الشعر كاحتفاء بالخسارات، كاحتفال بالحياة
لابد للشعر أن يبقى على قيد الحياة، أن يبقى ابن الحلم تارة و الوهم تارة أخرى، لذلك كانت كل كتابات وأعمال الشاعر العربي اللبناني-جوزيف حرب- بدورها مفتوحة على كتابة ثانية بالمعنى الدينامي،أين تتصافح فيها إشكالات الكتابة الشعرية و السردية، كلما هيمن الشعر أكثر و تحكم و أوثق.
من هذا الأقنوم كان جوزيف حرب حارس ضد فضاضة الطبع و صنو الجسد القادر على ارتجال مباهجه و الاحتفاء أيضا بالخسارات غير المرتقبة دون إحياء كاذب أو ادعاء شجاعة.
وتتميز أشعارحرب بالكلمات المؤثرة الرومانسية، كلمات يملؤها الحزن و العاطفة و الشعور بالوحدة و الوحشة- طالع مثلا رائعة ورقوا لاصفر شهر أيلول - و هذا مقتطف من نص – لما عالباب – و الذي غنته السيدة فيروز
بيسكرني
شوفك ماشي عالطريق/فكر انزل اركض خلفك عالطريق/و تشتي علي ما تشوفك عيني
وأنا اركض وراءك أمدلك أيدي
واندهلك و انظرني حبيبي... و ماتسمع
وكان لا تمر أغنية لفيروز مرور الكرام بلا كلمات ينسجها الشاعر جوزيف حرب،،،و كحياته تماما لم يكن جوزيف ليقف في مكان وسط من الخيارات ، إذ كانت قصائده تتسع لتملأ آلاف الصفحات كما في معلقته – المحبرة – الأكثر طولا في الشعر العربي، فالرجل يملك مخيلة برية لا تكف أحصنتها عن الركض في الأماكن غير المأهولة بالكلمات... شعره حصيلة تلاقح بين ضوء الشمس و طراوة الينابيع، بين الصور المباغتة و الإيقاعات المتوهجة كالنايات ، انه استنفار للحواس و انتشاء بفويضات الروح ، بفرح العالم و خفة عناصره التكوينية ، انبثاق دائم الحركة الخلق و العودة المستمرة إلى كنف الطبيعة مرفدة القصائد بكل ما تحتاجه من صور و أطياف و تجليات.
شاعرية جوزيف حرب أكثر اتصالا بالكثافة و الإبهار و البراعة المشهدية الخاطفة تتمثل في مقطوعاته القصيرة يقول:
الريح ناي/والبحر سهل ازرق/ونوارس بيضاءظنت أن هذا الغيم/بدو في الغروب تربعوا
وانظر ماذا فعل هذا الرجل في ديوانه الأخير-زرتك قصيت..فليت ناي – لقد غيب انتباه المتلقي بتماسكه الجمالي المحكم ..بحركة المفارقة التي تتشكل على عميلة التضاد بين القصبة الجامدة الصماء و آلة الناي الصادحة الناطقة ، و كأنها عملية إحياء جديدة تحصل على يد المحبوب الذي نفخ الروح في جسد الشاعر ، وهو ما افتتح به مولانا جلال الدين الرومي عمله الرائع// المثنوى// من حديث رائع وفلسفي عن الناي – أصغ إلى الناي و اسمع ما يحدثك به، ما ذلك الشيء الذي يصد عن الناي فيستبد بنفسك و يتخلل وجدانك—ثم يقدم مثالا: الناي تلك القطعة من القصب التي قطعت من أصلها ، له قصة يريد أن يحكيها ، انه مجوف، قلبه فارغ ، لكن لفراغه صنعت عدة ثقوب إلى قلبه، ليقدم كل النغمات ، يقول الرومي:-- ولمن هذا الناي وأين مغنيه – إن الأول تحت شفتي المعشوق و الآخر للعالم خارجا ، ولك أن تحل اللغز، هذا الانفعال المسرف ليس مذموما ولا فائضا، بل انفعال ضروري للامساك بما يسمى « اللحظة الفائقة» أين تتركز أقصى قوى النفس للالتحام بالظواهر الجزئية ، و إخراج الكثير من التجليات و الإيحاءات الحسية و الروحية، و ذلك مع العابر لا مع المطلق و هي التي تجعل عيني الشاعر تغرورقان بالدموع، دموع الخشوع و الرهبنة، يعتزل العالم ليصل إلى روح الخالق و عظمته وهو ما يصوره الشاعر – جوزيف حرب- في قصيدة عصفورة:
بتمحي الخطايا السود انك تسمعها
بتشفي الصدر من البغض
لا بتضل طماعة
و لا مغدورة
في صوت عصفورة
كأن الأرض مسحورة .
