الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

عن جـدوى مُقدّمـات الكُتـُب

يلجأ كُتّاب وأدباء إلى كُتّاب وأدباء آخرين ليكتبوا لهم مقدمات أو توطئة قرائية لكُتبهم سواء في مستهلها أو على أغلفتها. الأمر لا يقتصر فقط على الجيل الجديد، فحتّى بعض الكُتّاب الكبار لا تصدر كُتبهم إلاّ بمقدمة من كاتب آخر. فما الّذي يدفع الكُتّاب إلى طلب تقديم أعمالهم؟ وما فائدة وما جدوى التقديم الّذي يتصدر الصفحات الأولى من العمل الأدبي (أو على خلفية الغلاف): شعراً وقصةً وروايةً، وحتّى دراسات نقدية صدرت الكثير منها بمقدمة.

إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

 وهل هي نوع من اِتكاء الكاتب على اسم ما والاِحتماء به، أم هي لضرورة فنية يُؤمن صاحب الكِتاب بجدواها وأهميتها؟ وهل هي مفتاح لشهرة في الأوساط الأدبية؟ وهل هي شهادة تنصف النص وكاتبه، أو تدعمه وتباركه؟

السعيد بوطاجين كاتب وناقد ومترجم
التقديم ليس شهادة زور لكنّه موقف واع من الكتابة
التقديم ليس ظاهرة من حيث إنه متواتر عبر الوقت، وأمّا الظاهرة فحالة اِستثنائية شاذة، ومن ثم ضرورة تجاوز هذا الخلط.، يمكن أن يدخل التقديم في باب العتبات، بمفهوم جيرار جينيت في عِلم السرد، أو في خانة المحكيات المتقدمة، من منظور غريماس في المقاربات السيميائية، على الأقل كشكل دخيل على النص، بصرف النظر عن وظيفته وعلاقته بالمتون، وعن جدواه الفعلية في مختلف المنشورات.
هذا التقليد ليس مُستحدثًا إذن، وهو شائع في أوروبا وأمريكا، في الإبداع الأدبي وفي الدراسات النقدية مع أسماء مكرسة عالميًا، وليس مع الكُتّاب والنُقاد المبتدئين فحسب، كما يمكن أن نقرأ في بعض الكتابات التي لا تؤسس على معرفة بالواقعين الأدبي والنقدي. هناك نقاد بارزون يضعون كلمات لنقاد ليسوا أقلّ شهرة وشأنًا، كما فعل غريماس، على سبيل التمثيل.
قد يتخذ التقديم عِدة أشكال، كما يمكنه تأدية وظائف مختلفة، بحسب المقاصد، ومنها: تقريب الكِتاب من المُتلقي في حال وجود إشكالات مفهومية أو معرفية أو مصطلحية أو فلسفية أو منهجية وجب شرحها أو التنبيه إليها لجعلها قابلة للفهم والإدراك، كما يمكن تقديم الباحث نفسه كأكاديمي قليل الاِنتشار لاِعتبارات كثيرة، ومنها: اِهتمام الباحثين بمؤلفين دون آخرين، تركيز الجامعات والمخابر ودور النشر والإعلام الكلاسيكي على أسماء دون أخرى، على أهميتها.
سيكون التقديم دعمًا لهؤلاء الكُتّاب الذين عادةً ما يكونون ضحايا الإغلاق. ينسحب ذلك على المجالات الإبداعية المُختلفة، وبمستويات أيضا. الحالة الأولى تتمثل في إخراج بعض الكُتّاب والشعراء من الهامش لأنّهم يملكون تجارب راقية، لكن المراكز الضاغطة لم تسمح لهم بالظهور، والأمثلة كثيرة عن هذه العينات التي غدت ذات أهمية لأنّ التقديم أسهم في إبرازها بِمَا يمكن أن يكون بمثابة إشهار. القيمة الفعلية لهذه المنشورات لا يصنعها التقديم، بل التنبيه إلى أهميتها هو الّذي يمنحها حضوراً.
