في استعادة الشاعر سعدي يوسف
يرحل سعدي يوسف، شاعر الحرية والاِختلاف والمنفى الاِختياري المرغوب. يرحل الشيوعي الأخير بعيداً عن وطنه، عميقا في منفاه اللندني، يرحل محفوفا بالشّعر واللّغة ووشوشات المنافي وذكريات العراق والكثير من مُدن عبرها واستقرت في روحه وجروحه. سعدي الّذي عاش لسنوات طويلة في الجزائر، قضى أكثرها في مدينة سيدي بلعباس حيث كان يعمل في التدريس في هذه المدينة (1964/1971)، ظل عاشقًا للجزائر، قريبًا من سماء مُدنها التي خلدها في قصائده، منحها من روحه وشغفه وشعريته، وفي كلّ مرّة عند اِنهمار ينابيع الحنين، كان يبثها عشقه وأشواقه في سِلال اللّغة وعبر ندى ذكرياته التي تزهر في صباحات الجزائر المقيمة في أعماقه. في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، يستحضر بعض الكُتّاب والشعراء الجزائريين، سعدي يوسف الشاعر والمترجم وعاشق الجزائر الكبير.
إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
مليود حكيم اِستطاع أن يخلق حساسية جديدة في الشِّعر العربي المعاصر
يفلت الشاعر الراحل سعدي يوسف (1934-2021) من كلّ محاولة لتصنيف منجزه ومساره، ومن كلّ التحديدات التي حصرت الحداثة الشِّعرية العربية في خانات ثابتة وواضحة، فهو خارج الأجيال الشِّعرية، وخارج الحساسيّات التي تداولت تحوّلات الشِّعر العربي.. لقد كان رحالاً في الجغرافيات، منفيًا مُستمتعًا بمنافيه حد الأسى، شفافا تدله بصيرته الشِّعرية على لآلئ الشِّعر الحقيقي.. كان يقيم دائمًا في المابين، في الهامش الصامت للحياة، هاربًا من البلاغة الباذخة، والاِنتصارات المجلجلة، والصخب الفارغ.. اِنتصر طيلة حياته للبساطة ولأهلها، وللأمكنة وذاكراتها.. كما عرف كيف يُحوِّل منافيه إلى اِستراحات محارب، يعرف كيف يلتقط من المرارة عسلها المعجز، ويزرع حبقًا ونباتات منزلية أليفة في كلّ نافذة أطلَ منها، عابراً أو سائراً إلى ضفاف أخرى، ومحطات مؤقتة، ومسالك غير نافذة، ومنعطفات موحشة، أو نهايات تبقى مفتوحة على المجهول والغامض..
منذ بداياته الأولى في الخمسينات، اِختار أن يكتب قصيدة مختلفة، تنحاز لليومي والواقعي، والتفاصيل، متخففةً من ثقل البلاغة وقريبة من السرد، والتصوير السينمائي، بعيدة عن البطولات الوهمية والتمركز حول الأنا، كما كانت سائدة في شعر الرواد، وبسيطة بكثافة محيرة، وهندسة دقيقة وصارمة، وقدرة على التركيب والبناء بأدوات لغوية قليلة.. ولا شك أنّ الدرس الأوّل الّذي يمكن تعلمه من شعر سعدي يوسف، هو الكتابة باِستمرار، والتمرين المتواصل والمحاولة التي تخفق مراراً وتنجح أحيانًا، للوصول إلى الحصول على المعدن النفيس بعد غربلة طويلة وصابرة للكثير من التراب والشوائب.. إنّها مصهر يصفي، وعمل مضن ومُتعب للمحافظة على البصمة الشخصية، وضبط الموازين، ودوزنة الأوتار، حتّى اِكتشاف الصوت الصحيح والفريد.. تلك هي الشِّعرية الفادحة التي وجدها سعدي يوسف في نهاية الستينات وبداية السبعينات في إقامته في الجزائر، أين كتبَ ديوانه المنعطف «الأخضر بن يوسف ومشاغله». هنا ألهمته سيدي بلعباس والبحر المتوسط، ما سيشكل علامته المُميّزة، وإيقاعه الخاص به، وعالمه الشِّعري الّذي سيطوره فيما بعد، ويبقى ملتبسًا به، ومنحازاً لمعجم خاص، وإيقاع صارم، وغنائية سلسلة قلما وجدنا مثلها في الشِّعر العربي.
