لا أرى في المستقبل القريب أنّنا بصدد التأسيس للمُدن الذكية بالمعنى الصحيح
• المنطقة العربية عودتنا على إهمالها المبرمج لكلّ ما يمكن أن يُريح أو يُسعد الإنسان في مُدنه
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث والمهندس الجزائري محمّد حسين طلبي، عن ما يُسمى مشاريع مُدن المستقبل أو المُدن الذكية، وهذا انطلاقا من أبحاثه التي اشتغل عليها في هذا المجال. طلبي يرى أنّ المدينة العربية تحتاج أولا إلى ثورة خدمية جادة من أجل اقتحام عالم المُستقبل بكلّ متطلباته وإلاّ سيتضاعف البُؤس بين أحيائها وتفقد أي ارتباط مع العالم المُتحضر وتبقى مُدناً لا تُصدر إلاّ بعض الفولكلور المُسلِّي.
حاورته/ نـوّارة لـحــرش
كما يرى أنّ المُدن الذكية بالنسبة لنا كعرب هي حالة مضطربة، وهذا لأنّ هناك بعض الجوانب السياسية المختلة تُسيطر على المُدن والأوطان ما يجعل الإنسان فيها دائم الحيرة وقليل الثقة في ما يفعله وفي مستقبله.
لديك اهتمامات بمُدن المستقبل من خلال أبحاث ودراسات وتصورات في هذا المجال، ومن خلال مهنتك. تُرى كيف سيكون شكل المُدن المستقبلية في السنوات البعيدة أو القريبة؟
محمّد حسين طلبي: نعم لدي اهتمامات واسعة بمُدن المستقبل، ليس فقط من خلال الدراسات والأبحاث والمتابعات، ولكن لأنّ الأمر يرتبط مباشرة بمهنتي كمهندس يعمل منذ أكثر من أربعين سنة في منطقة الخليج التي تحاول الارتقاء بمُدنها إلى مستويات مُتطورة سواء في جانبها المعماري أو في جوانبها الخدمية، كذلك الأمر الّذي جعلني أُتابع منذ زمنٍ بعيد الخط البياني الصاعد لهذه الحالة الجديدة على المنطقة العربية ككل والتي عودتنا على إهمالها المبرمج مع الأسف لكل ما يمكن أن يُريح أو يُسعد الإنسان في مُدنه العريقة والتاريخية بمعالمها الأصلية أو حتى تلك الموروثة عن المستعمر، وبلادنا الجزائر كما تعلمين خير مثال على ذلك.
نعم إنّ هذا الجانب يهمني ويأخذ من وقتي وبالأخص كما قلتُ لكِ أنّه قريب من مهنتي التي هي أقرب إلى الهواية بالنسبة إليّ أُمارسها بكلّ شغف وحب، وبطبيعة الحال أضافت إليّ الدراسات والأبجاث والإحصائيات التي أقترب منها في هذا الجانب الكثير مِمَا هو مُمكن تحقيقه في الأجيال القادمة في الكثير من مناطق العالم التي هي اليوم قدوة تستحق التنبيه إليها وبالأخص بعض المُدن الآسيوية التي تُفاجئنا كلّ يوم بجديد يُسهِل على مواطنيها حياتهم ويقترب بهم من عالم السعادة والرفاهية، أمّا كيف سيكون شكل مُدن المستقبل فذلك يتوقف كما تعلمين على برامج المسيرين لها ومدى اقترابهم من تقنيات تطوير الجوانب الخدمية فيها ومدى ربط تلك الخدمات بعوالم البيئة وعوالم المواصلات وعوالم الإدارة الحديثة، هذا من جانب، أمّا من جانب الشكل فإنّنا نعتقد بأنّ للتنمية الاقتصادية والصناعية والمالية دورٌ فاعل في إيجاد عمارة متطورة ذات جودة خدمية تمنح المُدن بريقاً سياحياً يُساعد دائماً على تكثيف الابتكارات وفتح أبواب الاستثمار الفاعل فيها. مُدن المستقبل هي الحياة الأفضل.
