سطر الشهيد محمد سعيداني بن رابح، في صبيحة 26 جانفي 1957، اسمه بأحرف من ذهب في سجلات التضحية والنضال، حيث كان هذا الرجل، الذي اتخذ من حب الوطن نبراسا ومن الشهادة غاية، العقل المدبر والمنفذ لإحدى أهم العمليات الفدائية التي شهدتها مدينة الميلية أثناء الثورة التحريرية، في مكتب العقيد «جرمان فور» رئيس بلدية الميلية يوم 26 جانفي 1957.
لم يكن ذلك اليوم من شهر يناير مجرد محطة عابرة في مسيرة الكفاح، بل كان شاهدا على شجاعة استثنائية وتخطيط محكم جسده سعيداني محمد بن رابح في وجه آلة القمع الاستعمارية، لنستذكر اليوم تلك الملحمة بعد 68 عاما، خلد خلالها اسم الشهيد وظل ملهما للأجيال، ورمزا للتضحية من أجل الحرية والكرامة.
حنكة في التخطيط الاستراتيجي
وُلد الشهيد سعيداني محمد بن رابح في قرية أولاد الصالح، شرق مدينة الميلية، وهي المنطقة التي كانت ملاذا للأبطال والمناضلين في فترة الاستعمار الفرنسي، واحتضنت الثورة بشجاعة وإصرار، حيث عرفت هذه المنطقة بكثافة غاباتها وشعابها الوعرة التي جعلت منها نقطة انطلاق للثوار الذين كانوا يتنقلون بأمان بين التضاريس الجغرافية الوعرة.
أوكلت للشهيد مهمة تنفيذ عملية نوعية ضد أحد أبرز رموز الاستعمار الفرنسي في المنطقة، وهو العقيد جرمان فور، رئيس بلدية الميلية المختلطة، الذي كان يتمتع بسمعة دموية، حيث نصب نفسه حاكما مستبدا للمنطقة، وكان يشرف على تنفيذ العديد من الجرائم بحق الشعب الجزائري الأعزل. وقد كان هذا الهدف هو الأكثر إلحاحا بالنسبة للثوار في تلك الفترة، لكونه رمزا لهيمنة الاحتلال الفرنسي.
كانت العملية تتطلب تخطيطا محكما ودقة شديدة نظرا لحراسة برج الحاكم من قبل مجموعة فرنسية مدججة بالسلاح، فضلا عن الأسلاك الشائكة وكلاب الحراسة التي كانت تحيط بالمكان.
رغم كل هذه التدابير الأمنية، استطاع سعيداني، أن يتسلل إلى برج الحاكم بهوية مزورة، وهو تكتيك كان يعتمد عليه العديد من المجاهدين لضمان عدم الكشف عن هويتهم الحقيقية، وفق ما رواه ابن عم الشهيد الأستاذ حسين سعيداني.
الحادية عشرة والنصف صباحا.. وقت تنفيذ المهمة
في صباح يوم 26 جانفي، بدأ البطل التحضير لتنفيذ مهمته، حيث تحرك بسرية تامة، متسللا إلى المدينة أين قضى بعض الوقت في منزل عمه محمد بن بوخميس في حي عجنق، وهناك كان يخطط ويجمع معلومات حول حركة العقيد فور، ثم توجه إلى متجر عمه الذي كان يقع بالقرب من مركز التعذيب الفرنسي، وكانت تتم هناك عمليات التحقيق والاستنطاق في عهد الاحتلال، و بعد أن استعرض الأوضاع بعناية، قرر سعيداني التحرك نحو الهدف.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف صباحا، عندما وصل البطل إلى برج الحاكم، ودخل إلى المكان في هدوء تام متظاهرا بأنه يعاني من ألم في جسده، مما جعله يمر عبر نقاط التفتيش دون أن يثير الشكوك.
في تلك اللحظة، أظهر البطل مهارة فائقة في التنقل بين الحراس، حتى وصل إلى مكتب العقيد فور، وفي لحظة حاسمة ظهر سعيداني أمام العقيد فور، الذي كان يستعد لمغادرة مكتبه، وأخبره أنه من فصيلة المغاوير الأبطال، وأن الثورة التحريرية المباركة قد حكمت عليه بالإعدام وأنه جاء لتنفيذ هذا الحكم، الذي هو من إرادة الشعب الجزائري، وإرادة الشعب من إرادة الله.