ما يلفت الاِنتباه في تجربة الراحل سعدي يوسف، أنّها لم تستسلم لِمَا حققته من فتوحات وكشوفات شكلية ومضمونية، لكنّها بقيت مهجوسة بالتجريب المتواصل، وعدم الاِستقرار في صياغات صارت لصيقة بمعجمية الشاعر وتقنياته في الكتابة، لكن المدهش هو قدرة الشاعر على إعادة تطويع مادته، وتحويلها، وتوجيهها إلى آفاق أخرى.. وترحيلها إلى مجاهل يستلهمها من حياة الترحال والاِكتشاف والتوغل في خرائط الأمكنة، والمُدن، والأحداث، واستلهام الشِّعريّات المختلفة عبر مسار من الترجمة والقراءة، ولعلّ فِعل الترجمة هو من أعطى الشاعر هذه المرونة في الاِستفادة من تجارب شعرية متعدّدة ومتنوعة، إذ حتّى اِختياراته في الترجمة تنم عن معرفة دقيقة بالشِّعر العالمي، وبِمَّا عرفه من تحوّلات في العصر الحديث، إذ قلما اِحتك شاعر عربي بشعراء عالميين مثلما فعل سعدي يوسف، وكانت ترجماته لريتسوس ووالت ويتمان، ولوركا، وأونغاريتي، وفلاديمير هولان، وفاسكو بوبا، ولي باي، وغيرهم ذات تأثير خطير وعميق في شعراء قصيدة النثر اِبتداءً من السبعينات. لقد اِستطاع سعدي يوسف أن يخلق حساسية جديدة في الشِّعر العربي المعاصر دون أي اِدعاء، وتأثيره كان سريًا وخفيًا في أغلب التجارب الشِّعريّة، حتّى لكبار الشعراء، مثل محمود درويش، وسليم بركات، وعباس بيضون، وأمجد ناصر، وغسان زقطان..
ما يستوقفنا أيضًا عند سعدي يوسف، خاصةً في سنواته الأخيرة، هو حوارياته مع التراث الشِّعري العربي والعالمي، ومواصلة التجريب واستعادة أشكال شعرية قديمة، مثل الدوبيت والسوناتا والرباعيات وغيرها من الأشكال الشِّعرية التي تُبرز قدرة سعدي يوسف على تجريب الإيقاعات المختلفة، وإحياء المحاولات التجديدية في الشِّعر العربي، واستنفاذ كلّ الممكنات العروضية والموسيقية، وكذا الذهاب إلى اِستقصاءٍ عميق لخصوصية شعرية عربية، أصبحت نادرة في المتداول من شعر الآن، يفتقد لما يميزه ويجعله مختلفًا..
لا شكّ أنّ تجربة سعدي يوسف تبقى مفتوحة للمُساءلة والنقد، لأنّها تمتد لأكثر من ستين سنة، عرفت كلّ تحوّلات الشِّعر العربي الحديث وانتصاراته ومآزقه.. وكذا الخصومات والصراعات التي رافقته، لكنّها تُظهر أيضا الحيوية التي حركت رغبة جامحة في الثورة الشِّعرية، وتحقيق حضور للشِّعر العربي يكون منخرطا في العصر، ومرتبطا بأسئلته..
أستعيد سعدي يوسف، كلما زرتُ سيدي بلعباس، وأتوقف عند الأمكنة التي حضرت في شعره، والوجوه التي غابت أو تلاشت في النسيان.. المعالم التي انطمست واندثرت، فلم تعد المدينة كما كانت في بداية السبعينات، مفتوحة على الدهشة والأمل، وعلى الحيوية الجموحة.. ذلك زمن مضى وانقضى، والقصيدة وحدها دليله وأثره الباقي.. أستعيد سعدي في باتنة أيضا في إقامته الثانية في الجزائر، وفي كلّ المناطق التي زارها وألهمته.. وتبقى في ذاكرتي صورة ذلك الفندق في العاصمة، ذو الطراز الكولونيالي بأدراجه الحلزونية الصاعدة وعتمته الكامدة، كما يتجلى في قصيدة لسعدي يوسف.. أو صورة ابن خلدون عابراً المغرب العربي، حيث تركنا النخل ذاهبين إلى المنفى.. نهايات الشمال الإفريقي، وجرح الشمس النازفة، والبحر الأبدي بزرقته الشاحبة..بقيت الجزائر حاضرة مشعة في ذاكرة الشاعر سعدي يوسف، وقد اِستعادها في آخر قصيدة كتبها قبل أن يسلم روحه في الفجر.. بقيت تلك السنين، أين عرف النجاح الكبير شعريًا، تمنحه النّور وتُخفِّف عليه وطأة المنافي الأخرى.. إذ بعد كلّ الخسارات التي يحملها الشاعر وهو منذور لها، تبقى الومضات العميقة التي أشعلت الرّوح والذاكرة.. سيبقى سعدي يوسف علامة مضيئة في تاريخ الشِّعر العربي، والمواقف المقاومة للظلم والاِستبداد.. فالسلام لروحه أينما كان الآن في أثير القصيدة التي طالما طاردها..