الشاعر – جوزيف حرب- الذي قلب* أوراق الزمن المر * الشاعر الارستقراطي في صومعة الشعر على سن الرمح، ينشر في قصائده جمر الرماد على ملح اللغة لتكون مطواعة بين يديه و يفتح شبابيك مفرداتها عل حقول اللوز، كان من الممكن أن يكون مؤرخا آو فيلسوفا آو باحثا في التراث، لكنه اختار الشعر بوجهيه الشعبي و الفصيح ليتربع آو يحتل فيه مكانة علية حتى لتحتار أي وجه فيه تحب، وهو الإنسان الذي عاش حياة ينزع فيها إلى العصامية و في كثير من الأحيان إلى * الاعتزالية* إلا مع الحبر و الكتابة وهو الذي أعطى لفيروز أجمل الأغاني التي صاحبت صباحات الناس بكثير من الحميمية و الشغف و الجمال .
انه العمر و إن كان دفع بعض الشعراء إلى ذهنية الهدوء و منطقية نادرة الحرارة – حتى بشكل نسبي – قادرا على أن يدفع بالمشاعر الحزينة الموجعة في دفئها تسري في عدد كبير من قصائده، و هو ما يتجلى في مجموعته الشعرية ، الصادرة عن دار رياض الريس للكتب و النشر ، إذ يقول:
عندما قلنا لموتانا
انهضوا / إنا كشفنا سر / هذا الموت في الأرض أخيرا
نهضوا
لم يجدوا الأبيض فينا / لم نكن أجنحة أو دويات
لم نكن ماء أيادينا و لا كنا طحينا / أو بنفسج ....
كماي قدم الشاعر في مجموعته * كم قديما غدا*قصائد تراوح في شعريتها بين مؤثر موح و رومانسي في حزنه، و بين أخرى تبدو ميكانيكية منسوجة بشكل منطقي آلي، و المجموعة تختلف من حيث النمط و المحتوى الفكري عن نتاجه السابق في سيطرة جو الحزن و سمات الرومانسية مع نماذج أخرى يطل منها جو الآلية المدروسة الباردة ، يقول في قصيدة - ياسمينة - :
عند سياج بيتي/ ياسمينة
اقطف زهرها الزبدي/لنهدي
جارتي/ و نبيذها الأسود
يا جارتي / يا ياسمينتي
مريضة / اغسلي / مطيبات ثيابك
وانشري عليها منهدتك الزرقاء / وحريرتك الصغيرة .
إنه تصوير إنساني جميل حافل بالإيحاء ومشاعر الأسى و الفقد، فهي على نمط قصائد لشعراء سبقوه، كقصيدة – بيتي - لنزار قباني ، وقصيدة – بيت جدي – لبدر شاكر السياب.
وفي آخر مشواره الإبداعي قرر الشاعر التحرر مما يهدر الوقت و الاعتكاف في صومعة النظم، غادر بيروت و صخبها و لم يعد يزورها إلا نادرا أو لطباعة ديوان.
تفرغ للكتابة في قصره الجنوبي على تلة في بلدته المعمرية على الساحل القريب من صيدا ، أين أقام في اللغة و مارس طقوس مقارعة الموت بالقصيدة و الكلمة ، باحثا عن وقت إضافي موازنا بين الزمان و تسارع المكان ، في هذا المكان المقدس لديه، صرح لأحد الصحف العربية « منذ الطفولة يراودني إحساس بأنه لم يبق لي و قت»، لقد فاضت تجربة الشاعر – جوزيف حرب- شعرا وأدبا و ثقافة، وأسهمت قصائده في ترسيخ النمط الشعري اللبناني المغنى ، وارتبطت قصائده بصوت السيدة فيروز و الأستاذ مارسيل خليفة ، وما يلفت النظر هو أن الشاعر الذي اتسع شعره إجمالا بذهنية و منطقية و بلاغية لم تكن يخلو من الدفء في السابق ليصبح مع مر الأيام و السنين أكثر دفئا و حرارة و امتلاءا بالمفجع المحزن مع محافظة جلية على سماته السابقة.
قليلون هم الشعراء الذين سكنوا قلوب عامة الناس و نخبتهم، و قليلون الذين جمعوا بين شعر الفصحى و العامية بمستوى الإبداع ذاته ، لكن – جوزيف حرب – حتما هو واحد منهم، فلغته الشعرية تكاد تكون نفسها في قصائده باللغة الفصحى و العامية، فالصور و الألفاظ و الكلمات مستمدة من حقل واحد: الريف، ذلك الريف بفطرته ونقائه كان دوما مصدر الهام الشاعر ، فأحبه الناس لقربه منهم كما أحبوا رومانسيته و ثورته ووطنيته العارمة، لأنه و بصدق شاعر الغيم متأبطا مسالك الريح، فالطبيعة التي طالما ألهمته احتضنته أخيرا، ليرحل الشاعر عن عمر يناهز 70 سنة ، تاركا إرثا شعريا لن يضيع فيه من جماليات اللغة و الصور و الحنين ما يكفي لإحياء ما تبقى فينا من ذكريات النقاء و الطفولة.