الحالة الثانية تتعلق ببعض الكُتّاب المكرسين الذين يعتبرون التقديم تقليداً مُلازمًا لكتاباتهم. كما يفعل القاص زين الدين بومرزوق والروائي الصديق حاج أحمد الزيواني في كلّ المؤلفات، ليس بحثًا عن الشهرة أو الاِنتشار المجاني، بل رغبةً منهما في تكريس نوع من الشراكة بين النقد والإبداع في إطار حوار فني متآلف، دون الإعلاء من شأن الأعمال المتواضعة.
التقديم، في جوهره، ليس تزكية لكلّ ما يقرأ من تحف وهالات، وخردوات أيضا، وليس تنازلاً عن القناعات الفعلية، أو شهادة زور تبنى على العلاقات المتبادلة بين طرفين متواطئين. إنّه موقف واع من الكتابة، من الأثر الفني، ومسؤولية أكاديمية وأخلاقية يتحملها صاحب العتبة عندما يكون عارفًا وحياديًا، ومركّزا على النص المُغلق، دون منتجه. لذلك يتفادى بعضهم وضع التقديمات لأعمال غير تمثيلية، أو بحاجة إلى جهد أكبر تفاديًا لأي تواطؤ يلحق ضرراً بالناقد، وبصاحب الكلمة التي تعدّ مدخلاً وظيفيًا.
يحدث أن نعثر على مغالاة لا مسوّغ لها فنيًا لأنّها لا تؤسس على قيم علمية وجمالية مقنعة. هذا النوع يتحوّل إلى عالة على الأدب والأدباء لأنّه ينكشف مع الوقت ويغدو كذبًا على القارئ المنبه الّذي عادةً ما يتعامل مع الكتابة بحذر، وبذائقة مُؤهلة للتمييز بين الأعمال الإبداعية، دون أيّ اِعتبار للتقديم الّذي لا يُضيف له شيئًا لأنّه عبارة عن تزييف للحقائق الفنية والبحثية. هذا التقليد الزائف مُنتشر في كثير من الأوساط، لكنّه غير مُؤثر لأنّه يفتقر إلى الموضوعية التي تجعله يكسب ديمومة، لكنّه قد يغدو مُضللاً في بعض السياقات العينية، أي عندما يغيب المُتلقي العارف بالشأن الفني والأكاديمي، كما يحصل حاليًا.

محمّد كاديك كاتب وناقد
تقليد يكرّس فلسفة الاعتراف والعناية بالقادمين إلى الكتابة
تكون تقديمات الكُتب عادة، لما نتوسم منها أنّها تُقدّم الإضافة المهمة إلى القارئ، أو للكُتب المُترجمة بقصد وصف تجربة المُترجم من جهة، ووضع علامات يهتدي بها القارئ من جهة أخرى، إضافةً إلى أنّها تُمثلُ دعمًا للأسماء الجديدة التي تصبو إلى إثبات مكانتها في عالم الكتابة، وقد تكون لها مناسبات أو مواقف تستدعيها، بل تفرضها لتكون فاتحة للكِتاب.
أمّا ما يخص الكِتاب المُلهم الّذي يُقدم الإضافة، فهذا يمكن أن نتمثل فيه بالتّقديمين اللذين حُظيَ بهما كِتاب «الظاهرة القرآنية» لمالك بن نبي، فحمل تقديم الشيخ عبد الله دراز رؤية فلسفية، بينما جاء تقديم محمّد شاكر تقديماً أدبيًا كانت له فائدته للنسخة العربية، فقد اِضطر مالك إلى توضيح ما غمض على شاكر، ما يعني أنّ النفع كان مُضاعفًا، وهناك أمثلة كثيرة عن هذه الكُتب المُلهِمة التي حُظيت بالتقديم والتنويه، ونرى أنّ التقديم –في هذا المقام– هو الاِعتراف بالجهد المبذول، ويصوغه عادةً قادة الفِكر في الأمة، وكِبار كُتّابها.
