الرواية التاريخية الجزائرية وقعت في مأزق الإجابات القطعية
في هذا الحوار، يتحدث الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري، عن الرواية والتاريخ، وعن علاقة الرواية بالتاريخ ككتابة تخييلية، ورؤية فنية. وعن خطاب التاريخ في التخييل السردي، وكذا عن إشكالية هذه الثنائية الفنية/الأدبية والتاريخية المُربكة في سياقات ومعطيات مختلفة ومتعدّدة. إذ تتجدّد الأسئلة وتتناسل كلما تعلق الأمر بهذه الثنائية.
حاورته/ نـــوّارة لـــحـــرش
فهل مثلا بإمكان الرواية، كتابة التاريخ بعيدا عن تهويمات الفن والخيال. أيضا هل يمكن كتابة رواية تاريخية مُتخففة من إرث الخيال والتخييل، وكيف تنجح الرواية في كتابة أو إعادة كتابة التاريخ؟. وأسئلة أخرى ذات صلة بهذا الشأن، شكلت نص هذا الحوار الّذي تطرق فيه الدكتور بحري، من زاوية نظرته الخاصة لإشكالية فن الرواية والتاريخ، كما تناول بكثير من الطرح والمساءلة إشكالية التاريخ الرسمي والتاريخ المتخيل، الّذي كثيرا ما يكون مُربكا ومرتبكا في المتون الروائية.
فتح المجال للتخييل الروائي للتاريخ لا يتعارض فنياً مع الخصوصية التاريخية
الدكتور بحري، وهو يخوض في هذا الشأن/التاريخي/الروائي. ذهب إلى القول أنّ الرواية التاريخية الجزائرية فيها عِدة طبعات لشخصية واحدة وحدثٌ واحد. متسائلا هنا. «فأي طبعة ستفرض على الجمهور وتُكرس سينمائيا وأكاديمياً (كما يريد بعض الروائيين) على أنّها هي التاريخ». كما تحدث عن ما وراء التاريخ في الرواية الجزائرية. وهو بهذا يفتح أبواب مُساءلة التاريخ في الكتابة الروائية. مؤكدا أنّ التاريخ من منظور روائي ليس هو التاريخ من منظور تاريخي.
كثيرا ما يتم التساؤل عن إشكالية التاريخ والرواية، وكثيرا ما يتم طرح أسئلة مُربكة من قبيل: هل يمكن مساءلة التاريخ في الكتابة الروائية؟
محمّد الأمين بحري: هذه مُساءلة واردة وضرورية. إذ تطرح الرواية التاريخية أسئلة كالتي طرحها مثلا، جورجي زيدان، حول التاريخ الإسلامي الإشكالي، وفُهِم خطأ بأنّه يطعن فيه، فالرواية تثير أسئلة وتفتح أفقاً للتوقع والرؤى ولا تقدم إجابات للقارئ.. حين نتكلم عن التاريخ في رواية ما، حين نكتب عنه، هل يجب أن نفي للتاريخ المرصود في الرواية، أي للواقعة التاريخية موضوع الحديث؟ أم لفن الرواية كتخييل؟ وهل يبيح التخييل الروائي خيانة الحقيقة وانتهاك واقعية الحادثة التاريخية أو الشخصية التاريخية التي يتحدث عنها؟ هل الكتابة التاريخية غاية أم وسيلة لغاية أخرى شخصية؟ هل هو وفيٌ للتاريخ أم للكتابة الروائية أم لنفسه، وما التاريخ والرواية إلاّ غرضان ووسيلتان لبلوغ مآرب أخرى.
