دخل الإعلام العبري منذ أسبوع، في حالة هستيريا مع بداية تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة الهدنة مع حماس. تصريحات عدوانية وتحريض واضح على مواصلة الإبادة وخرق الاتفاقية طبعا مختلف بلاطوهات التحليل الصهيونية، التي وصفت الاتفاق بـ« الهزيمة» خصوصا عقب الصدمات المتتالية التي خلفتها مشاهد تحرير الأسيرات الإسرائيليات وسط دعاية مضادة نسفت الأكاذيب، وكشفت عن تفوق استراتيجي واضح لذراع حماس الإعلامي، حيث برعت الحركة في توظيف الحدث، لتؤكد تقدمها بخطوات في حرب الصورة التي يبدو أن إسرائيل قد خسرت أهم معاركها.
« تويوتا» و « كيس الهدايا»
يلوحن بأيديهن مبتسمات، هندامهن نظيف ومرتب يرتدين بدلات خضراء وزهرية، ويحملن كيسا ورقيا سمي « كيس الهدايا»، هكذا ظهرت الأسيرات الإسرائيليات اللواتي تم الإفراج عنهن خلال الأيام القليلة الماضية من قبل حركة حماس، التي سددت ضربة إعلامية أقوى هذه المرة للكيان الصهيوني، بعدما كانت قد أصابته في مقتل قبل أشهر ماضية، وتركته ينزف لأسابيع خلال تسليم أولى دفعات الأسرى، وما أثارته آنذاك مشاهد الانسجام بينهم وبين « وحدة الظل» المسؤولة عن حمايتهم، من ضجة عالمية حركها هاشتاغ «باي مايا».
انتكاسة ثانية يتجرع مرارتها إعلام الكيان، الذي يجتر منذ أيام خطابا همجيا يحرض على خرق الاتفاق ومواصلة حرب الإبادة، فمع انتشار أول مشاهد تحرير الأسيرات الثلاث رومي جونين وإميلي دماري، ودورون شطنبر خير، في 19 جانفي الجاري شنت بلاطوهات التحليل حملة مسعورة على حماس، واتهامها بـ «الاستغلال الساخر للمحتجزات»، خصوصا بعدما ظهرن وهن يرتدين سلسلة تحمل علم فلسطين، ويحملن ما وصف بـ« كيس المفاجآت السخيف».
ولم تهدأ آلة الدعاية الصهيونية طيلة يومين كاملين، إلى أن تم الكشف عن محتويات الكيس، الذي ظل الحديث عنه مستمرا لدرجة أنه غطى على الموضوع الرئيسي وهو تحرير المحتجزات،ليتضح في النهاية أنه تضمن شهادة تحرير من الأسر، و صورا للمحتجزات خلال فترة تواجدهن لدى حماس، فضلا عن خريطة لقطاع غزة و سلسة على شكل خارطة القطاع».
ولم يكن مظهر الأسيرات و سلوكهن هو فقط ما أزعج إعلام العدو، بل تسببت الأسلحة و سيارة « التيوتا» التي استخدمتها عناصر حماس للاستعراض، في أزمة داخل البيت الصهيوني المفخخ حاليا، إذ اتهمت وسائل الإعلام نتنياهو وجيشه بـ «الفشل الذريع»، ووصفت الصفقة بأنها « هزيمة»، وتساءل المحللون في البرامج العبرية عن حقيقة انهزام حماس، وكيف تملك هذا النوع من السلاح والعدة رغم كل القنابل التي ألقيت على غزة، وما إذا كانت لا تزال صامدة لوجيستيكيا.
«ليست صفقة منتصرين»
وقال محللون إسرائيليون « ماذا كانت قواتنا تفعل في القطاع الملعون طيلة 471 يوما، لماذا قتل منا أكثر من 800 جندي، و ما الذي تحقق في بيت حانون و جباليا، لماذا لم نقض على حماس، مازالوا هناك ... ومعهم سلاح وسيارات النقل، مع ربطات الرأس والأعلام وكل شيء».
كما هاجم محلل عسكري الجيش:«هل نجحنا في تغيير المعادلات، هل صاحب البيت فعلا جن جنونه، للأسف الجواب هو لا العالم ما يزال كما هو غزة نفسها غزة و المعادلات نفسها أيضا». مواصلا:« من الناحية العسكرية يجب أن نعترف بالحقيقة كان يجب أن نحقق نتائج أحسن أمام حماس، وكذلك استخباراتيا كان يجب أن نعيد المختطفين وتفكيك حماس ... لا أعرف قوات أخرى في العالم ألقت عددا كبيرا من القنابل في مساحة أرض صغيرة.... جيش منتصر كان يجب أن يحقق نتائج أفضل، هذه ليست صفقة منتصرين».