أمّا الكُتب المُترجمة، فأعتقد أنّ تقديمها ضروري جداً، فالمُترجم هو أفضل قارئ للكِتاب، ويمكن أن يُبسّط أمام القارئ مصاعب كثيرة حين يُقدِم له عصارة جهده، ويُوجهه إلى الألفاظ التي يمكن أن تتعدّد تخريجاتها في اللّغة التي تنتقل إليها، وبهذا يتجنب القارئ الوقوع في خلل تأويلي ما، ويستحضر الأفكار بنفس الشكل الّذي اِختار المُترجم أن يُقدمه لقارئه، ويمكن أن نتمثل هنا بالتقديم الرائع الّذي حُظيَ به كِتاب هانز غيروغ غادامير، «الحقيقة والمنهج»، في نسخته العربية.
أمّا ما يدخل في باب «التسويق» للأسماء الجديدة، أو لنقل، التوجيه إلى ما نتوسم أنّه اِسم كبير يُفيد القارئ، فهذا –في حقيقته– ينبغي أن يكون تقليداً راسخًا، ونحن –صراحةً– نفتقدُ إليه، فالكاتب المُبتدئ عندنا، يجد نفسه فجأةً «كبيراً» على مواقع التواصل الاِجتماعي مع الأحباب والخلاّن، في غيابٍ تام للأسماء الكبيرة التي تحتفظ بالأبراج العاجية، ولا ترغب في رؤية من يُنافسها.. في مصر مثلاً، الكُتّاب الكبار لا يتركون المبتدئين ليواجهوا مصائرهم، وإنّما يتولونهم بالعناية والتوجيه، والذِكر الحسن، إلى أن تشتدّ رؤاهم، وتستقيم أدوات الكتابة بين أيديهم، ولعلنا نذكر هنا –على سبيل المثال– التقديم الرائع الّذي خصصته عائشة عبد الرحمن لرواية يوسف السباعي، «أرض النفاق»، فقد تحدثت الكاتبة في تقديمها عن كاتب كبير اِكتشفته، دون أن تنكر بأنّها لم تكن تجد ما تقرأ في الروايات السّتة التي أهداها لها قبل السابعة، وهي التي غيّرت نظرتها تمامًا، وأقنعتها بكتابة تقديمٍ فاره للسباعي.
التقديم إذن، يبدو لنا تقليداً مفيداً للغاية على جميع المستويات، فهو يمثل «الاِعتراف بين الكبار»، و»صناعة الجيل الجديد» من خلال العناية والتوجيه، إضافةً إلى كونه ضرورة منهجية في حال ترجمة الكُتب الأمهات التي يحتاج القارئ إلى التعرف على الظروف التي أحاطت بتأليفها، والاِطلاع على طبيعة الأفكار التي هندست منهجها، وينبغي أن نكون صرحاء، ونعترف بأنّ السّاحة الأدبية عندنا لم تبلغ بعد مستوى التأسيس لتقاليد كتابة راسخة، فالواقع عندنا لم يستوعب بعد أنّ الفكرة هي ضالة القارئ، لهذا يبقى محبوسًا في ترّهات (الشللية الثّقافيّة)، أو المصالح الضيقة وغيرها من البلاهات؛ لهذا، من النادر أن نسمع تنويهًا بكاتب مُقبل، أو توجيهًا إلى كِتاب مفيد، إلاّ إذا كان مِمَا يندرج في هذه المساحات الضيقة، مع استثناءات قليلة جدّاً، كمثل المقالات المتعلقة بثيودور أدورنو، التي ترجمها الدكتور كمال بومنير، وفسح فيها المجال لتقديم صاغه الدكتور محمّد شوقي الزين، وهذا يُجسّد فعلاً فلسفة الاِعتراف التي ما زال الدكتور بومنير يُؤسس لها بالحاضنة اللغوية العربية.