التخييل الروائي، يُحدث أحيانا بعض الاختلالات المعرفية التي لا تتماشى والوقائع المُوثقة، وهذا ما يُربك القارئ. كيف تنظر للمسألة. وهل يمكن تزييف التاريخ بسهولة أو مغالطة وقائعه باسم التخييل؟
محمّد الأمين بحري: طبعا هنا. نجد وقوف القارئ على مثل هذه التضاربات والاختلالات المعرفية بين النصين التاريخي والتخييلي عند تسريده في النص. سيتساءل حتماً: هل يبرر التخييل الروائي نقض الوقائع التاريخية المُوثقة بين الشعوب والأمم؟ ثمّ ما موقف هذا القارئ بعد أن يقف على هذا الاختلال المعرفي بين المؤرخ الدارس والموثق للحدث، وبين كاتب الرواية التاريخية الّذي يُوظف أبسط المعارف المُتعلقة بأشهر الأحداث في تاريخ بلده؟
والجواب عن هكذا تساؤل يبدو يسيراً في منظور «جورج لوكاتش» الّذي نبه على ضرورة: «أن تكون الرواية أمينة للتاريخ، بالرغم من بطلها المبتدع وحبكتها المتخيلة». ما يعني استحالة أن يتم تزييف التاريخ أو مغالطة وقائعه باسم التخييل، أو عدم الكفاية المعرفية حول حيثياته، لأنّ التخييل يتم داخل الأحداث ومن حولها دون أن يمس بها كمرجع شائع معرفياً لدى أهله، أي إنّ العلاقة بين التاريخ والإبداع السردي لم تكن يوماً علاقة تضارب أو تنافي، وإنّما على التخييل أن يُكامل جمالياً البُعد المعرفي للتاريخ بكلّ شخصياته وأحداثه إن هو اشتغل عليها، فيكون التاريخ في ضيافة التخييل الإبداعي آمناً ومتناغماً مع جمالياته، وليس منتَهكاً ومُحَرّفاً ومتناقضاً مع مرجعه.
هل بإمكان الرواية، كتابة التاريخ بعيدا عن تهويمات الفن والخيال. بمعنى هل يمكن كتابة رواية تاريخية مُتخففة من إرث الخيال والتخييل، وكيف تنجح الرواية في كتابة أو إعادة كتابة التاريخ؟
محمّد الأمين بحري: بداية، نطرح هذا السؤال: كيف تريد أن تكتب أيّها الروائي عن الإنسان دون أن يُداخل نصك تاريخ هذا الإنسان، بل كيف تتحدث عن فترة زمنية بنص يحتمل بناء زمنياً، ومكانياً، وشخصية تاريخية، ومن دون أن يكون كلامك تاريخياً، إنّ عناصر بناء الرواية (زمن/مكان/ شخصيات/ أحداث) هي بنيات مأخوذة عن التاريخ والواقع بالأساس، لذلك فالرواية دون تاريخ أو رؤية للعالم لا يمكن أن تكون شيئاً. كأنّي بك حذفت فاعلية زمنها ومكانها وشخصياتها وأحداثها وتريدها أن تكون رواية. فكيف يتسنى ذلك؟ إنّ الرواية فنٌ يحوّل الزمن والمكان والأحداث إلى فضاءات حية بإعادة التمثيل، وذات رؤية بالتخييل. وهنا يأتي تعريف «لوكاتش» ليخبرنا بأنّ الرواية التاريخية: «عملٌ فنّي يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنّها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصوّر رؤية الفنّان له». ويضيف محمود أمين العالم بأنّها: «تاريخ متخيّل داخل التاريخ الموضوعي». ويقصد بالتاريخ المُبتدع، القراءة التخييلية للتاريخ والتموقف منه روائياً.
المعرفة بالتاريخ كثقافة ليست كافية لكتابة روائية للتاريخ
لكن حين يقوم الروائي بكتابة تاريخ متخيل في روايته، هل يكون هنا أميناً لفن الرواية بهويته التخييلية، أم للتاريخ الّذي يتمثله فيها؟ وهل هناك من إمكانية ليكون أميناً للجانبين التاريخي والتخييلي؟. يجيب «جورج لوكاتش» في كتابه «الرواية التاريخية» بحزم، مُخاطباً الروائي التاريخي: «تخيل كما شئت لكن لا تخن التاريخ ولا تحرف أحداثه». ما يعني أنّ فتح المجال للتخييل الروائي للتاريخ، لا يتعارض فنياً من حفظ الخصوصية التاريخية المُمثلة. فهل هناك من روائيينا من حفظ خصوصية التاريخي في الرواية، بالرغم من تأثيثها المبتدع وحبكتها المتخيلة؟
هذا يقودنا إلى سؤال آخر يجب أن يُطرح في هذا السياق. وهو سؤال أنماط تمظهر التاريخ في الرواية. فكيف تمظهرت أنماط التاريخ في الرواية؟
محمّد الأمين بحري: أنماط تمظهر التاريخ في الروية كثيرة. إذ يتمظهر التاريخ في الرواية بحسب نمط الرواية التي تتمثله، وهنا يمكن تسجيل بروز ثلاث أنماط من الرواية: أولا: رواية الشخصية التاريخية. ثانيا: رواية الحدث التاريخي، ثالثا: رواية توظف التاريخ بأحداثه وشخصياته دون أن تكون تاريخية النوع والموضوع.
