منصب الرئيس لا يليق بخمول وكسل المُثقفين
• النُّخبة جبانة أمام الفِعل السياسي وهي متورّطة في المفهوم الشعبوي للسياسة
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي عبد العزيز غرمول، عن شؤون سياسية وأدبية وإعلامية، تخصّ مسيرته وسيرته: من الصحافة والأدب إلى السّياسة، رحلات وسفريات وحفريات في مشاريع مختلفة الحسّاسية والاتجاهات. غرمول تحدث بلغة السياسي العارف عن تجربته السّياسيّة وخوضه غمارها مُمارسة ونشاطا وحزبًا وكتابةً في شؤونها ودروبها. كما تطرق للإشكالية التقليدية بين المُثقّف الجزائريّ والسياسي، وكذا سوء علاقته بالسياسة، وعن افتقاره للأدوات السّياسيّة التي تُمكِّنه من الخوض في أمور السياسة بما فيها الاستحقاقات الرئاسية. مُؤكدا في هذا المعطى أنّ منصب الرئيس لا يليق بخمول وكسل المُثقفين، وأنّ النّخبة لا تصنع مصائر الشعوب. بل الشعوب هي التي تصنع مصائرها من خلال الفاعلين في إدارة شؤونها. كما تحدث عن الراهن الجزائري، وحراك 22 فبراير، الّذي يرى أنّه حرر النُّخبة من «غول السياسة»، ورغم هذا يؤكد أنّه وكما قال من قبل فإنّ الجزائر مريضة بنخبتها، ولا يزال هذا القول قائمًا. -حسب رأيه-.
حاورته/ نــوّارة لـحـرش
غرمول الّذي يحترف الكتابة بنفس الزخم الّذي يحترف فيه السّياسة، قال إنّه في الكتابة، كما في السياسة، ناضل من أجل ترسيخ وترقية الحياة والإنسان والقيّم. وأنّ هذه المحاور الثلاثة عليها يقومُ برنامجه الحياتي والسياسي.
النُّخبة لا تصنع مصائر الشعوب، الشعوب هي التي تصنع مصائرها
من الصحافة والأدب إلى السّياسة. رحلات وسفريات وحفريات في مشاريع مختلفة الحسّاسية والاتجاهات. كيف تنظر الآن إلى هذه التجارب، ومن أيّ زاوية تستعيدها. وكيف تقرأ منطلقاتها ومآلاتها في مسيرتك؟
عبد العزيز غرمول: هو في الحقيقة مشروعٌ واحد، واسعٌ وعميق، ومُتعدّد الأسلحة. يُشبهني هذا المشروع لأنّني أعتبر نفسي «مُثقف عضوي»، فاعل في الزمان والمكان اللذان أعيش فيهما. ساقني الأدب إلى الصحافة، ثمّ ساقني الأدب والصحافة إلى السياسة، وفي كلّ ميدان قمتُ بما يجب، في حدود إمكانياتي طبعًا. وفي الكتابة، كما في السياسة، ناضلتُ من أجل ترسيخ وترقية الحياة والإنسان والقيم. وهذه المحاور الثلاثة عليها يقومُ برنامجي الحياتي والسياسي.
كما تعرفون ليس من خبراتي في الحياة مواقف من نوع الحياد ولا الهامش ولا الصمت، ولا حتّى مقعد المتفرجين المريح... عشتُ دائمًا قلقًا على المصائر الناقصة والغامضة لتلك المحاور الثلاث، وأرى أنّ من واجب الرجل أن لا يبقى سلبيًا يتفرج من شرفته على مرور عصره دون أن يُساهم في تقويم مساره وترتيب فوضاه.