لم يترك البطل المجال للطاغية الفرنسي للرد، بل أمطره بثلاث رصاصات قاتلة من مسدسه عيار 11 ملم، لتخترق الرصاصات جسده، استقرت الأولى في صدره، والثانية في رئتيه، والثالثة مزقت كبده، مما أدى إلى سقوطه أرضا، فتركه يسبح في دمائه ثم غادر المكان سريعا متوجها نحو الحديقة العمومية التي أصبحت حاليا تحمل اسمه تكريما له. لكن النهاية لم تكن كما كان يأمل الشهيد، فرغم براعة التخطيط والتنفيذ، إلا أن الحظ لم يكن في صالحه، فقد تم رصد تحركاته من قبل الحراس الذين أطلقوا عليه النار أثناء محاولة الهروب، ليلقى حتفه بالقرب من شارع أول نوفمبر، عند تقاطع مركز الحنطة وسقط هناك شهيدا، تاركا وراءه قصة ملهمة لا تنسى عن الشجاعة والتضحية. وذكرت صحيفة
«لا ديبايش» في 27 جانفي 1957، أن العقيد تم نقله فورا إلى المستشفى على وجه السرعة بعد إصابته، وأنه خضع لعملية جراحية لاستخراج الرصاصات التي اخترقته، لكنه فارق الحياة متأثرا بجراحه. كما أكدت الصحيفة، أن العمليات الأمنية لم تتمكن من كشف هوية القاتل في البداية، إذ كانت الوثائق التي يحملها مزورة، ورغم أنه كان قد استخدم اسما مزورا في تحركاته داخل المدينة، فإن الأجهزة الأمنية الفرنسية كشفت في النهاية من خلال تقارير الدرك أن منفذ العملية كان ينتمي إلى عائلة سعيداني من دوار أولاد قاسم. رغم تعقيد العملية وصعوباتها، إلا أنها كانت نموذجا فريدا لشجاعة الفدائيين الجزائريين، باعتبارها من أكبر وأخطر العمليات الفدائية التي نفذت خلال الثورة، وقد استطاع سعيداني خلالها أن يخترق أعمق نقاط الأمن الفرنسي، مما جعلها عملية نوعية تحظى بمكانة خاصة في ذاكرة النضالية. وقد جسد سعيداني في تلك اللحظات أسمى معاني البطولة والفداء، حيث أصر على تنفيذ المهمة حتى النهاية، رغم كل المخاطر التي كانت تحيط به، وترك الشهيد سعيداني محمد بن رابح إرثا كبيرا للأجيال القادمة، فقد كانت عمليات مثل التي قام بها تتطلب تضحية عظيمة، ولا يزال يوم 26 جانفي، ذكرى سنوية تحيي التزامه تجاه الوطن، لتظل قصته خالدة في قلوب من يعرفها من الجزائريين الذين يتفاخرون بتضحيات الأجداد.
ردة فعل الاستدمار على مقتل العميد جرمان فور
عايش الشهيد مجازر 8 ماي 1945، وهو عامل كان له دور كبير في تشكيل شخصيته النضالية التي تبلورت جيدا مع سنة 1949، بعد أن كان مطاردا من البوليس الفرنسي وهروبه إلى عنابة ومنها إلى فرنسا، وهو ما أكدته السنوات اللاحقة التي بينت قدرة سعيداني محمد الكبيرة على المناورة، حيث أصبح يتنقل باسم مستعار وبهوية مزورة هروبا من البوليس الفرنسي الذي كان يطارده ولم يتمكن أبدا من القبض عليه.
أثار نبأ اغتيال المجرم جرمان فور، غضبا وحزنا عميقين واندهاشا كبيرا وحسرة لا توصف في أوساط العدو الفرنسي المحتل، الذي أصابته الضربة في مقتل، ففي مدينة الميلية، وبمجرد سماع خبر الاغتيال، تنقل الجنرال سوفينياك قائد المنطقة العسكرية وكافة التشكيلات العسكرية البرية والجوية والبحرية، مرفوقا بأقرب مساعديه إلى برج الحاكم للاطلاع على حالة المعني الصحية، وقد ظل مرافقا له في المستشفى إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أجريت له عملية جراحية فاشلة.