أحمد حمدي اختار الجزائر حين ضاقت به بلاد الرافدين
من أين أبدأ الحديث عن سعدي يوسف؟ تلك القامة الكبيرة والعالية في سماء الشِّعر العربي. وذلك الطائر الحر الّذي يأبى الخضوع والخنوع. وروح هذا الطائر هي التي دفعته لأن يُحلق في سماء الجزائر «بعيدا عن السّماء الأولى» وأن يختارها عندما ضاقت به بلاد الرافدين.. كان ذلك بالنسبة للجزائر عشية اِسترجاع السيادة الوطنية وبالضبط العام 1964 حيث راح يُساهم في تعليم أبناء الجزائر بمدينة سيدي بلعباس. كانت الجزائر في حملة اِسترجاع الذات، ونخبة الكُتّاب الجزائريين بالعربية محدودة جداً ويغلب عليها الطابع التقليدي، وهكذا يجد سعدي يوسف نفسه وسط الفلاحين والعُمال والبسطاء فاندمج فيهم وكاد يهجر الشِّعر.
في العام 1972 يرجع إلى العراق وقد سقط نظام نوري السعيد، ولا يعرف شيئًا عن الكُتّاب الجزائريين، كان جيل السبعينات قد بدأ يتبلور ويتصدر الساحة الثقافية، وقد فرض الشِّعر الحر نفسه، شخصيًا تعرفتُ على اسم سعدي يوسف في الستينات بواسطة الصُحف المشرقية، ولم أكن أعرف أنّه يعيش بالجزائر إلاّ في منتصف السبعينات. عندما صدر ديوانه الشهير (الأخضر بن يوسف ومشاغله).
سنحت لي الفرصة أن أكون موفد صحيفة المجاهد الأسبوعي لألفية الفيلسوف أبو نصر الفارابي التي أشرفت عليها اليونسكو... في بغداد أردتُ أن أجري معه مقابلة صحفية لكن حيل دون ذلك بشتى الطُرق. بعدها أوصلني إلى باب مجلة «التراث الشعبي» شاعر تونسي نسيتُ اسمه يعيش لاجئًا ببغداد، دخلتُ للمقر دلني الحارس على مكتبه طرقتُ الباب فتح الباب ووجدت نفسي معه وجهًا لوجه بقي وافقًا يتأملني أردتُ كسر الحاجز فعرفته بنفسي فانشرحت أساريره، وراح يسألني عن كلّ شيء في الجزائر فقلت له (كلّ شيء تغير في الجزائر.. هناك حركة أدبية نشطة وشعراء وكُتّاب شباب اِطلعوا على دواوينك ويعرفونك جيدا)، ثم فجأةً قال لي بصوت خافت جداً (خذ حذرك هنا كلّ شيء تحت الرقابة).وفي نهاية السبعينات دعته وزارة التعليم العالي (دائرة النشاط الثقافي مصطفى كاتب) كنتُ من ضمن الذين اِستقبلوه... كان مُنبهراً بالجزائر الجديدة؛ فقرر العودة إلى التعليم في الجزائر، وبالفعل تدخل الأستاذ عبد الحميد مهري ليتم تعيينه بجامعة باتنة بعد مرورٍ قصير بسيدي بلعباس.
قلولي بن ساعد لم يكن شاعرا فقط، بل كان أيضا مترجما بارعا
مِمَا لا يُعرف كثيرا عن الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف الّذي وافته المنية مساء هذا السبت في منفاه ببريطانيا أنّه لم يكن شاعراً فقط بل كان أيضًا مترجما بارعًا.