بوداود عميّر كاتب ومترجم
عتبة مهمة بدأت في التراجع
المُقدمات سواء كانت ذاتية أو غيرية، تدخل في إطار ما يُصطلح عليه بالعتبات النصية، إلى جانب العنوان الرئيسي أو الفرعي والإهداء وشكل وصورة الغلاف، والمُؤشر التجنيسي والتشكرات، بوصفها عناصر مُحيطة بالنص؛ وبينما لا تزال بعض العتبات النصية قائمة لضرورة يُمليها العمل الأدبي، بحيث لا يمكن الاِستغناء عنها كالعنوان مثلاً، باِعتباره عتبة ثابتة لا يطالها التغيير؛ في حين يمكن الإبقاء أو الاِستغناء عن العنوان الفرعي أو الإهداء أو الاِقتباس، حسب تقدير الكاتب وأحيانًا مزاجه.
ستعرف كتابة المقدمة عندنا في العقدين الأخيرين، تراجعًا في الاِهتمام بالقياس إلى سنوات السبعينيات والثمانينيات، فقد كان الكاتب الراحل الطاهر وطار مطلوبًا لكتابة مقدمات الأعمال الناطقة باللّغة العربية، نظراً للمكانة المرموقة التي كان يحتلها صاحب «اللاز» في المشهد الأدبي خلال تلك الفترة، حتّى وإن اِعترف وطار كما كتبَ يقول في تقديمه للمجموعة القصصية «الصعود نحو الأسفل» للكاتب الحبيب السائح، الصادرة مطلع الثمانينيات بأنّه ورّطه: «ذلك أنّني كثيراً ما أتفادى أن أُقدّم لغيري، حتّى أنّ بعض الأصدقاء بقيت مجموعاتهم القصصية في حوزتي مدة طويلة، ثمّ سحبوها بسلام، وبنوع من الخيبة واللوم». ويُضيف: «أن التقديم الأفضل للعمل هو ذلك الّذي يفعله العمل نفسه عندما يصدر للنّاس»؛ ليعترف في نهاية المطاف أنّ الدافع الرئيسي من وراء كتابته مقدمة «الصعود نحو الأسفل»، هو الاِنتماء الإيديولوجي «ذلك أنّنا نبدع في إطار مدرسة واحدة وهي مدرسة الواقعية بكلّ صفاتها وخاصةً الاِشتراكية منها»؛ والسؤال الّذي يطرح نفسه: هل المقدمة بهذا المعنى وظيفتها المجاملة أو الاِصطفاف الإيديولوجي بعيداً عن الإبداع؟
غير أنّ الطاهر وطار سرعان ما سيعود لكتابة مقدمات أخرى عن اِقتناع فيما يبدو، يظهر ذلك جليًا من خلال رواية «طيور في الظهيرة» للأديب الراحل مرزاق بقطاش، بحيث سيبدو مع هذا النص مطمئنًا لمهمته، من خلال ترحيبه بهذا العمل الروائي الّذي يُؤشر لكتابة جديدة تتناول المدينة كهاجس لم ينل حظه من الاِهتمام في الأدب الجزائري، لاسيما الناطق منه باللّغة العربية؛ وهنا ستصبح المُقدمة عند الطاهر وطار، نوعا من التوجيه النقدي الضروري للإحاطة بالعمل.
المُقدمات رغم عدم ثباتها، لكنّها مهمة جداً، عندما تأخذ شكلاً آخر عبر مجالات أدبية تستدعي حضورها، للإحاطة بالعمل وشرحه ورفع كلّ لُبس يُحيطه؛ جبرا إبراهيم جبرا مثلاً، كتب مقدمة طويلة تصدّرت ترجمته لرائعة «الصخب والعنف» للكاتب الأمريكي وليم فوكنر، وهي عبارة عن دراسة مسهبة، حاولت وضع مفاتيح تُساعد على الولوج لنص مُعقد وصعب، لم يتعوّد القارئ باللّغة العربية على قراءة مثيله. الكاتب والمترجم العراقي علي القاسمي، وهو يُعيد من جديد ترجمة رائعة «الشيخ والبحر» لأرنست همنغواي، اِضطر إلى كتابة مقدمة يشرح فيها الأسباب التي دفعته نحو ترجمة نص تصدى لترجمته عشرات المترجمين العرب.