وانتشر خبر الاغتيال بسرعة البرق، وخرجت عناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية من جحورها وطوقت المنطقة وأغلقت المداخل والمخارج، وأخرجت المواطنين الجزائريين المسلمين من بيوتهم ومحلاتهم وجمعتهم في ساحة الشهداء حاليا، وكان عددهم حسب التقديرات أربعة آلاف مواطن جزائري تعرضوا للضرب واللكم بالعصي والهراوات الخشبية والحديدية، الأمر الذي أوقع بينهم مصابين، بعضهم كانت إصاباتهم خطيرة في الدماغ والوجه والعيون وفي الأطراف العلوية والسفلية.
وقد استدعى الأمر نقل عدد كبير منهم إلى المستشفى، أين رفضت إدارة المستشفى استقبالهم ومعالجتهم، ووجهت إلى بعضهم تهمة التآمر على أمن فرنسا والتخابر مع المجاهدين وإخفائهم في منازلهم، وهددتهم بالقتل الجماعي إذا لم يتعاونوا معها في كشف عن مخابئ المجاهدين، وكانت تنتظر الإشارة فقط لسحقهم.
وفي خضم تساؤلات كثيرة، جاءت سيارة جيب من صنع أمريكي حاملة جثة رجل عليها آثار الضرب وبقايا دم ورمتها أمام قاعة الحفلات مقر بنك الفلاحة الريفية حاليا، بساحة الشهداء، وعرضتها على المواطنين، وطلبت منهم كافة المعلومات المتعلقة بصاحب الجثة ولقبه والمنطقة التي ينحدر منها وأقاربه ومعارفه.
وقد أجمع المواطنون أن الفاعل غير معروف في المنطقة ولا ينتمي إليها فجن جنون رجال المخابرات العسكرية والضباط والعساكر، وزاد تكالبهم على المواطنين فأشبعوهم ضربا بالهراوات والعصي ومقابض بنادقهم، لكن أحد الخونة الذين باعوا ضمائرهم للشيطنة الفرنسية دلهم على اسمه الحقيقي ولقبه وزودهم بكافة المعلومات الخاصة به، وكذلك على مكان تواجد محل عمه التجاري ومسكنه، حينها سارعت قوات الأمن العسكري التابعة للمكتب الخامس ورجال الجندرمة إلى تطويق متجر عمه ثم تحطيم وتكسير الباب الخارجي وتفتيشه وإفراغه من كل محتوياته واستولت على مجموعة من الوثائق لا يعرف محتوها.
توجه العساكر بعد ذلك إلى مسكنه بحي عجنق العتيق، وطوقوه من الخارج ثم داهموا المكان وفتشوه وألقوا القبض على عمه محمد سعيداني، وأخذوه معهم وزجوا به في السجن بمركز التعذيب والاستنطاق التابع للمكتب الخامس الموجود بمحاذاة ثكنة الجندرمة بوسط مدينة الميلية، أين تعرض لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل والاستنطاق لمدة سنة كاملة، ولما فشل العسكر في الحصول على معلومات منه قاموا بنقله رفقة أربعة مجاهدين إلى أعالي جبال مشاط، ولما أوصلوهم إلى منطقة أسردون، قاموا برميهم في حفرة وقتلوهم جماعيا إعداما بالرصاص.
وبعد مغادرتهم المنطقة، اكتشف المواطنون المجزرة ثم أعادوا دفن الشهداء من جديد، وبعد الاستقلال تم نقل الرفات وإعادة دفن المعنيين في مقبرة الشهداء بالميلية.
أما في قسنطينة، وبمجرد سماع نبأ اغتيال العقيد جرمان فور في مكتبه على يد الفدائي سعيداني محمد العربي المسلم، تنقل المجرم موريس بابا، عامل عمالة قسنطينة ممثل السلطة السياسية الفرنسية، على جناح السرعة على متن طائرة عمودية خاصة تابعة للقوات الجوية المسلحة، إلى مطار أم الحنوش العسكري بمدينة الميلية، ومنه مباشرة إلى المستشفى لينحني أمام جثمان الطاغية جرمان فور، ثم عقد اجتماعا تنسيقيا أمنيا بمقر الحصن العسكري حضره الجنرال سوفينياك وكافة القادة العسكريين من مختلف التشكيلات العسكرية.
لينة دلول