المسرح العربي بات يستدعي التّراث للهروب من الواقع
يؤكد المسرحي العراقي علي عبد النبي الزايدي أن المسرح العربي أصبح يلجأ إلى الماضي هروبا من الواقع و إكراهات الرقابة بكلّ أشكالها. ويشدّد على أنّ الكتابة للمسرح موقف لا يقبل التنازل ويخلص للمنطلق الإنساني، ويقول في هذا الحوار الذي خصّ به النصر أن ينتمي إلى عائلة العبث واللامعقول حتى وإن أصبح اللامعقول معقولا الآن في العراق.
* حاوره: ج علاوة وهبي
* أنت الآن واحد من أهم صناع المشهد المسرحي في البلاد العربية وقدمت نصوصك في عدة دول عربية وحازت جوائز. كيف تنظر الى واقع المسرح وآفاقه في الوطن العربي؟
-لي وجهاتُ نظرٍ في ما يقدّم عربياً، وأنا المطلع بشكل واسع منذ سنوات طويلة قارئاً ومشاهداً ومشاركاً، ويمكن لي تقسيم مناطق الاشتغال عربياً الى عدة تقسيمات فرضتها سياسة تلك البلدان بحكم (الأعراف، والدين، والحرام، والعيب، والسياسة، والجنس...الخ) وتلك صارت تابوات لا يمكن الاقتراب من مواضيعها مسرحياً، لذلك نجد بعض البلدان العربية تهرب الى الماضي وتستدعي التراث لتهرب من قضايا الواقع ومشكلاته وأزماته التي لا تنسجم مع المشهد السياسي داخل وطنهم، وفي أوطان أخرى راحت الحروب والأزمات تهيمن في مواضيع رجالات المسرح، وأخرى خاصة في المغرب العربي نجد مواضيع التطرف الديني حاضرة وهي تسخر منها بطريقتها الخاصة، وربما فعل السخرية أحد أهم أركان خشبات المسارح عندهم، إضافة الى جرأتهم في تناول مواضيع مسكوت عنها اجتماعيا وسياسياً الى حد ما، في العراق مثلاً نجد ان المسرح عندنا تأثر بحجم الكوارث التي حدثت له منذ خمسين عاماً والدكتاتوريات التي تلاحقت عليه وما زالت مستمرة، اضافة الى التطرف الديني بمعناه المذهبي الذي استطاع أن يهدّم بنية المجتمع في العراق عموما وجعله خائفاً من القادم أو المجهول دائماً وسط سلطات حزبية متخلفة وفاسدة تتخذ من الاسلام والمذهب غطاءً أو قناعاً لأفعالهما الاجرامية، لذلك أقول هذا المناخ في مسرحنا العربي ربما شكل في جزء منه حالة الاختلاف في الافكار وطرحها على خشبات المسارح وفي نفس الوقت أراه غير متحرر من سلطة الأنظمة بل أن بعضها يمثل وجهة نظر السلطة وهذه كارثة بالنسبة لي.
* ماذا يعني لك التجريب في المسرح؟
-بالضرورة أجد التجريب خاصة في الكتابة للمسرح أحدى المناطق الجوهرية لخلق نص مسرحي مغاير، وأشير أن العروض المسرحية هي من تطارد النصوص المسرحية وليس العكس، أي أن فعل الكتابة المغايرة تنتج عرضاً مغايراً. وبالنسبة لتجربتي أجدني أجرّب بأفكارٍ يمكن لها أن تحققَ فعل الصدمة على مستوى القضايا التي تطرحها نصوصي، وفي الوقت نفسه تحاول هذه النصوص أن تجرّب على مستوى الشكل الذي ينسجم مع (الآن) بمعنى مواكبة حركة الحياة والمجتمعات، والتطور الهائل على مستوى التكنولوجيا ووسائل الاتصال وسواه.. كلها تحتم أن فعل التجريب لا يمكن له أن يتوقف، بالرغم من أننا ربما لا نلمسه عربياً الا بحدود على مستوى الكتابة بفعل المخاوف وقمع حرية الرأي إلاّ انه أي التجريب يظل أكبر الطموحات لدى كتاب المسرح أن ينتجوا أعمالا مثيرة وجديدة في افكارها وأشكالها، المتحقق ضئيل جداً، ولكن الأهم هو أن المحاولات مستمرة.