تقريبا أنت المُثقّف والكاتب الجزائري الوحيد الّذي خاض في شؤون السّياسة بشكلٍ واضح ومتواصل وصريح، حتّى أنكم أنشأتم وأسستم «حزب الوطنيين الأحرار» العام 2012. هل كان هذا من أجل ممارسة السّياسة على أصولها والتأكيد أنّ المُثقّف بإمكانه أن يكون سياسيًا محنكًا وفاعلا وأن يُؤسّس حزبًا ويُقدم مشروعًا وغيرها. أم كان من أجل المُساهمة في الحياة السّياسيّة بمشاريع يُطلقها كاتب وأديب وصحفي اِنطلاقا من رؤيته وقناعاته وطموحاته؟
عبد العزيز غرمول: ليس من السهل المرور من دفء وطمأنينة الثقافة إلى قلق وتوتر السياسة، خاصة في هذا الزمن الّذي تشوهت فيه نظرة المواطن للسياسة، ونظرة السياسة للمواطن. السياسة أرادت أن تُحوِّل المواطن خادمًا لسلطتها بدل أن تكون هي خادمةً له (معنى السياسة في تعريفها المُبسط هي إدارة المدينة عند اليونان والرومان)، لكن السياسة المشوهة في هذا البلد قلبت المعنى. المواطن أيضا ينظر للسياسة على أنّها كذبٌ وخداعٌ ونفاق، وهو يشمئزُ من مُمارستها ويكره مُمارسيها... في هذا الجو المسموم تصبح مغامرة حقيقية ولوج هذا الحقل المُلغم، ولكن...
كانت المآلات واضحة بالنسبة لي فمنذ 2008 قمتُ بفتح جبهة حرب على الفساد من خلال «الخبر الأسبوعي» واستهدفتُ في ذلك الوقت أجنحة الرئيس شخصيًا، نشرتُ ملفات رجاله الفاسدين، شكيب خليل، غول، سعيداني،،، الخ. واستدعيتُ أقلامًا كبيرة للكتابة ونقد السياسة الرعناء التي كان يُمارسها الرئيس المطرود، وفتحتُ صفحات الأسبوعية للمغضوب عليهم... كانت معركة قاسية وخطيرة مع آلتهم الجهنمية، لكنّها كانت ضرورية في ذلك الوقت لإيقاظ وعي النّاس.
كان اِستكمال هذا التحدي يَمرُ عبر مُمارسة السياسة مُباشرة، ووجدت في ذلك الوقت الكثير من المُقتنعين بالطرح الّذي كنتُ أطرحه في كتاباتي. وربّما يَذكر بعضكمْ بيان تأسيس «حركة الوطنيين الأحرار» الّذي بدأناه بتلك الجملة التقريرية التي أصبحت عنوان عصر كامل «الجزائر ليست بخير».
علينا أن نتذكر أنّ الجزائر مرت سنة 2012 بمنعطفٍ حاسم كان يمكن أن يُغير تاريخها، لكن الشعب اِستسلم حينها للوعود الكاذبة التي أطلقها الرئيس المطرود في خطابه «طاب جناني» بمدينة سطيف. وكلفنا ذلك سبع سنوات أخرى من حُكم العصابة.
ماذا يفعل رجل مثلي في مثل هذا الوضع سوى رمي قفازات الحرير والاِنخراط في حمإ السياسة، خاصة وأنّ خبرتي في الحياة سلحتني برؤيا وقانعات تؤسس لمشروع سياسي يُحقق طموحاتي في خدمة وترسيخ العناصر الأساسية لقيام وتطوّر الدولة، وهي الإنسان والحياة والقيّم.
ربّما مشروعكم السّياسيّ لم تستقبله النُّخبة المُثقفة بما كان مرجوا ومأمولا منها. فهل يمكن القول إنّ هذه النُّخبة هي التي تُعرقل مشاريع المُثقّف المُنخرط في الحياة السّياسيّة. ولماذا؟
عبد العزيز غرمول: مشروعنا السياسي لم يكن موجهًا للنُّخبة، النُّخبة لا تصنع مصائر الشعوب، الشعوب هي التي تصنع مصائرها من خلال الفاعلين في إدارة شؤونها. فضلا عن أنّ أغلب ما يُسمون نخبة هم ليسوا سلبيين فقط وإنّما سالبين لإيجابية الآخرين باِحتقار وتهميش كلّ فاعل سياسي. النُّخبة جبانة أمام الفِعل السياسي وهي متورطة في المفهوم الشعبوي للسياسة، وبالتالي اِتجهنا للوسط الواعي بالفعل السياسي والحامل لهموم ومشاكل الشعب. لقد قلتُ من قبل أنّ الجزائر مريضة بنخبتها، ولا يزال هذا القول قائمًا رغم «الحراك» الشعبي الّذي حررهم من «غول السياسة».