تتميز خصوصية النوع الأوّل (رواية الشخصية التاريخية) بضيق هامش التخييل واتساع مجال التوثيق ومطابقات الوقائع التاريخية، نظراً لكون الشخصية التاريخية هنا جاهزة ومعروفة لدى المثقفين ورائجة لدى الرأي العام، وكلّها عناصر رقابية على ما سيضيفه الروائي لهذه الشخصية الجاهزة. ولن يضيف هنا إلاّ التخييل الحَذِر. لذلك يَقِل هذا النمط الروائي في العالم العربي وفي الجزائر خاصة حيث لا نجد سوى رواية «الأمير» لواسيني و»الرايس» لهاجر قويدري. ويعلم المتابعون، كم الانتقادات التي تلقاها هذان النصان، بحكم وقوعهما في مضيق التخييل الخاص بهذا النوع. ويبدو تورط النصين واضحاً في مأزق السؤال الّذي تطرحه هذه الرواية: ماذا سأضيف من تخييلك لشخصية جاهزة ومؤثثة مسبقًا لدى القُراء؟
أمّا خصوصية النمط الثاني (رواية الحدث التاريخي) فتمنح هامشاً أوسع للتخييل على حساب التوثيق الوقائعي، إذ يمكن للروائي زرع ما لا نهاية من القصص الضمنية، العاطفية والاجتماعية المُتخيلة في ثنايا الأحداث الموصوفة، دون أن يخترق خصوصيتها ولا إحداثياتها التاريخية المعروفة. وهذا ما تفنن فيه روائيون كُثر استهواهم هذا النمط الروائي لِسعة مجال التخييل فيه، ومن بين أبرز الأقلام الروائية الجزائرية في هذا النمط نجد «الطاهر وطار» في «اللاز»، و»الشمعة والدهاليز»، و»محمّد مفلاح» في «خيرة والجبال»، و»الانفجار»، و»هموم الزمن الفلاقي»، و»شعلة المايدة»، و»لحبيب السايح» في «كولونيل الزبربر»، و»إبراهيم وطار» في «مقابر الياسمين».. وغيرهم الكثير.
وفي النمط الثالث (الرواية التي تُوظف التاريخ دون أن تكون تاريخية)، ينفتح القوس بشكل قد يشمل كلّ أنواع الرواية دون استثناء أو حصر، حيث تُرحب كلّ أنماط الروائية بأي خطاب تاريخي يثري متونها.
هناك أسئلة نتجت/ وتنتج عنها مآزق الكتابة التاريخية. هل يمكن أن تحدثنا عن المأزق الأكبر الّذي وقعت فيه الرواية التاريخية الجزائرية مثلا؟
محمّد الأمين بحري: المأزق الأكبر الّذي وقعت فيه الرواية التاريخية الجزائرية هو محاولة إعطاء إجابات قطعية، من خلال بروز المواقف الشخصية للكُتاب، أو ما سميته في مقال سابق التموقف بالتخييل، فهل كُتبت الرواية للإدلاء والتصريح بالمواقف المُعلنة للتاريخ؟. لذلك نقول بأنّنا لم نكتب رواية للتاريخ وإنّما نكتب رواية لأنفسنا عن التاريخ أي نكتب عقدتنا الشخصية تجاه هذا التاريخ. وربّما كانت ضدّ التاريخ، لصناعة مجد دنيوي شخصي على حساب التاريخ الموضوعي المشترك. والسؤال الأكبر هنا.. هل عقدتي الشخصية ككاتب رواية هي تجسيد التاريخ؟ أم هي وهمٌ لا يخص غيري.
