رواية المفارقة التي فتحت باب السؤال على بداية النهاية ونهاية البداية
تقول غادة السمان: «الذاكرة والألم توأمان.. لا تستطيع قتل الألم دون سحق الذاكرة». فهل قتل «عمر» ألمه حتّى سُحِقت ذاكرته؟
د/ نبيلة عبودي
هذا ما ستُجيب عنه الكاتبة «ليلى عامر» في روايتها «نخب الأولى»، الصادرة عن دار خيال للنشر والترجمة. وعلى اِمتداد 147 صفحة يستطيل السؤال ليُرافق الأحداث، ويستنطق الشّخصيّات في قالب سردي جميل يعكس لغة الروائيّة وأسلوبها.
عندما يتلبّد الشعور.. تبرد المشاعر.. وتنسحب الذكريات تاركةً مساحات شاسعة للضياع.. يكون الألم أكبر من طاقة التحمل.. والحقيقية أقسى من أن يستوعبها العقل ويحملها الإدراك.. في عُمق الأنا المُعذّبة يَحفُر الوجعُ خنادق لليأس.. وفي وجه الأمل تُوصد كلّ الأبواب.. ولا يبقى له إلاّ الغروب وجهةً وحيدة. وحيداً عاش «عمر» تُـؤنسه رسائل من اِمرأة لم يتهاوى اِسمها أثناء زلزال النسيان الّذي ضرب ذاكرته. هي اِمرأة معجونة بماء الذكرى.. هي وشمٌ على القلب، خالد الأثر. ست أوراق يختصر مدادها قصة حب عاشت في رسائل تُذكِرُنا بفرانز كافكا وعزيزته ميلينا.. بغسان كنفاني وغادة السمّان.. بجبران خليل جبران ومي زيادة.. أوراقٌ اِبتدأت بها الرواية وبها اِكتملت.
«عمر» الرجل الّذي ظَلمَ نفسه.. حبيبته.. زوجته.. أبناءه والظُلم ظُلمات.. ظَلَمَ «مريم» التي أحبها وعاش لذكراها.. و»نبيلة» التي اِرتبط بها هاربًا من نفسه وحبه.. ظَلَمَ نفسه عندما أحب «مريومة» وتركها.. وأوهمَ أم أبنائه بالحب، لكنّه خانها وهجرها.. ليُعاقر الخمر ويُعاشر النّساء.. هو رجلٌ مُعلقٌ بين ربيع ماضيه وخريف حاضره.. بين عشقٍ يُعذبه وضميرٍ يُؤنبه.. «عمر» هل أنت في جبٍ عميق؟ تسألُ الكاتبة بتهكم لتُمِيطَ اللثام عن قصة رجل فَقَدَ ذاكرته ذات صدمة، فخانته ذاكرته.. لكن هل تخوننا الذاكرة؟
تخوننا الذاكرة وفي خيانتها رحمة.. يأخذ النسيان بيدنا وإلى بر الأماكن يُوصلنا.. لكنّه يتركنا.. وما أصعبَ المواجهة! تقف وحيداً أمام رياح الوحدة.. تبحثُ عنك، فلا تجدك.. وتضيع.. تضيعُ حقًا حين تفقد جزءاً منك.. تحاول التذكر.. ولا تعلم أنّ موتك في الذكريات التي رحلت.. وأنّ بعض حياتك في النسيان.
«مريم»: الحب الأوّل والأخير.. البداية التي اِنتهت والنهاية التي اِبتدأت.. تقول «ليلى» على لسانها في الصفحة57: «لم أكن أعرف أنّ للياسمين قوس قزح وعطرا من عطور الجنّة... لم أكن أعرف أنّ لون الياسمين سيمتدُ يومًا إلى ذاكرتي.. يتدفقُ عبيرهُ على جرحي القديم... ها أنا بعد رحلة وجع أُقابله من جديد.. صدفةً هي بحجم الأقدار.. بحجم الغياب الّذي طال.. وأي لقاءٍ كان؟»
تلتقيه بعد أن ترملت.. بيمينها تمسكُ «إلهام» وبشمالها «حسناء».. وفي القلب نبضٌ خافتٌ يستعدُ للوداع بعد أن نال منه السرطان.
