لا أعيش من الكتابة وأنا مرتاح لممارستها كهاوٍ
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي الجزائري المعروف، واسيني الأعرج، عن استثماره في التاريخ والشخصيات التاريخية وكذا توظيفه لرسائل الأصدقاء المقربين في نصوصه الروائية، كما يتحدث عن الرواية التاريخية في المشهد الأدبي العربي، وعن مكانتها المستقبلية المأمولة.
حاورته/ نــوّارة لحــرش
وعن رواية «كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد»، التي أثارت الكثير من الجدل حين صدورها. الأعرج، تحدث أيضا عن روايته «أنثى السراب»، التي قال عنها إنّها تعكس الجانب الإنساني لفعل الكتابة وتأثير الحياة الخاصة للأديب في انجازاته الأدبية، مؤكدا أنّها تعكس بعض الجوانب من حياته الخاصة.
كثيرا ما نتساءل عن مدى قدرة الكاتب في استثمار أحداث معينة في كتاباته ورواياته. وهنا تحديدا نسألك بشكل آخر، إلى أي حد يمكن للكاتب أن يلعب بالأحداث وعلى الأحداث؟
واسيني الأعرج: طبعًا هذا بحسب نوع الأحداث، والكاتب من حقه أن يلعب بالأحداث حين يشتغل على نص روائي إبداعي، لكن في النوع التاريخي اللعب صعب نوعًا ما، خاصة الرواية التاريخية، فعندما نتناول شخصية تاريخية لا يمكن أن نلعب أبدا لا بالأحداث ولا على الأحداث. مثلا في رواية «الأمير» التي تناولتُ فيها الأمير عبد القادر، قضيت 4 سنوات وأنا أشتغل فقط على الوثائق وأبحث عن الحقائق. تخيلي، بعد 4 سنوات أو أكثر من الاشتغال على الوثائق تضع كلّ الوثائق على جنب وتبدأ تنسج في رواية، لماذا؟، لأنّ كلّ هذا الاشتغال من أجل رؤية صورة، من أجل أن تعطي صورة أنت تتخيلها ككاتب وكأديب، لكن لا تتخيلها من فراغ إنّما تتخيلها من مجموعة من الحيثيات التاريخية عن حياته ومحيطه ومسيرته وسيرته، وعلاقاته مع أمّه وعائلته ومع محيطه ومع الضُباط الفرنسيين وغيرها. بكلّ تأكيد في الروايات التاريخية، الكاتب دائما عنده مساحة كبيرة وغير محدودة للخلق، لكنه لا يستطيع أن يلعب بالأحداث ولا عليها أبدا.
يعني هذا ما حدث معك في كتابة رواية «الأمير». ألم تكن هناك مساحة ولو صغيرة لهذا النوع من اللعب؟
واسيني الأعرج: أنا ككل الكُتاب، عندي مساحة للخلق، مساحة كبيرة وبعيدة، لكن في نفس الوقت لا أستطيع أن ألعب بالأحداث. ومع كلّ إخلاصي في نص الأمير، إلاّ أنّ شقيقته الأميرة بديعة هاجمتني، وقالت: «لا. الأمير لم يكن ماسونيًا، ولم يكن صوفيًا ولم يكتب كِتاب المواقف». وهذا يُردُ عليه ببساطة، إذا لم يكن صوفيًا ولم يكتب المواقف. كيف للسيدة بديعة أن تقنعني أنا الإنسان العادي قبل الكاتب بعلاقة الأمير بالشيخ الأكبر ابن عربي، كيف تقنعني بشأن وصيته والتي هي موجودة والأكيد أنّها قرأتها والتي يطلب ويُوصي فيها بدفنه بجانب شيخه الأكبر ابن عربي. جثته/جسده الّذي هو أعز ما يملكه الإنسان، في نهاية المطاف سلمه للتراب الّذي أكل من ابن عربي، وهو نفس التراب الّذي أخذ الأمير عبد القادر. هل هناك تواصل روحي أكثر من هذا، غريب حقا. ألا يكفي هذا، كان على الأميرة بديعة أن تقول لي أيضا لماذا موّل الأمير عبد القادر أوّل طبعة للفتوحات المكية، الفتوحات المكية لم نكن نعرفها قبل الأمير عبد القادر، هو من أقام لجنة وأرسلها إلى قونية وإسبانيا وكلفها بجلب المخطوطات من هناك، وقارنوا بينها واستخرجوا لنا مخطوطة متكاملة، والتي هي المخطوطات المكية الموجودة اليوم بأجزائها الأربعة، وهي المرجع العظيم في الصوفيتين. هل هناك أكثر من هذه الإجابة على الأميرة بديعة. من ناحية الإقناع وليس من رد الفعل؟.
