تمنحُ المنصّات الالكترونيّة فضاءً جديدًا للأدب يقرّبه من جمهورٍ لم يكن من هواة الكتب بالضرورة، لكنّها تحرّره، بالمقابل، من قواعد الكتابة وشروطها الفنيّة، فتنسفُ التقاليد التي راكمتها السلالاتُ الكاتبة على مرّ الأزمنة، بل وتستهدف "القيمة" حين تستبدلها بمعيار الانتشار، فتصبح المُشاهدات والقراءات المليونيّة عنوانًا للنّجاح باتت تستندُ إليه حتى دور النّشر العريقة والصّحافة المتخفّفة من جديّتها في بحثها عن مكانٍ في مأدبةِ اللّئام الالكترونيّة، متأثرة بالعائدات الماليّة الكبيرة التي يحقّقها أدب المنصّات منزوع الفنّ.
إنّنا باختصار أمام إشكاليّة جديدة يطرحها التطوّر التكنولوجي في حضارة السّوق التي تتجه نحو جعل الذّكاء الاصطناعي القوّة المنتجة الأولى للسلع والأفكار، وحتى النشاطات الفنيّة التي ارتبطت بعبقرية الإنسان، فسيّد الأوان "شات جي بي تي" مثلا، لا يردّ دعوةَ داعٍ إلى كتابة القصائد والقصص وإعداد الأطروحات النقدية، وربما كتب مستقبلا الروايات الأكثـر مبيعًا، ويبقى السؤال المحرج حول كيفيّة استفادة الأعمال ذات القيمة من منصّات تتغذّى على تفاعلات جمهور الإثارة.
في المجال الأدبي، يبدو تحمّس حرّاس المعبد من نقاد وإعلاميين مختصّين لما يتحمّس له الجمهور سلوكًا مخيفًا، خصوصًا حين يرتبط بخطابات الحريّة و التجاوز و الاختراق والعالميّة.. و غيرها من التبريرات التي تُساق في معرض امتداحِ أعمال جماهيرية من دون قيمةٍ فنيّة، لأنّ ذلك يخدم فوضى النشر ويعزّز التجاسر على الآداب والفنون الذي لا يحتاجُ إلى تعزيز في عصرنا السعيد هذا.
وبقدر ما تخدم الفضاءات الالكترونيّة الآداب والفنون وتمنحها حياة جديدة، فإنها تميّع عمليّة النّشر وتقتل النّاشر، فيحجب العملُ المبتذل العملَ الرصينَ، و تُخفي الإثارةُ القيمةَ.
ولا تتعلّق إثارة هذه المخاوف، بدعوة إلى منع أيّ عمل أو بحنين إلى منظومةٍ تقليدية، بل بإبراز الحاجة إلى تمكين الأثر القيّم وغير الرائج من فضاءات العصر وأسباب الانتشار، وهذا الجهد لا يمكن أن تنهض به سوى الهيئات العامة والدول أو مؤسّسات خاصّة لا تحسب الرّبح بعائداته الماديّة فحسب، وهو قبل ذلك وبعده هاجسٌ يفترضُ أن يشغل النّخب حتى لا تتيه في البراري الالكترونيّة وتختلط ُخطواتُها وأصواتُها بخطواتِ وأصواتِ الغوغاءِ!
سليم بوفنداسة