* نلمس في نصوص لك روح اللامعقول او العبث ترى ما الذي جعلك تلجأ الي هذا التيار المسرحي في بعض نصوصك. هل هو شعور بعث الحياة أم هو اليأس والاحباط والدمار الذي تخلفه الحروب والأزمات بشكل عام؟
أنا أشبه صاموئيل بيكت، ويوجين يونسكو، وآدموف وآرثر ميلر، ووو... لا فرق بيننا فقد عشنا نفس جحيم الحرب العالمية الثانية، ورأيت وطني يحترق ويدمر ويقتل بنفس الآليات والأفكار تلك، كنت شاهد عيان على نار الحروب التي لا تعد، وشاهدت كيف يقتل الناس الأبرياء فيها، وعشت الخوف بكل تفاصيل، والرعب والهلع والقلق، فقدنا الأمل بالعيش الآمن، حياتك مهددة، يمكن ان يقتحموا بيتكم في أية لحظة ويقتلونك وأهلك بكل ببساطة.. لذلك أقول أن كتاب مسرح اللامعقول هم مجموعة من أصدقائي بالرغم من أنني أدرك تماماً أن اللامعقول الآن تحوّل الى (معقول) في واقعي العراقي.. وربما نحتاج الى ناقد مثل مارتن ايسلن ليشير بدقة الى شكل الكتابة التي أكتبها في داخل الجحيم العراقي، وفعلا هناك من أشر الى مناطق الإحباط اليأس والخوف في تجربة الكتابة عندي وظهرت دراسات أكاديمية تؤكد ذلك، وهذا كله بالتأكيد نتيجة للحرائق التي عشتها وما زلت، ما أميل له على مستوى كتاب اللامعقول هو التمرد على شكل الكتابة الأرسطية التي كانت سائدة منذ لحظة الكتابة الإغريقية الأولى الى ما بعد عام 1945 الموعد الحقيقي لشكل النص بمفهومه الحديث، فـ صموئيل بيكت على سبيل المثال لم يكن يائساً أو خانعاً وهو ينظر للحياة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. بل على العكس، هو يريدنا أن نتمرد ونتحرّر من فعل الانتظار غير المجدي باتجاه تحررنا من سلطة الآخر، وسواه من كتاب اللامعقول.
* يقال إن الصمت هو أكبر ميزات الدراما الحديثة وأنت الكاتب هل تعتقد أن فعلا هناك اختلافا في أعمالك بين مواقف الصمت ومواقف الكلام.. وايهما تفضل؟
-الكتابة للمسرح.. موقف لا تنازل عنه مهما كان شكل السلطة القامعة، موقف من السلطة المنحرفة والأفكار المتطرفة، موقف من أعراف المجتمع، موقف من الحياة نفسها محاولاً اعادة صياغة سؤال الوجود الذي وجدت نفسي أعيشه دون موافقة مني بالعيش، موقف من التعاسة في حياة لم أكن سعيداً فيها على الإطلاق، وهكذا تجد نصوصي المسرحية تصرخ رافضة أولئك القتلة، رافضة الدكتاتوريات بشتى تسمياتها وثيابها، ترفض أن تكون مستسلمة وخانعة وذليلة.. وهو منطلق انساني برفض الانسان للظلم والقهر. هذا الأمر وأعني (الموقف) صار جزءً من تكويني ككاتب وانسان، وأصبح أحدى أهم العوامل التي تدفعني للكتابة لكي أسجل فيها مواقفي من عبث الحياة بمجملها ولن اتنازل أو التزم الصمت أمام ما يحدث مهما كانت النتائج.