برأيك هل يملك المثقّف الجزائريّ، الأدوات السّياسيّة أو بعض القبول والجماهيرية أو النجومية التي يملكها بعض السّياسيين والتي تُمكِّن هذا المثقّف من الخوض في الاِستحقاقات الرئاسية مثلا؟
عبد العزيز غرمول: لا أعتقد أنّ الشعب ينتظر ذلك النوع الاِنتهازي من المشاهير، الشعب حاليًا ينتظر رجلا واعيًا بدور ومسؤولية رئيس جمهورية بأتمّ معنى الكلمة. هذا المنصب لا يليق بخمول وكسل المُثقفين، فضلا عن أنّ المُثقّف الّذي لم يُمارس السياسة ولا يعرف خباياها كيف له أن يطمع في هكذا منصب. إنّني أتأسف فعلا للذين تدفعهم شهرتهم الشعبية للتوهم أنّها كافية لإقناع الشعب باِنتخابه رئيسًا، الشعب سينتخب على من يتوسم فيه القدرة للقيام بهذه المسؤولية الكبيرة والخطيرة.
منذ كتاباتي الأولى كان هاجس السياسة أحد المؤسسات لتجربتي الأدبية
ولدتَ وعشتَ في مناخات سياسية مُتعاقبة ومُختلفة. هل هذه المناخات هي التي خلقت وولّدت فيك هذا الاِهتمام بالسّياسة والاِنغماس فيها إلى حد النضال والمُمارسة؟
عبد العزيز غرمول: نعم هذا صحيح. منذ كتاباتي الأولى كان هاجس السياسة أحد المؤسسات لتجربتي الأدبية. ففي رواياتي ومجموعاتي القصصية لم يغب هذا الهاجس، بل مع الوقت أصبح هاجسًا محوريًا. لقد علمتني ثقافتي تحت وطأة تلك السياسات أنّ الحياة الأفضل والأرقى تُعاش ولا نكتفي بالكتابة عليها. أنا من الذين يُؤمنون أنّ السياسة مُساهمٌ أساسيٌّ في صناعة الفرح في المجتمع الإنساني، وعشت دائمًا حالمًا بمجتمع أفضل وحياة أرقى، وعرفت أنّ ذلك لا يتحقّق دون الاِنتقال من الحُلم إلى مُمارسة ذلك الحُلم على أرض الواقع. أعتقد أنّ المُثقّف المُنظِّر لحياة أفضل وهو يجلس في مقعد المُتفرج ستضحك عليه ثقافته وهو يعيش واقعًا رديئًا ومُتخلفًا.
مشكلة المُثقّف تكمن في أنّ ثقافته مُتعالية وجبانة
برأيك هل ستبقى الإرباكات نفسها بين السياسي والمُثقّف، هل ستبقى العلاقة مكهربة ومربكة وفي مفاصلها يسري التشنج والشكّ والريبة والصراع، أم أنّ الحَراك سينهي العَداء التاريخي بين المُثقّف والسياسيّ، أو على الأقل سيخفّف من حدّته، وستتغير الأمور لتكون العلاقة بينهما تكاملية وتواصلية وفيها من الندية الإيجابية ما يخدم الجميع، دون أن يجد المُثقّف نفسه خاضعًا لسلطة السياسي وشروطه واِملاءاته؟
عبد العزيز غرمول: نحن نعيش عصرا جديدا، عصرا تهاوت فيه قصور الورق التي كان كلّ من السياسي والمُثقّف يسكن فيها. غير أنّ المُعضلة كامنة في نوعية الثقافة التي يتسلح بها الطرفان، فالسياسي ينظر للمُثقّف على أنّه مجرّد مُنظِّر يرى النّاس من خلال الأفكار وليس الفِعل، بينما مشكلة المُثقّف تكمن في أنّ ثقافته مُتعالية وجبانة، تدفعه للحياد والريبة من كلّ ما يضعه بين النّاس، ثقافة تفضل أن تُخاطب النّاس من وراء حجاب، الورق أو شاشة الكومبيوتر، لكنّها تتهيب المُواجهة والمشاركة والتفاعل مع النّاس. المُثقّف لا يتحاور مع النّاس العاديين، يتحاور فقط مع أنداده، وبلغة يفهمها وسطه، بينما حاجات النّاس ومشاكلهم تحتاج لمقاربة أخرى ولغة أخرى. يعني فكرتان بينهما خلافٌ عميق أتمنى أن ينشر الحراك الشعبي ثقافة ومُمارسة جديدين لتقليص الهوة بينهما.