أكتب عندما أحب، عندما أريد وعندما يحدث ما يضع علاقتي بالحياة على حافة التساؤل
في السنوات الأخيرة أصبحت تشتغل على روايات تستثمر في التاريخ والشخصيات التاريخية. كأنّك تريد التأريخ روائيًا لمراحل وشخصيات تاريخية مُعينة مثل شخصية الأمير مثلا؟
واسيني الأعرج: لا أريد أن أكون مُؤرخًا ولا أن أتخصص في الأمير عبد القادر، لكن عندما أدخل موضوعًا ما، أحب أن أدخله وأنا مرتاحٌ فيه تمامًا، وعندما أكتب عنه أدري أنّي أعرفه في كلّ تفاصيله الدقيقة. في رواية «الأمير»، أنا لم أحكِ عن الماسونية، أنا لم أقل أنّ الأمير كان ماسونيًا، أنا دافعت عن الأمير عبد القادر، أو بالأحرى لم أدافع عنه، لكن الحقيقة الموضوعية كما أحسستها قُلتها، قلتُ الأمير ليس ماسونيًا ولم يكن يومًا ماسونيًا، لكن كان قريبًا جدا من الماسونية، وفي زمانها كانت حركة علمانية وإنسانية حتى أنّها كانت تضم فئات مختلفة من المجتمع، لكن الأمير لم يكن يومًا ماسونيًا، ذهب إليها حبًا واحترامًا وخجلا من نابليون الثالث، لأنّ نابليون الثالث هو من جاء للأمير وأطلق سراحه شخصيًا، لأنّه كان إمبراطور فرنسا في ذلك الوقت، ذهب إليه شخصيًا وقال له أنا جئت لأحررك.
بالمناسبة ما موقع الرواية التاريخية لدى القارئ العربي، وهل حقا لم تأخذ مكانتها بشكل أوفر مثل الروايات الرومانسية أو البوليسية أو الإيروسية؟
واسيني الأعرج: الرواية التاريخية عبارة عن جهد كبير من طرف المبدع ويقتضي هذا أن نذهب إلى التاريخ وكُتبه ووثائقه ونبحث ونتعب ونشقى وندوّن حتى نصل إلى أن نحقق شيئا ذا أهمية. ومرات نقرأ مجموعة هائلة من الكتب وفي النهاية نرمي كلّ ما قرأنا لأنّ لا شيء أعجبنا في الأمر، وطبعا في كلّ الحالات، الرواية التاريخية فيها اجتهادات ومجهودات كبيرة من طرف الكاتب كما قلتُ لك، لكن في المقابل كثيرٌ من القراء وكثيرٌ من الكُتاب يهربون منها. هذا الجهد الذي يبذله كُتاب الرواية التاريخية يُضخم عدد الصفحات وفي الوقت نفسه القارئ ينفر من هذا النوع. في حين الرواية التي تُكتب في ظرف شهر أو شهرين يمكن أن تنجح أكثر، عكس الرواية التاريخية التي تأخذ من كاتبها سنوات وسنوات من الكتابة والاشتغال والبحث والتوثيق وربّما الأسفار.