وماذا عن واقع المُدن العربية وما مكانتها من دراسات ومشاريع الذكاء المستقبلي للمدن؟
محمّد حسين طلبي: إنّ مُدن المستقبل الذكية هي واقع يمثله بالدرجة الأولى الارتباط الصحيح بعوالم إنترنت الأشياء والاستثمار في الطاقات البديلة والأمران يُمثلان تطويراً مُستمراً لربط إدارات تلك المُدن ببعضها وربطها في جانب آخر بتشكيلة الخدمات اللانهاية مع عنصر تكوينها بمَ في ذلك سكانها والفاعلين فيها بطبيعة الحال.
هذه الحاة غدت واقعاً جميلاً ولافتاً اليوم بعد سلسلة لا متناهية من الأبحاث التي نقلت تلك المُدن من الحالة الإلكترونية السابقة إلى الحالة الذكية التي هي في النهاية استثمارٌ مُوفق لِمَا يُسمى بالذكاء الاصطناعي الّذي هو تقنية إدارية بالدرجة الأولى تُساعد المُدن والمؤسسات على تفادي أي خلل بشري يُمكن أن يُشكل عائقاً تنموياً.
وبطبيعة الحال فإنّ حكومات الدول الغربية والآسيوية قد قفزت أشواطاً في الميدان وبالأخص الدول الآسيوية التي ذهبت بعيداً في هذا وبعضُها تجاوز بكثير المُدن الأوروبية ومنح العالم ما يُسمى بالمدن الكوكبية التي اعتمدت بالدرجة الأولى على الحالة الذكية واستثمرت في التعليم وفي استقطاب ما يُسمى بالعقول (العالمية) من أي مكان وهو الإنسان المُجتهد والحيوي الّذي يستثمر دائماً في الابتكار والإبداع وراحت تمنحه التسهيلات والمساعدات والأمان والاستقرار. أمّا عن مُدننا العربية فهي بدون شك تحاول كثيراً ولكنّها تسير ببطء شديد لأنّ بيروقراطية أخرى في الغالب بشرية تتربص بها كما هي العادة.
إنّ فكرة ذكاء المُدن هي عملٌ مُتكامل يأتي على رأسه الإحساس بالمسئولية تجاه الناس والوطن وكذلك مدى توفر العقول التي يمكن الاعتماد عليها والعمل على ترغيبها وتوفير حاجاتها حتى تؤسس وتُتابع البنية الصلبة والواثقة سواء في إدارة شئون المُدن أو ما يتعلق بها.
فبالنسبة إلينا كعرب هذه حالة مُضطربة كثيراً لأنّ هناك جانب سياسي مختل يُسيطر على المُدن والأوطان ما يجعل الإنسان فيها دائم الحيرة وقليل الثقة في ما يفعله وفي مستقبله. لذلك فأنا لا أرى في المستقبل القريب أنّنا بصدد التأسيس للمُدن الذكية بالمعنى الصحيح.
كيف يمكن إعداد أو إعادة تخطيط المُدن الحالية لتكون مستقبلية أو بمعنى آخر لتناسب المستقبل المختلف بترسانات التكنولوجيا الكثيرة والمتسارعة التطور والتجدّد؟
محمّد حسين طلبي: نعتقد أنّ المُدن العربية هذه الأيّام بحاجة إلى تطوير أهم هو جانب الخدمات فيها مثل توفير ضرورات الحياة الأساسية كالماء والطاقة ونظافة أماكن العيش وسلامتها كتطوير شبكات الصرف الصحي والاستفادة من تنقيتها، وكذلك تقليل ما أمكن من التلوث وغير ذلك من الأعمال التي غدت اليوم مُسلمات معروفة، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من تطوير الإدارة وما يتعلق بها في الجانب اللوجيستي بشكل موازٍ.
إنّ مُدننا بوضعها الحالي لا يمكن أن تتعايش مع ترسانة التكنولوجيا التي تفضلتِ بذكرها والتي تقتحمنا كلّ يوم قبل أن تُرمم ذاتها وتزيل هذا الاهتراء المُتراكم بين شوارعها وأزقتها. إنّ التقنيات التي ستدير المُدن بحاجة إلى عمارة سليمة وشارع منظم يستوعبان الترقيمات والتعريفات الحديثة والمُبتكرة ويستوعبان كذلك عملية الربط السليمة مع كلّ ما يتم إعماره كالتوسيعات الضرورية لمُدن أصبحت مع الأسف مجموعات عشوائية مُتناثرة هنا وهناك.