وإذا كان الاِهتمام بالمقدمات قد عرف بعض التراجع، برز في المقابل عنصر جديد في العتبات النصية، يتعلق الأمر بالتشكرات المُدرجة في آخر العمل الأدبي؛ الظاهرة تبدو مُنتشرة في الرواية العالمية المُعاصرة، بحيث يقوم صاحب العمل بذكر جميع من ساعده في اِنجاز عمله من تنقيح ومُراجعة واستشارة ورأي ومعلومة؛ الكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلييه صاحب جائزة غونكور السنة الماضية مثلاً، ذكر أكثر من عشرين اِسمًا ساعدوه -كلٌ في مجاله- في اِنجاز روايته الناجحة «النشاز»؛ هناك أعمال تتجاوز فيها قائمة الأسماء المُساهمة الصفحتين مع التنويه بنوعية المساهمة. لعلها خاصية لا تبدو أنّها تُحظى عندنا بنفس الاِهتمام، رغم أنّ أغلب الكُتّاب يستشيرون قبل إنهاء أعمالهم بعض أصدقائهم من أهل الاِختصاص للاِطلاع على مخطوطهم وإبداء رأيهم؛ مع بعض الاِستثناءات تحضرني أسماؤهم، على غرار الكاتب عمارة لخوص من خلال روايته المهمة «طير الليل»، أو سمير قسيمي في «يوم رائع للموت»، والروائي والأكاديمي بومدين بلكبير من خلال روايته «زنقة الطليان» الصادرة حديثًا، والتي أدرج على ظهر غلافها كلمات قصيرة كتبتها مجموعة من الأسماء قرأت الرواية مخطوطاً، وساهمت بنصيبها في اِنجاز عمله الروائي الناجح.هكذا يبدو أنّ الاِهتمام الأدبي في العالم من خلال اِستحداث خاصية «التشكرات» كعتبة نصية أساسية، الغاية منه تحقيق ما يُشبه التشاركية، كفعل رمزي في العمل الأدبي، بعيداً عن النرجسية التي غالبًا ما يُوسم بها الكُتّاب.

عبد الكريم ينينة / قاص وروائي
التقديم يمنح إضافة نوعية مُصاحبة للنص تُسهل على القارئ الغوص فيه أكثر
تقديم الكِتاب ليس أمراً طارئًا على ثقافتنا في ما يتعلق بالإصدار والتأليف، في السابق كان يُسمى «التقريظ»، ولا يزال البعض يستعمل هذه التسمية، غير أنّها تكاد تكون الآن محصورة في الكِتاب الديني فقط، وكان يعد هو أيضا فنًا من فنون الكتابة، ويتضمن في كثير من الأحيان إضافة إلى الصور البلاغية واللّغة الفخمة قصائد شعرية تُعلي من شأن الكاتب والكِتاب، وكثيراً ما يُكتب التقريظ من التلميذ عن كِتاب أستاذه أو شيخه.
وقد اِختلف الأمر حاليًا بخصوص الإنتاج الفكري والإبداعي، فغالبًا ما يكون من ناقد أو أستاذ جامعي معروف، أو كاتب مكرس، خاصةً في الإصدار الأوّل للكاتب أين يكون محتاجا لشهادة موثقة في شكل تعريف موجز بطبيعة منتوجه أو قراءة علمية مُصاحبة له حتّى يمنحه ذلك التقديم بعض ضوء شهرة صاحبه في عتمة درب خطواته الأولى.
وكلمة تقديم في حد ذاتها تغني عن السؤال حول معنى التقديم وجدواه، إذ هي تقديم كتاب غير معروف (لم يتعرف عليه القارئ بعد)، من طرف كاتب معروف وموثوق علمًا وذائقة إلى القارئ، فيؤدي من باب ترويج الجيد وظيفة إشهارية بالدرجة الأولى، تُساهم في تداول الكِتاب وقراءته، وذلك من خلال إبراز بعض الجماليات في النص لتحفيز القارئ على التقرب منه، وهو في حقيقة الأمر رؤية نقدية أو قراءة للجماليات الموجودة في الكِتاب، وكثيراً ما يكون التقديم (خاصةً إذا كان من ناقد) مرجعًا للطلبة في أطروحاتهم ورسائلهم الجامعية حول الكِتاب موضوع التقديم، وهذا ما حدث مع أولى مجموعاتي القصصية القصيرة جداً التي قدمها الكاتب والناقد السعيد بوطاجين، بحيث لاحظتُ أنّ كلّ الطلبة اِتكأوا عليه. إضافةً إلى ما حقّقه هذا التقديم للمجموعة من قبول بعض جامعاتنا هذا النوع السردي المنسي أكاديميًا وتوجيه الطلبة نحوه، والشيء نفسه حدث في المجموعة الثانية مع تقديم الكاتب والناقد مخلوف عامر.