وآخر ما قرأت له من ترجمات ترجمته الرائعة لكتاب شهير لهنري ميللر خصصه للشاعر الفرنسي رامبو بعنوان «رامبو وزمن القتله». وسعدي يوسف الّذي لا يرى نفسه مُترجمًا محترفًا مثلما جاء في المقدمة القصيرة التي كتبها في مطلع هذه الطبعة العربية لكِتاب هنري ميللر «رامبو وزمن القتلة» وأنّه مثلما يقول: «لم يترجم أبداً في حياته نصًا بناءً على تكليف أو لقاء مال بل يترجم فقط ما يعجبه فيتوق إلى مشاركة القُرّاء في الاِحتفاء به» .اِحتفاءً جعلني أعتقد أنّي حين عثرت على هذا الكِتاب قبل سنوات بالمعرض الدولي للكتاب بالجزائر بجناح دار المدى كمن وجد نفسه أمام كنزٍ ثمين بل هو بالفعل بمثابة الكنز الثمين جداً. وهذا الكِتاب في تقديري من الكُتب القليلة التي تشعر بأهميتها حين تنتهي من قراءته بأنّك قرأت حقًا مادة فكرية وإبداعية تستحق ما دفعته مقابل ذلك من نقود قليلة.
إدريس بوديبة مغامرته الشعرية الحقيقية بدأت في الجزائر
العالم يزداد يُتمًا وضنكًا برحيل الشعراء، «سعدي يوسف» الشاعر البصرواوي الكبير، العميق في الحرية والشِّعر يُغادرنا للأبد بعد رحلة طويلة أمضاها بعيداً عن أهله وعراقه. ستظل ذاكرة المثقفين الجزائريين مُنتفضة بمشاغل ذاك «الأخضر» الّذي عاش بمدينة سيدي بلعباس وباتنة، ونشر العديد من القصائد المُستلهمة من طبيعة وبساطة وعفوية الإنسان الجزائري في يوميّاته وشؤونه الصغيرة، ويمكننا أن نسمي هذه الفترة في حياة الشاعر المُميزة بنصوصها ومناخاتها بالمرحلة الجزائرية.
إنّ المُغامرة الشِّعرية الحقيقيّة لهذا الغريب الرافض المنتشي بعزلته بدأت من الجزائر لتجعل منه شاعراً كبيراً وقطبًا من أقطاب الحداثة الشِّعريّة العربيّة المعاصرة بالنظر لمنجزه الإبداعي الضخم المتنوع فقد ترك العديد من الدّواوين والترجمات الهامة، كما كان قارئًا نهمًا للآداب الأجنبية، وترجم بغزارة عدة أعمال منتقاة لشعراء عالميين مهمّين أمثال: والت ويتمان، يانيس ريتسوس، لوركا، قسطنطين كافافي، فلاديمير هولان وغيرهم. كما ترجم للروائي الأمريكي هنري ميلر.
كان يختار النصوص «المؤثّرة» التي ينقاد إليها جماليًا، مُستمتعًا بقراءتها ومجازاتها، وقد يصل هذا الإعجاب لأن يُضمِّن في أعماله بعض الاِقتباسات الاِستهلالية لإشاعة الإحالات البعيدة زمنيًا والقريبة برنينها ومتنها. وفي الحقيقة لقد عوّدنا بعض الشعراء العرب على الاِشتغال بإبداعية عالية لترجمة عيون الشِّعر والأدب العالمي أمثال: حسب الشيخ جعفر وممدوح عدوان وغيرهم.
إنّ سعدي يوسف يُمثّل مدرسة شعرية مستقلة في توجهاتها وخياراتها الفنية، بالاِعتماد على الجملة البسيطة والنزوع الحسي والبنية السردية الدرامية والتقاط التفاصيل اليوميّة المهملة والكتابة بلغة مقتصدة لا تجترّ ولا تكرّر، محتميًا بالأنطولوجيات المضادّة للتطابق والتّتابع، منفلتًا من رقابة الذات، ومبدعًا لأسئلته واختلافه. كما يجدر بنا أن نُشير في هذه الكلمة الموجزة أنّ أهم ما يُميز الممارسة الشِّعرية الخلاّقة لسعدي يوسف أنّه كان جسراً وسماءً مفتوحة على الشِّعر الثوري العالمي من أمثال الشاعر بابلو نيرودا ومايا كوفسكي وناظم حكمت. وفي الختام نتوقف عند هذا المقطع من قصيدة «America!America» وهو رؤية اِستشرافية لكلّ ما حدث في العراق من اِستبداد واحتلال، هذا البلد العظيم بثقافته وتاريخه، يقول سعدي يوسف مخاطبا أمريكا: «خذي اللحية الأفغانية وأعطنا لحية والت ويتمان الملأى بالفراشات/ خذي صدّام حسين واعطنا أبراهام لينكولن أو لا تعطنا أحدا».