تحتاج المدينة العربية إلى ثورة خدمية جادة من أجل اقتحام عالم المُستقبل بكلّ متطلباته وإلا سيتضاعف البؤس بين أحيائها وتفقد أي ارتباط مع العالم المُتحضر وتبقى مُدناً لا تُصدر إلا بعض الفولكلور المُسلِّي.
مفهوم المدينة الذكية/ المستقبلية ظهر منذ سنوات. هل يمكن القول أنّ الحياة في الغرب بزخمها الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي ساعدت على بروز هذا المفهوم الّذي يحاول استشراف المستقبل والتخطيط لتجسيده؟
محمّد حسين طلبي: نعم إنّها مُدنٌ تقوم على الابتكار والإبداع وتستخدم أحدث الوسائل والتطبيقات من أجل تطوير جودة الحياة فيها ودعم قدرتها وفاعليتها وتسهيل الحصول على الخدمات العامة ودعم التنافسية وعملية تحديث هذا النوع من المدن يدعم مكانة الدولة (أي دولة) ويُلمعُ صورتها الخارجية...
وهذا النوع من المُدن هو موضوع تنافس مستقبلي بين الشركات العالمية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وطبعاً كما تفضلتِ أنتِ فقد ظهرت فكرة هذا النوع من المُدن (SMART CITIES) منذ حوالي 12 سنة، والمفهوم في حد ذاته مر بعديد التطورات التي تتوافق مع درجة التحديث من المعلوماتية أو الإليكترونية إلى الافتراضية ومن ثمّ إلى الذكية وكلها مفاهيم استخدمت بطبيعة الحال التكنولوجيا وتطبيقاتها بهدف الحد من مخاطر التحديات المستقبلية..
ويسعى المخططون في المُدن الطموحة اليوم إلى ما يُسمى بالاقتصاد الذكي والحوكمة الذكية والبيئة الذكية والحراك الذكي ومن ثمّ الحياة الذكية. نعم إنّ الحراك والزخم وروح الإبداع كذلك هي من جعل الإنسان بشكل عام يعمل على تطوير حياته ليس في الغرب فقط.. إنّها ضرورة حياتية أملتها الكثير من العوامل مثل التكاثر السكاني وما يفرزه من تحديات لإدارة شئونه.
إنّ استشراف المستقبل هي عملية لا حدود لها وإن كان الإنسان في منطقة ما قد اجتهد أكثر تحت جُملة من الدوافع ونجح نجاحه الباهر فإنّ العدوى ستنتقل بأقصى سرعة هذه الأيّام إلى أماكن شتى من هذا العالم لأنّ الهموم الإنسانية في النهاية تظل مشتركة..
وهل سيتغير شكل العالم في المستقبل، كيف يكون يا ترى. هل سيصبح أجمل من العالم الّذي كان في المتناول العادي أو الّذي كان في خيال الإنسان؟
محمّد حسين طلبي: بشكل تدريجي نعم سيتغير وربّما سيكون أكثر تعقيداً وعُزلة لأنّ التكنولوجيا ستوفر لهذا الإنسان حاجياته، وربّما سيستغني شيئاً فشيئاً عن جاره أو صديقه بالرغم من أنّ تلك التكنولوجيا هي حصيلة عمل جم هام ودائم. في الحقيقة هذا سؤال قد تجيب عنه الفلسفة وربّما عِلم النفس ولكنّي أؤكد على شيء هام هو أنّ الإنسان الّذي سيعيش مُدن المستقبل سيكون مُكبلاً بترسانة من القوانين التي تتحكم فيها الأجهزة والروبوتات والكاميرات وغيرها..
