الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

“ لا أستطيع التنفس”.. عناصر لفهم الوضعية في الولايات المتحدة الأمريكية

لا يمكن اعتبار الاحتجاجات الحاصلة هذه الأيام في الولايات المتحدة مجرد ردة فعل على مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد أحد رجال الشرطة،
في الحقيقة يمكن القول إن هذه الحادثة كانت القطرة التي أفاضت الكأس، لكنها ليست السبب الوحيد لما سيلحق من أحداث.

محمد  بوقرورة / جامعة سطيف 1
الشعار الذي رفعه المحتجون «لا أستطيع التنفس» لا يعبر فقط عن الكلمات الأخيرة التي تلفظ بها جورج فلويد، بل يعبر بشكل «شاعري» عن شعور عام لدى فئات شعبية واسعة في الو.م.أ، الفئات التي «خنقها» النظام وأصبحت لا تستطيع التحرك داخله.
هذا الشعور بالعجز تغذى مؤخرا لدى «الجناح التقدمي» بعد «الإبعاد القسري» للمرشح الاشتراكي-الديمقراطي بيرني ساندرز، الذي كان يمثل بالنسبة لكثيرين الأمل في إجراء «تغييرات من داخل النظام» تخدم الفئات المذكورة آنفا. ساندرز الذي كان يحتل المركز الأول في استطلاعات الرأي للانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي خسر السباق بعد أن أصبح في شهري مارس/أفريل السابقين ضحية حملة إعلامية شرسة (من إعلام الحزب الديمقراطي نفسه) و تلاعبات سياسية من داخل الجهاز البيروقراطي للحزب الذي فضل فرض المرشح «الأكثر اعتدالا» (أي -في الحقيقة- الأكثر قربا للإيديولوجية النيوليبرالية السائدة في الولايات المتحدة منذ ثمانينات القرن الماضي). هذه الخسارة كانت بمثابة طعنة من المنظومة للأمريكيين الذين دعموا السيناتور ساندرز أملا في إصلاحات تخدم الطبقات العاملة، الطبقات الأقل فقرا والأقليات المضطهدة.
السيناتور ساندرز هو الآخر «لم يستطع التنفس» داخل النظام، فرغم حملة انتخابية ناجحة إلى أقصى حد إلا أنه اصطدم في النهاية بواقع أن النظام لا يقبل من يرفض الرضوخ لقواعده (ربما أحد القواعد الأساسية التي «خرقها» ساندرز كانت رفضه لقبول أموال متبرعي «وال ستريت» واكتفائه بتبرعات مسانديه)، وأنه لا يمكن أن يمر ذلك دون عقاب ولو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي لطالما تباهت بها المنظومة الأمريكية.«لا أستطيع التنفس» هي تعبير عن الاختناق الذي أصبح يشعر به الكثير من الأمريكيين في ظل نظام يقصي تدريجيا وبشكل تصاعدي فئات شعبية أكثر، الفئات التي «اختنقت» وأصبحت تبحث خارج تشكيلاته السياسية الرسمية (أي الحزبين الجمهوري والديمقراطي) عن انتماءات سياسية أكثر «تطرفا»، طبعا هذا ليس بالأمر الإيجابي ببساطة كما يمكن أن يعتقد البعض، فرغم أن الحركات التقدمية «الراديكالية» أصبحت تحظى بشعبية أوسع، إلا أن الأمر ينطبق كذلك على الحركات الفاشية الرجعية.الحركات الفاشية التي أصبحت أكثر قدرة على تسويق خطابها التبسيطي الذي يفسر المشاكل الاقتصادية التي ألمت بكثير من الأمريكيين -بعد أزمة 2008 بشكل خاص- بوجود المهاجرين (اليد العاملة الرخيصة)، الذي يربط المشاكل الاجتماعية والأخلاقية بوجود الأقليات، والذي يتهم الحركات التقدمية بتسببها في «الانحلال الأخلاقي» للمجتمع الأمريكي في إطار ما يسمى «الماركسية الثقافية».
بعد أزمة 2008 كانت الآمال موجهة نحو سيناتور أمريكي من أصل إفريقي من أجل القيام بتغييرات جدية ، فرغم انتماء باراك أوباما للمؤسسة the establishement إلا أن «الجناح التقدمي» راهن على هذا السيناتور الشاب. سرعان ما تلاشت هذه الآمال بعد أن تبين أن التغييرات التي أجراها أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي اكتفت بالشكليات البسيطة، هو الآخر لم يكن «يستطيع التنفس»، أو بالأحرى لم يكن يريد ذلك.