ثمّ من هذا الّذي يحاول بث رؤيته التخييلية لشخصية أو حدث تاريخيين، ويحاول فرضها على أنّها هي التاريخ.. وشتان بين العقدة الشخصية تجاه التاريخ والتاريخ الموضوعي الشامل الّذي يعني الجميع الذين يتجاوزون عقدتك التي تطالب بأن تكرسها كحقيقة على أنّها هي التاريخ وهذا السلوك الثقافي هو أكبر مُغالطة، أو وهم.
فقد نجد في الرواية التاريخية الجزائرية عِدة طبعات لشخصية واحدة وحدثٌ واحد فأي طبعة ستفرض على الجمهور وتُكرس سينمائيا وأكاديمياً (كما يريد بعض الروائيين) على أنّها هي التاريخ. ثمّ إنّ التاريخ كعِلم ووثائق وشهادات وأرشيف عجز عن البت في أمور عِدة تخص مسيرات شخصيات تاريخية وأحداث تاريخية، فهل سيفصل فيها عمل تخييلي كالرواية؟ إن لم تكن هذه رؤية شخصية لصاحبها كما أسلفنا، وأي الرؤى هي الأكثر موضوعية وخلواً من الذاتية والتحيّز؟
ألا ترى أنّ أشكال حضور التاريخ في الرواية تتعدّد وتختلف؟ ما الّذي يمكنك قوله في هذا السياق؟
محمّد الأمين بحري: حين يكون التاريخ غاية سردية في حد ذاته نكون بصدد نوع روائي يُسمى الرواية التاريخية، أي حين يستخدم الكاتب كلّ الوسائل الفنية والفكرية والعناصر البنائية والموضوعات والقضايا كوسائل من أجل غاية واحدة هي التاريخي في الرواية. وهنا سيكون العالم السردي بأسره بمثابة وسائل تأثيث وتحقيق لغاية هي الخطاب التاريخي، لنجد الرواية التاريخية بهذا المفهوم تنقسم إلى قسمين: أولا: رواية الشخصية التاريخية وفيها رواية الحدث التاريخي. ثانيا: رواية تُوظف التاريخ وهي تتحدث عن موضوع آخر، دون أن تكون تاريخية. مثل: (ثلاثية أحلام مستغانمي/الثورة- مقتل بوضياف- العشرية السوداء-. روايات الأزمة: بشير مفتي، محمّد ساري).
الرواية تثير أسئلة وتفتح أفقاً للتوقع والرؤى ولا تقدم إجابات للقارئ
أمّا إن كان التاريخ بكلّ أحداثه وشخصياته وعناوينه ورموزه موظفاً في النص السردي من أجل غايات فنية غير تاريخية كأن تكون إيديولوجية أو اجتماعية أو بوليسية أو فنتاستيكية أو ذهنية، فهنا نكون أمام: رواية تشتغل على التاريخ وتوظفه لغايات فنية غير تاريخية، دون أن تكون روائية في حد ذاتها. ولكلّ نوع من هذه الأنواع الثلاثة رهاناته ومحاذيره وأفقه التخييلي.
وهل وفقت الرواية مع التاريخ؟ هل نجح الروائي في إدماج مادة وأحداث وشخصيات التاريخ في المتون السردية؟
محمّد الأمين بحري: نتساءل طبعا: هل وفقت روايتنا مع التاريخ؟. عادة ما يؤدي اندماج الروائي مع الحدث أو الشخصية الروائيين، إلى تضييع مفاتيح التحكم السردي، فنجد السرد التاريخي وقد تحوّل إلى معول يهدم السرد الروائي. في حين نجد الكاتب مزهواً وغائصاً في تعاريج المعرفة والثقافة التاريخيتين. لذلك فالمعرفة بالتاريخ والاطلاع عليه كثقافة ليستا كافيتين لكتابة روائية للتاريخ، بل يجب اكتساب آلية تزمين الزمن، وتجسيد الشخصية ومعايشة الحدث، فنياً. فما معنى المعارف التاريخية إذا لم يفلح الكاتب في المعايشة الفنية لما يكتبه وبث الحياة في التفاصيل ونقلها في صور ومشاهد سردية أصيلة للقراء؟.