هل يمكن التسليم أنّ الرواية التاريخية لا مستقبل لها؟
واسيني الأعرج: شخصيًا كنتُ أظن أنّ الرواية التاريخية ليس لها مستقبل ولا قراء ولا اهتمام، ولا يوجد من يهتم بها وسط زحمة الروايات الأخرى، لكن مع الوقت تأكد لي أنّ هذا ليس صحيحًا، ومن خلال رواية «الأمير» شهدتُ إقبال القُراء العظيم عليها، وما كُتب عنها في الصحافة، وما أثارته من اهتمام ومُتابعة كلها أمور أكدت لي أنّ الرواية التاريخية ما تزال أمامها حياة كبيرة. انظري، حتى في كلّ العالم أيضا، الآن كلّ الروايات الكبيرة العالمية تقريبا لها تماس بموضوعين إما السيرة الذاتية وإما التاريخ، هذا الغالب في معظم النصوص الروائية الآن. نفس الشيء قمتُ به بالنسبة لـرواية «سوناتا أشباح القدس»، فيها جانبٌ كبير من التاريخ، خصوصًا تاريخ بلاد الشام. شخصيًا متفائل جدا بمستقبل الرواية التاريخية لأنّها بدأت تجد القُراء الذين يحتفون بها ويعطونها ما تستحق، وبالتالي بدأت تجد مكانتها بين الروايات الأخرى.
الكاتب لديه مساحة كبيرة وغير محدودة للخلق، لكنه لا يستطيع أن يلعب بالأحداث أو عليها
على ذكر الروايات الأخرى. قلتَ أنّ روايتك (أنثى السراب): «تعكس الجانب الإنساني لفعل الكتابة وتأثير الحياة الخاصة للأديب في انجازاته الأدبية». هل يعني هذا أنّها تعكس بعض الجوانب من حياة واسيني الأعرج الخاصة؟
واسيني الأعرج: أكيد. أكيد، ومن الصعب أن أخفي ذلك. أولا هي علاقة الكاتب بمحيطه، بقلق الحياة، ثم بتجربته الذاتية العميقة الحميمية وهي كلها ثلاثة عناصر من الصعب أن تُخبأ، لأنّ البطل هو واسيني يحمل نفس الاسم، ولو أنّه في لعبة أدبية لأنّه هو يشبهني ولا يشبهني في نفس الوقت، يتعرض مثلي لنوبة قلبية صعبة/حادة ويخرج منها سالمًا لكن تغير الشيء الكثير في حياته، يصير أكثر تأملا للحياة، أقل ضغينةً، أقل رد فعل، يتأمّل محيطه، يأخذ الأشياء بنوع من الأريحية حتى في صورها الأكثر سلبية وتأملية كذلك، ثم إنّ هذا في الشبه مع الكاتب. لكن أحيانا تتعلم أنت من شخصياتك نفسها التي أنت تخلقها، بالنسبة لشخصية مريم مثلا، فيها الكثير ممن خلقوا من حياتي العاطفية وحياتي الشخصية لكن في الوقت نفسه يجب أن لا نضيق على الكاتب وعلى انشغالاته الأدبية، لأنّ الانشغال الأدبي أحيانا يكون أكبر وأعظم وأغنى من حياة الكاتب الصغيرة نفسها، لما ننظر للمسألة نظرة مقابلية وهذا يقابل هذا عند الكاتب، هنا ليس فقط ننقص من حياة الكاتب، إنّما ننقص من غنى اللحظة الجمالية، تأخذي مثلا الرسائل الموجودة في الرواية وأنا اشتغلت على نص مبني على رسائل وهذا تقليدٌ عربيٌ قديم على فكرة، تأخذي مثلا طوق الحمامة فهو عبارة عن رسالة في نهاية المطاف، رسالة الغفران هو عبارة عن رسالة من كم الرسائل، التوابع والزوابع هو عبارة عن رسالة، يحيى ابن يقظان، النصوص العربية القديمة كانت تُوصل خِطابها عن طريق الرسالة.