في ظل بعض التحوّلات السّياسيّة، يحدث أن يتخلى بعض المثقفين عن مواقفهم وقناعاتهم السابقة. في أي سياق يمكن أن تقرأ تنازلات وتخلي وتحوّل المُثقّف عن مواقفه وقناعاته السابقة. هل يمكن إدراج هذا في إطار الواجب الأخلاقي تجاه الوطن في مرحلة مصيرية وحاسمة، أم ركوبًا للموجة وحفاظا على مصالحه ومكاسبه التقليدية؟
عبد العزيز غرمول: أولا المواقف والقناعات ليست ثابتًا في أيّ ثقافة بحكم قدرة الثقافة على التطوّر وبلورة تلك القناعات من زوايا ثقافية وفلسفية مُختلفة قد تؤدي أحيانًا إلى مواقف مُتناقضة أو مُختلفة. العيب في المُثقّف هو التنازل عن مواقف تعتبر مبدئية أو أخلاقية تُسيء إليه ولا تخدم قضيته، هنا يصبح التنازل معيبًا واِنتهازيًا واِختيارا للمصلحة الشخصية على المصلحة العامّة. وهذا ما يستنكره النّاس على المُثقّف خاصة في مراحل مصيرية وحاسمة بالنسبة لأمته. لقد اِعتقدتُ دائمًا أنّ المُثقّف ليس فردا إنّه مجموع النّاس الذين يتفاعلون معه ولذلك تصبح مصلحتهم أولى من مصلحته الشخصية.
كيف تقرأ الراهن الجزائري، وكيف تتوقع أن تكون مآلاته في الأفق القريب؟
عبد العزيز غرمول: الجزائر تمر بمرحلة صعبة في تاريخها الحديث. لقد اِستيقظ الشعب فجأة على كارثة سلب سيادته وسرقة ثرواته ورهن مستقبله. وكان رد فعله هبّة شاملة رافضة للمآل الّذي دُبّر له، مُطالبًا باِستعادة سيادته والاِحتكام إليها. لقد سقطت كلّ الشرعيات السابقة، الثورية والتاريخية و،،، وأعتقد أنّ ما يحدث حاليًا من تجاذبات بين أطراف عديدة هو دليل على الاِختلافات العميقة التي كانت مخبوءة في تلافيف النظام السابق، ولا يمكن حلّ هذه الخلافات سِوى بالعودة للشرعية الشعبية باِنتخابات نزيهة وشفافة
ماذا أضافت السّياسة ومشاريعها لمشروعك الأدبي والروائي وحتّى الشخصيّ؟
عبد العزيز غرمول: على المستوى الشخصي أفقرتني ماديًا، لكنّها عوضتني بثروة كبيرة على مستوى التجربة الأدبية والإنسانية. لدي الآن أصدقاء ومعجبين ومتعاطفين في مختلف أنحاء الجزائر، وكتاباتي الحالية مُستمدة مُباشرة من الخبرة التي منحتنيها السياسة، وهي ثروة عظيمة لو تدرون...
هل ننتظر من زعيم الأقلية الساحقة رواية جديدة تخوض وتستثمر في حراك 22 فبراير2019. وهل يمكن للأدب أن يُواكب هذه التحوّلات الاِستثنائية في البلد دون الإخلال بالشرط الفنيّ والأدبيّ والجماليّ للكتابة الروائية؟
عبد العزيز غرمول: لا أدري، أنا لا أحب الحديث عن روايات لم تنتهِ بعد. لكن تجربة مثل الحراك لا يمكن أن تمر دون تحويلها إلى عملٍ أدبيٍّ ضخم. ما أودّ أن أقوله للمبدعين بشكلٍ خاص أنّ الحراك مادة أدبية عظيمة وليست مجرّد هواجس وخيالات وعليكم أن تعيشوها من الداخل فأنتم أولى بتخليدها في أعمالٍ في مستوى حركتها التاريخية.
ن.ل