أعتقد أنّ التقديم معمول به في جميع المجتمعات، ونجد ذلك في مؤلفات الكُتّاب الكبار مثل الأمريكي «ستيفن كينغ»، فالتقديم يمنح إضافة نوعية مُصاحبة للنص تُسهل على القارئ الغوص فيه أكثر، والمقدم يحمل مسؤولية كبيرة تجاه القارئ والإبداع، تسبق مسؤولية الكاتب نفسه، كونها أخلاقية بالدرجة الأولى، ولهذا يجب على من يقوم بالتقديم من أهل الاِختصاص ألا يخل بوظيفته المعيارية وأن يكون حذراً، لكيلا يُغرر بالكاتب، خاصةً إن كان في بداية مشواره الإبداعي، فيعرقل عملية التطور الطبيعي لديه، بدل توجيهه ونصحه، وهذا ما يحتاجه حقيقة في هذه المرحلة.

محمّد الأمين بن ربيع روائي وكاتب مسرحي
شهادة عبور
يجد الكثير من كُتّاب الجيل الجديد رغبة لديهم في البحث عن الدعم داخل الوسط الأدبي المُزدحم بالأسماء، من أجل إثبات علو كعبهم وتفوّق موهبتهم، وفي الوقت الّذي يُحاول بعضهم إثبات ذلك بالنص الجواني، من خلال اِختيار المضمون المُهم أو المثير، واللّغة الراقية والتصوير البارع، يُحاول بعض آخر إثبات موهبتهم من خلال الاِتكاء على اِسم مبدع آخر يكون مشهوداً له بالتفوّق في مجاله من أجل أن يُقدم لهم عملهم، بواسطة تقديم يتضمن إشادة بمضمون النص، أو شهادة في موهبة الكاتب. هذا ونجد أنّ ظاهرة التقديم قد غدت من أكثر الظواهر الأدبية رواجًا نظراً لما تُضفيه من شرعية على النص، ومنحه أهمية مُقارنة بنصوص أخرى.
ويعد التقديم عتبة نصية نشأت في ضوء العناية بالنص، وارتبطت بظاهرة التناص لذا فإنّ تناول عتبة التقديم لابدّ وأن يكون في إطار النص ذاته لأنّه يعتبر متعلقًا نصيًا، ورغم أنّ هذه الظاهرة برزت في وقت متأخر إلاّ أنّها حازت الاِهتمام الواسع، وصارت من أكثر المتطلبات عند الكتابة، لما تُحقّقه من تفاعل، وما تُقدمه من حمولات دلالية تُساعد في قراءة النص وفهمه، وهذا ما يُؤكده جيرار جينيت G. Genette الّذي يعتبر العتبات النصية خطابًا مُوازيًا لخطاب النص الأصلي، يُحركه فِعل التأويل ويُنشطه فِعل القراءة. ولا تتوقف أهمية التقديم كبقية العتبات النصية الأخرى عند القيمة الفنية فقط، إذ إنّه من المهم أن يختار الكاتب عنوان عمله والأبعاد التشكيلية لغلافه ونوع الخط الّذي يُكتب به العنوان واسمه، بل تتجاوز الوظيفة الفنية إلى القيمة التجارية، فالكِتاب سلعة اِستهلاكية يجوز الترويج لها بكلّ الطُرق المُمكنة التي تضمن اِنتشاره، ووضع تقديم للكِتاب مُوقع باسم كاتب كبير يعد وسيلة ترويجية تُحفِز القارئ على اِقتناء الكِتاب ومعرفة السبب الّذي قد يحدو بكاتب مُكرس إلى أن يضع اِسمه مع اِسم كاتب آخر، إلاّ إذا كان هذا الكاتب يستحق ذلك بِمَا هو كاتب يُقدم كتابة جيدة تستحق التنويه.