محمّد ساري كان يكن حبًا كبيرا للجزائر وللجزائريين
يرحل الشاعر في منفاه في لندن. شاعر بحجم سعدي يوسف يقضي حياته متنقلاً بين بلدان عربية كثيرة، يبحث عن الاِستقرار في كنف الحرية وكرامة العيش لينتهي به المطاف في عاصمة أوربية ككثير من كبار المثقفين العرب. ألاّ توجد عاصمة عربية يمكنها اِستقطاب هذه القامات الأدبية والفكرية ومرافقتها إلى آخر أيّامها؟
كان لي شرف اللقاء به في دمشق في عام 1997 في مكتب مجلة «المدى» خلال إقامة قصيرة هناك. وهو يكن حبًا كبيرا للجزائر وللجزائريين. رأيته مرّة ثانية في معرض الجزائر الدولي للكتاب قبل أربع سنوات ولكنّه كان مريضًا واهنًا لا يقوى على إطالة الحديث. رحمه الله برحمته الواسعة ودامت قصائده المدوية في ذاكرة الثقافة العربية.
بوداود عميّر شاعر مختلف خبير في الكتابة وفي الحياة
يُعتبر سعدي يوسف من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، خبرة طويلة في الكتابة وفي الحياة. عندما قرأت أوّل مرّة ديوانه «الأخضر بن يوسف» أحسست أنّني أمام شاعر مُتميز ومُختلف، في لغته وفي اختياراته؛ مع شعر سعدي يوسف لا مكان للتهويم أو اللا معنى، قصائده معان ودلالات وعبر ولغة راقية. منذ تلك اللحظة، تلك الدهشة، أدمنتُ على قراءة قديمه وجديده، من حسن الحظ أنّه كان يحرص على نشر قصائده الجديدة في الصُحف والمجلات العربية وفي المواقع الاِلكترونية وعلى صفحته في الفايسبوك؛ فقد كان يؤمن بمقاسمة الإبداع مع قرائه، بعيداً عن اكراهات النشر.
سعدي يوسف مختلف في شِعره وأيضًا في شخصيته ومواقفه ونظرته للنّاس والأشياء. هكذا لم يكن يعترف بالوضع السياسي والديني السائد في العراق، رافضًا العودة إلى بلده في ظل الوضع القائم. يشعر بالفزع من أشباه المثقفين: «أنا آنَسُ بالنّاسِ. لكني أشعرُ بالفزَعِ من المثقفين؛ وإذْ أراجعُ سيرتي أرى أنّ فترات إبداعي الأكثر امتداداً، هي تلك التي لم ألتقِ فيها بأولئك المثقفين». يصفُ أوروبا، التي يقيم فيها منذ أكثر من 25 سنة بـأنّها: «أوروبا المعقَّمة، الكالحة، أوروبا الصامتة بأهلِها المغلَقين، وكِلابِها الصامتة. لا صديقَ، ولا رفيقَ. حتّى أبناءُ ما كان بَلَدَكَ، أمسَوا أحياءَ-موتى، لِفَرْطِ محاولتِهم تقليدَ مَن يعيشون في كنَفِهم».
يحمل الشاعر سعدي يوسف محبّة خاصة للجزائر «الجزائرِ تلك التي آمَنَتْني، سلامْ»، يقول في قصيدته «حسين داي». يعترف أنّ فترة إقامته في الجزائر ما بين 1964 و1971، هي فترات إبداعه الأكثر امتداداً، «فترةَ غنىً وتجارب، أسفرَتْ عن ديوان: -بعيداً عن السّماء الأولى-». هكذا كتب شعراً جميلاً عن الأماكن والمُدن الجزائرية التي أقام فيها، عن تلمسان ومغنية وسيدي بلعباس وحسين داي في العاصمة. وهكذا ترجّل الفارس عن صهوة جواده.