في 2016 أعلن «الجناح الفاشي» انتصاره بعد فوز الجمهوري الميلياردير دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، الانتصار الذي هو رمزي في الحقيقة، فترامب رغم خطابه الفاشي والرجعي ليس بذلك الزعيم الفاشي المؤدلج، هذا «الانتصار الرمزي» كان له الفضل في توحد الحركات اليمينية المتطرفة وتخندقها وراء زعيم الأمر الواقع de facto الجديد.
يمكن القول إن الحزب الجمهوري استطاع ولو نسبيا احتواء الحركات اليمينية المتطرفة بفضل خطاب شعبوي، لكن هذا الاحتواء المؤقت من المرجح أن ينتهي بتصادم بين جناح الحزب القوي الممثل للمؤسسة the establishement والذي هو أكثر «اعتدالا» والجناح اليميني المتطرف الصاعد داخل الحزب، هذا الأخير الذي لن يكتفي بلعب دور سلبي واستهلاك الخطاب الشعبوي للجناح القوي بل سيطالب بإجراءات حقيقية تخدم استراتيجيته وإيديولوجيته الفاشية.
الحزب الديمقراطي في المقابل وجد صعوبات أكبر في احتواء الحركات اليسارية التقدمية، يمكن أن يفسر هذا برغبة هذه الحركات لتغيير -سواء جذريا أو بشكل تدريجي- المنظومة الرأسمالية جوهريا (عكس الحركات الفاشية التي هي الأخرى تملك مشاكل مع المنظومة ولكنها تسعى لتغيير شكليات فقط دون المساس بالجوهر)، خيبة الأمل التي رافقت رئاسة أوباما بالإضافة للإقصاء الماكيافيلي لبيرني ساندرز من الفوز بالانتخابات الأولية للحزب في أفريل الفائت (تقريبا نفس الأمر حصل في 2016 ولكن بشكل أقل «فضحا») قادت الحركات التقدمية إلى الشعور بالاختناق داخل الحزب الديمقراطي، وهو ما يمكن أن يؤدي للقطيعة النهائية مع الحزب خاصة وأن هذا الأخير أصبح أكثر ميولا لليمين منذ ثمانينات القرن الماضي.
«لا أستطيع التنفس» هي جملة معبرة عن الوضع اليوم في الولايات المتحدة، المؤسسات السياسية أصبحت عاجزة عن توفير فضاء «للتنفس» لكثير من الأمريكيين، خاصة أولئك الأكثر فقرا، الأقليات وأصحاب الفكر التقدمي، هذا العجز ترجمته الاحتجاجات الأخيرة في شكل مظاهرات وأعمال تخريبية استهدفت بشكل خاص المباني الحكومية والمحلات الكبرى (وهما تجلي الكابيتول ووال ستريت).طبعا لا يمكن إغفال تأثير عامل أساسي في هذه الاحتجاجات، وهو العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يمكن أن نقول ببساطة أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من منظومة كاملة ذكرناها مسبقا وأنه دون تغيير في المنظومة التي تخلق العنصرية وتغذيها من الصعب معالجة الموضوع بشكل حاسم ونهائي.
الاحتجاجات الحالية لن تؤدي إلى تغيير جذري للنظام، ولا يرجح أن تتحول لثورة حقيقية، لكنها تشكل تحذيرا جديا ودليلا على فشل المؤسسات السياسية الأمريكية في احتواء الغضب الشعبي.
لا يجب على التيار التقدمي النظر بسذاجة للاحتجاجات الحالية على أنها مؤشر لقرب انهيار المنظومة، فصعود الحركات الفاشية يشكل فرصة للنجاة أو «جوكر» تستطيع أن تلجأ إليه المنظومة في حالة الشعور بالخطر (وهو ما حصل بشكل «هزلي» مع ترامب، وما حصل من قبل في عدة دول أوروبية آخرها إيطاليا)، الاحتجاجات الحالية في الولايات المتحدة هي فرصة للجناح التقدمي هناك من أجل أن يعيد تنظيم صفوفه ويستعد لمواجهة ستكون على جبهتين: جبهة المؤسسة the establishment «المعتدلة»، وجبهة الحركات اليمينية الفاشية.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com