خرج من المعترك منهكا. لم يعبّر عن حسرة، لأن الحسرة تمتلك أدوات التعبير عن نفسها.
و اكتفى بوصية كما يفعل الراحلون المعذبون بلسعات الشك و آلامه القاسية. وقف ينظر إلى تاريخه الطويل الذي ينساب بجواره كنهر. تذكر صرخة هنري ميلر القديمة: أتشرّف بعدم الانتساب إلى هذا القرن. ضحك في سرّه. لا يسعدني الانتساب إلى هذا القرن، ليتني أغمضت عيني كي لا أرى أحلامي التي تجري في النهر بما لا ينفع.
ازدحمت صور بالأبيض والأسود في رأسه. من وهران كما وردت في طاعون كامي إلى القاهرة و باندونغ ونيويورك ثم الجزائر. تذكر سجون “لاسنتي” و “لامبيز” والحراش. داهمته وجوه الأصدقاء. أحسّ برجفة في أطرافه. تحسّس وجهه. لازلتُ حيّا قال. هذا مذاق الريح في فمي وهذه رائحة الرمل في يدي. الحياة جميلة حقّا وأجمل ما فيها أنّها تهبك السأم في نهاية الأمر كلّه.
عاودته رغبة عمياء في الكتابة. كثيرا ما يحسد الذين كرّسوا حياتهم للكتابة وأعرضوا عن سواها. الكتابة حياة أخرى تجنّبك الخوض في الوحل. مجرد انتباه عذب. نظرة بطرف العين إلى شيء يعنيك لتوهمه بأنه لا يعنيك وتوهم نفسك بذلك. عبث. تمرين على عدم الاكتراث. ربما كان الصعلوك الأمريكيّ على حق حين هجا قرنه وكتب زمنه الخاص. أما الشعوب فإنها كالنساء، تنساك حين لا تصير في حاجة إليك وتشتدّ حاجتك إليها. الشعوب تحتاج إلى من يعذبها وليس إلى من يلهمها. ربما صار زمن الملهمين من الماضي البعيد. يا لي من شجرة عتيقة. يا لي من باتريارك تعيس بدأ المريدون ينفضّون من حوله. سأعاقبهم جميعا بغيابي. لن أدع الغياب يلعب لعبته معي. سأكون أنا من يدير اللعبة كما كنت أفعل دوما. سأطيل المنفى. سأتوارى في نفسي وأنسى أني كنت أحلم حلما جماعيا منذ ما يزيد عن سبعين عاما.
سبعون عاما يا إلهي. سبعون في الانتباه إلى ما يعتري هذه التخوم. دون أن تنصفني أرض القساة. سأصمت الآن وأكتفي بما بنيتُ في قلبي.
ملحوظة
يبدو خروج حسين آيت أحمد من المعترك السياسي الجزائري أشبه ما يكون بمأساة إغريقية.
وأقسى من خروجه، الصمت الذي قوبل به صمته.
نُشر يوم 28 ماي 2013
سليم بوفنداسة