«نبيلة»: أرهقها طيف اِمرأة سلبتْ لب زوجها وعقله.. تقول في الصفحة41: «كانت -مريم- تعيشُ بيننا كفرد من العائلة.. لا يراها سوانا أنا وهو». «نبيلة» التي تنازلت وتنازلت من أجل أبنائها ومن أجله أيضًا أملاً في عودته إلى نفسه وإليهم.. وهذا ما جاء في الصفحة97: «خططت للعودة.. خططت للاِحتفاظ به مهما كانت الظروف.. وفكرة المفاجأة كانت مُمتعة لي.. سآخذ الأولاد ونذهب ليلة الخميس». لكنّها كانت ليلتها الأخيرة.. كانت تنتظر «عمر»، وتفاجأت بصديقيه المخمورين اللذين نالاَ من اِبنتها ومنها.. وعندما حاولت المقاومة قُتِلتْ.
الفضيحة: هل ستصمد يا عُمر؟ أسأله، فتجيبني «ليلى» في الصفحتين 106-107: «لا شيء أسوأ من ذنب ترتكبه في حق من تحب... ليلة صاخبة في حضن عاهرة.. تمنحك الأسى مدى الحياة.. وفي الجهة الأخرى كانت هناك معركة بين العفة والقذارة.. بين الموت والحياة.. اِمرأة تحارب بشراسة لأجل حماية بناتها من شرٍ باغتها فجأة».
الحياة -كما تقول الروائية- «لا تُعاتب المُذنب فقط.. بل حتّى الّذي أسرفَ في الطاعة والإيمان..». رحلت «نبيلة» وتركت «سعاد».. الاِبنة التي كرهت أبًا قتلها ووأد أحلامها، فهجرته.. تمنت موته.. لكن كان ما كان. ولا تزال الفتاة تحمل وزراً هي بريئة منه.. ولا تزال الجُملة ذاتها تُلاحقها «فضيحة عمر».. وهي اِبنته وإن رفضت.. تقول في الصفحة122: «وهكذا صار عام قتل والدتي واغتصابي تاريخًا لمدينتنا التي تنسى كلّ شيء إلاّ الفضائح.. لم ينقضِ الشهران حتّى أصبحت على مصيبة أخرى... سمعتهم يتهامسون: هذه الصغيرة حامل». ولا تزال تعاتبه: «إلى من سأهرب؟ أنتَ قاتلي.. تقبع هناك.. جسدٌ بلا روح.. وأمّي تحت التراب تتآكل عظامها التي لوثها صاحبك القاتل.. من سيحميني من ذبحي ثانيةً.. أنا المذبوحة بسكين صدئ؟».
نخب «مريم»: كلّ الكؤوس كانت لها.. «لمريم» التي أخلصت.. وانتشلته من رُكام الفضيحة والهجران.. وقفت أمام الجميع دون صدر وأعلنت زواجها منه.. ومن تراه يُبارك زواج اِمرأة تحتضر من جثة؟! هو الّذي لم يبقَ منه غير جسدٍ مستسلم للعراء.. وبقايا اِسم يُومضُ في لحظات الشرود. فيردّد «مريم».. ومن غيرها؟
«نخب الأولى» رواية بوليفونية تتجاوز منطق الرواية المونولوجية والسارد المُطلق، فتفسح المجال أمام تعدّد الأصوات: عمر.. مريم.. نبيلة.. وسعاد.. وهذا ما يسمو بالنّص إلى المستوى القيمي الإنساني المجرّد عن اللواحق المادية. ويعكس هذا النمط من الكتابة اِنفتاح الكاتب على ديمقراطية الأفكار وحرية الاِختيار.. حيث تأتلف الشخصيات في الموضوع وتختلف في تعاملها معه، وهذا ما يمنح القارئ مساحة للاِختيار بين المواقف دون إكراه من الكاتب.
كما تتضمن الرواية بُعداً نفسيًّا يعكسُ عُمق الألم الّذي تُعاني منه النفس الإنسانيّة.. إنّها تجربة خاصة عاشتها كلّ شخصية بطريقتها الخاصة، فمنهم من اِختار الهروب من الواقع مثل «عمر».. ومنهم من اِختار طريق التضحية مثل «نبيلة».. ومنهم من سار في طريق المواجهة مثل «مريم».. أمّا «سعاد»، فلاتزال تلوم والدها وتُعاتبه وتُحَّمِلُه مسؤولية كلّ ما حدث لهم.
تُحلق كلمات الرواية فراشات تُزين ربيع الخيال.. وينساب الأسلوب لذيذاً يُنعشً النفس العطشى للقراءة.. «نخب الأولى» رواية المفارقة التي فتحت باب السؤال على بداية النهاية ونهاية البداية.