وأقول لكِ كذلك أنّه بالرغم من كافة الايجابيات التي يمكن إيجازها في رفع كفاءة إدارة المُدن في شتى المجالات ربّما قد تتجاوز احتياجات السُكان ومتطلباتهم فإنّ ثمّة تحديات وتخوفات قد تنجم عن مثل هذا النمو والتحديث المتسارعين لأنّه قد يُربك المواطن غير المُعتاد على التكنولوجيا المُتقدمة بل إنّ الآلية التكنولوجية حينما تدخل مناحي الحياة كلها فربّما تُقدم تحدياً مُجتمعياً أكثر خطورة إذا انفصلت في سرعتها ومنطقها عن العوامل المجتمعية وعن حدود الإداراك البشري فقد يُصاب قطاع من الناس بالعُزلة عن الآخرين أو يتحول إلى كائن مُنفرد بذاته وقد يُصاب آخرون بالاغتراب أو الارتباط الوثيق بالأشياء لدرجة لا يمكن الفكاك منها مِمَا يعني أنّنا سنكون أمام نموذجية متطرفين اجتماعيًا أحدهما لا يستطيع استيعاب التغيرات السريعة والآخر يلتصق بها لدرجة عدم الانفصال..
إنّ الجميل في المُدن المستقبلية هو استغناء الإنسان شيئاً فشيئاً عن الطاقات الكلاسيكية التي ما زالت تؤذية بشكل لافت، والجميل كذلك أنّ تلك المُدن ستتكفل بإنتاج حاجاتها من الغذاء بشكل مريح، والجميل كذلك أنّ مُدن المستقبل ستُيَسِّرُ كثيراً تواصل الناس بأعمالهم ومؤسساتهم الإنتاجية عن طريق الأنفاق المُسيرة والتاكسي الجوي الّذي سيتخذ له المسارات الثابتة والآمنة كذلك كوسائل رديفة لوسائل هذه الأيّام.
هناك حديث عن تحول الجزائر العاصمة إلى مدينة ذكية في حدود أفاق 2029، هل يمكن أن يتحقق الحلم في هذه الآجال، هل هناك مقومات واضحة المعالم أو مقدرات ممكنة تجعل من الجزائر واحدة من مُدن المستقبل؟
محمّد حسين طلبي: إنّ التحول لا يكون من خلال الحديث وحده، هناك تخطيطٌ يجب أن يتظافر فيه الجُهد الرسمي مع جهود القِطاع الخاص الفاعل لتحقيق هذه الأمنية لأنّ تكامل عناصر هذه الغاية ضروري وهام ويجب أن يكون في كامل جهوزيته.
إنّ مدينة الجزائر العاصمة والتي تتوفر على جُملة لا متناهية من العناصر المُساعدة بالإضافة إلى تبوئها مركز العالم كما نعلم تستحق أن تتبوأ مكانة مُناسبة في القارة الإفريقية غير أنّ ما هو ظاهر ومن خلال عديد المؤشرات لا يُوحي بأنّ الخط البياني لهذه المدينة سيسير في الطريق السوي وأنتِ ترين أنّ إصلاح عطلٍ بسيط في الشارع يتطلب عِدة أسابيع وربّما أكثر.
إنّ المدينة الطموحة يجب أن تعيش حالة طوارئ دائمة، لأنّها تمثل خلية واسعة لا يجب التغاضي أو إهمال أي جزء منها مهما صغر، هذا في ميدان الخدمات فما بالك في ميدان التسيير الذكي المُرتبط معه بشكل ثابت وتلقائي والّذي يتطلب متابعة فورية ودائمة لكل شيء.
أُخبركِ فقط أنّ مدينة عربية صغيرة مثل «دبي» هي مُصنفة اليوم عالمياً تحت رقم (25) كمدينة تقترب من الكمال في كلّ شيء، أمّا الجزائر العاصمة المدينة الواسعة والمتنوعة وذات التاريخ والإمكانيات الكبيرة لا يوجد لها أي تصنيف أو مكانة ولا يوجد كذلك ما يُوحي بأنّ إداراتها على وشك الإنطلاق الجاد واللحاق بالركب..
وحتى لا يتشكل لديكِ أي إحساس بالإحباط فأنا أقول لكِ بأنّ العمل نحو ذلك الهدف الجميل لا يتطلب كبير جهدٍ أو فائض تفكير وعناء فنحن نمتلك كلّ أدوات الطموح.