لماذا؟، لأنّ الرسالة في الحقيقة وفي نهاية المطاف حتى لما تكون فلسفية هي أكثر حميمية، يأتيك عن طريق هذا المعبر الّذي هو معبر أدبي فني إنساني ذاتي أحسن مِمَا يأتيك عن طريق معبر آخر غير ذاك الّذي تُطرح فيه القضية العلمية والثقافية، فأنا أخذت هذا كوسيلة فقط، الكثير من الرسائل الحقيقية أنا أخذتها، لأنهّ في لحظة من اللحظات نقول حرام أن تضيع هذه الرسائل، يجب أن تجد مكانًا، طبعا استأذنت الذين أحبهم والذين بيننا ود وهم أصدقاء وصديقات والذين كنت أتكاتب معهم أن أستغل هذه الرسائل الأدبية وفعلا استغليتها وكثيرٌ منها بنيتها في الرواية، هيكلها تغير، لكن هناك روحٌ ما بقيت كما هي، روح زمن معين، فترة معينة، تاريخ معين، فيها مني ومن ذاتي طبعا، لكن فيها من الظاهرة الأدبية الكثير، لأنّ في نهاية المطاف هو هذا المربك: ما هو مآل الأدب في ظل العلاقة الإنسانية الضيقة؟
إلى أي حد يستطيع الكاتب أن يكون صريحًا وحقيقيًا في نصوصه. وهل مر نصك «أنثى السراب» دون مساءلات شخصية؟
واسيني الأعرج: في نهاية المطاف أنا على يقين أن كلّ شيء كتبته، كتبته عن حب، لهؤلاء الناس الذين في الرواية، ولهذه الحالة التي أريد أن أكتب فيها رواية، لكن في الوقت نفسه أنا دخلت في صراع ضد نرجسية الكاتب نفسه، لأنّه من حين لآخر الشخصية التي تعمل معه هي مرآته أيضا. في ظل مجتمع يطغى عليه النفاق والكذب، في كلّ المجتمعات العربية وليس فقط المجتمع الجزائري، فاخترت هذا المسلك وكنتُ خائفًا منه، لكن في نهاية المطاف ردة الفعل فعلا كانت أدبية لأنّ الذين قرؤوا النص وكان عندهم رد فعل من النص هم أناس حياديون، يعرفون حياتي الخاصة الحديثة وما حدث لي من وعكات صحية أو صداقات الخ، لكن لا يعرفون الماضي عندما كان عمري 20 أو 22 سنة مثلا وما حدث الخ، وبالتالي أخذوا المسألة في أفقها الأدبي وأنا سُعدت لذلك. في الجزائر لا توجد كتابة عن تشكيل أو تفسير الرواية. لكن الناس الذين كنت أشعر أنّني يمكن أن أمسهم بسوء أو ربّما النص سيؤذيهم أو يسيء إليهم، قرؤوا النص وبالعكس قراءتهم كانت لطيفة وأدبية لكن هذا لا يعني أنّه لم تكن هناك ملاحظات. فقط أريد القول أنّ هذه الحياة كلها عبارة عن مادة خام لا أكثر ولا أقل.
الحياة كلها عبارة عن مادة خام لا أكثر ولا أقل
برأيك هل يمكن أن يعيش الكاتب العربي من كتاباته؟
واسيني الأعرج: شخصيًا. أنا لا أعيش من كتاباتي، أعيش من وظيفتي كأستاذ جامعي وحقيقة أنا جد مرتاح، مثل «هاوي» في الكتابة، بل هاوي في الكتابة أكتب عندما أحب، عندما أريد، عندما يحدث فيّ شيء يجعل أو يضع علاقتي بالحياة على حافة التساؤل، فتكون النتيجة روايات أكتبها وأمشي أحيانا إلى أبعد نقطة ممكنة، ولكن أبدا لم أكتب أي شيء يمس الأشخاص دون أن أستأذنهم، هذه مسطرة وقاعدة بالنسبة لي، رغم أنّني أولا أكتب مثلما أشتهي، ومن بعد أحب معرفة رأي الناس الأقرب إليّ، خصوصا عندما تكون أشياء لها علاقة بما هو حياتي مثلا، أبعث النص إلى الشخص أو إلى امرأة تحديدا وهنا المشكل وأسمع رأيها بما في ذلك زوجتي الدكتورة زينب الأعوج، حتى لو اختلفنا في الكثير من الأفكار لكن المشكلة أنّني لا أحذف، لا أمارس رقابة، هذا هو العناد الوحيد. ن/ل