كما طلب إسرائيليون عبر وسائل إعلام عبرية، بإقالة قيادة الجيش الحالية واستبدالها بقيادة أخرى تواصل الحرب.
رسائل انتصار من تحت الأرض
خرج الملثمون أخيرا من أنفاقهم أين كانوا مرابطين لأكثر من 470 يوما، و في موكب مهيب تم تسليم الدفعة الثانية من الأسيرات، وتعلق الأمر هذه المرة بأربع مجندات هن دانييل جلبوع، وكارينا أرئيف، وليري ألباغ، ونعمة ليفي.
و مجددا استطاعت حماس أن تكسب المعركة النفسية والإعلامية، حيث مررت رسائل قوية عن التعامل الإنساني مع المحتجزات اللواتي تم استقبالهن من قبل حشد من المواطنين ووسط انتشار قوي لعناصر حماس المدججة بأسلحة غنمتها من آلة الدمار الإسرائيلية، وهو أيضا مشهد أشعل فتيل الغضب والقهر وسط الإعلام الصهيوني الذي عجز عن هضم تلك الصور.
المحتجزات اللواتي ارتدين زي حماس العسكري، وتزين بقلادة تحمل علم فلسطين، وحملن نفس كيس الهدايا، بدين في حالة صحية جيدة جيدا، وكانت الابتسامة عريضة على وجوههن وهن يصعدن إلى منصة مراسيم التسليم التي خصصتها لهن كتائب القسام وسرايا القدس، ليحين الحشود التي تجمعت في ميدان فلسطين، لحضور لحظة التسليم التاريخية.
وصف إعلام العدو المشاهد بـ « الغصة»، وعلق صحفي إسرائيلي على القناة 14، على الصورة قائلا « إنها صورة ممتازة لهم»، أما شبكة سي إن إن، فقد ذكرت في تقرير لها «حماس بدت وهي تحاول إظهار أنها لا تزال تسيطر بشكل كبير على غزة رغم ما تعرضت له خلال الحرب، عملية تسليم الرهائن اليوم السبت كانت الأكثر تنظيما حتى الآن من جانب حمـاس».
فجوة أخلاقية
وقد شكل ظهور المجندات المحتجزات وهن بحالة جيدة ويلوحن بأيديهن قبل الصعود إلى سيارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، صدمة أخرى للكيان وإعلامه، لأن تلك المشاهد التي تداولها العالم بأسره بينت أخلاق حماس وإنسانيتها في التعامل مع المحتجزين لديها.
على النقيض تماما، تداولت وسائل إعلام وناشطون على مواقع التواصل، صورا مغايرة تظهر المعاملة الهمجية وغير الإنسانية للأسرى الفلسطينيين الذين تحرروا من سجون الاحتلال، فالإدارة الصهيونية قابلت التفوق الإعلامي لحماس خلال تنفيذ الصفقة، بانتقام من الأسرى الذين أخرت الإفراج عنهم بحوالي 24 ساعة، ولم يتم إطلاق البعض إلا فجرا على غرار الأسيرة الطفلة دنيا شتية.
أما بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي السابق و اليميني المتطرف، فقد علق للأسرى الفلسطينيين على أبواب سجن عوفر، لافتات حملت عبارات تهديد اقتبسها من التوارة، كما أوضحته وسائل إعلام صهيونية، وقد جاء فيها « الشعب الأبدي لا ينسى. أطارد أعدائي وأمسك بهم».
كما انتشرت على مواقع التواصل صور تقارن بين حالة الأسرى من الطرفين، ففي وقت ظهرت المحتجزات الإسرائيليات بحالة جيدة، كانت وضعية الأسيرة الفلسطينية القيادية خالدة جرار سيئة جدا، بسبب التعذيب و الحجز الانفرادي و التجويع، وكانت الأسيرة قد علقت بعد تحريرها أن « إسرائيل لا تعامل الأسرى لديها كبشر»، وصفت أوضاع السجون في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنها الأسوأ منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967.
وفي وقت حول الإعلام الغربي تفسير سلوك المحتجزات الإسرائيليات من منظور نفسي وصل حد توظيف بعض النظريات النفسية مثل متلازمة « ستوكهولم» وغيرها، كانت المشاهد الواقعية لتحرير المحتجزات معبرة وبليغة ولا تحتاج إلى ترجمة، فلمعت بذلك صورة حماس على المستوى الشعبي بحسب ما يعكسه التفاعل على منصات التواصل، خصوصا منصة إكس، حيث يجمع المغردون على أن حماس قدمت صورة عن أخلاق الإسلام وقد تم تداول الآية القرآنية:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) على نطاق واسع رفقة صور الأسيرات وهن يلوحن بفرح.
نور الهدى طابي