والتقديم وإن كان مُوقعًا باِسم كاتب آخر غير الكاتب الأصلي للكِتاب إلاّ أنّه يعد جزءا من الكِتاب، يُقرأ في ضوئه ووفق السياق العام للنص الجواني، إذ يقيم معه علاقة تواصلية تسمح بتحقيق عملية الإدراك لدى القارئ الّذي يشده التقديم فيبحث فيه عن أهمية الكِتاب، أو مكامن الجمال فيه أو القيمة الحقيقية التي يتضمنها، وغالبًا هذه هي الأسباب نفسها التي جعلت صاحب التقديم يقدم على كتابته، فهو بذلك يمنح للكاتب شهادة عبور ودفعة إلى الوسط القرائي، ويسهم في تحقيق الرواج له، ويُساعده على أن يجد له مكانًا لائقًا وسط بقية المُؤلفات الإبداعية أو النقدية، وإن كنا رأينا أصحاب الكُتب النقدية أكثر ميلاً إلى وضع التقديم المطول في بداية الكِتاب، يكون أشبه بالقراءة في المضامين، فإنّنا رأينا الروائيين أو كُتّاب القصة وهم يفضلون أن يكون التقديم –إن وجد- مُقتضبًا يكتفي فيه صاحبه بالإشادة بجماليات النص.

 

الصدّيق حاج أحمد الزيواني روائي وناشر
لا ضير فيه إن طبعته الموضوعية
درج الكُتّاب والمؤلفون منذ القدم، في اِلتماس تقديم أعمالهم ومؤلفاتهم، فيمن يرجون فيه وجاهة في حُكم هذا الباب، حيث عُرِف عندهم بِمَا يُسمّى؛ التقريظ، وهو سلوك حضاري اِنتهجه المحدثون من الغرب والعرب أيضا، حتّى غدا هذا المصطلح، موضوعًا مُستقلاً في عُرف الدراسات النقدية الغربية، لاسيما في تصدير الأعمال الإبداعية، من لدن كُتّاب بارزين، وُسم بالعتبات النصية أو النصوص المُوازية، ولعلّ الناقد الفرنسي «جيرار جينات»، أوّل من اِلتفتَ إلى هذا النوع من العتبات، بِمَا فيها تقديم الأعمال الإبداعية، من طرف كُتّاب مشهورين، يمهرون نهاية تلك الكلمة بتوقيعهم الفخم.ومِمَّا يُدرج في فقه هذا الباب، إشادة سهيل إدريس ونزار قباني، بأعمال أحلام مستغانمي، حيث فتحت لها هذه الشهادات، أبوابًا مشرعة من الشهرة، نظراً لثقة هؤلاء الكُتّاب في نفوس مُريديهم من القُرّاء وعُشّاق الورق.
طبعًا تبقى هذه التقديمات، تُصرف على منحى النسبية، ولا تكون ناجحة حسبما يتوقعه الكاتب الطالب للتقديم من غيره، إذ كثيراً ما رأينا كُتّابًا اِلتمسوا من آخرين مشهورين، كلمة على ظهر أغلفتهم، وأجابوهم عاطفة أو استحياء تحت تكرار الطلب وإلحاحه، وبقيت نصوصهم تحت طائلة غبار الرفوف بالمكتبات. في اِعتقادي أنّ تصدير الأعمال، من طرف كُتّاب سابقين معروفين، لا ضير فيه، إن طبعته الموضوعية؛ ولكن هذا يبقى قليلاً ونسبيًا، نظراً لشيوع الشللية السمجة في الأوساط الثقافية والدوائر الأدبية، إذ كثيراً ما تسمع برواية أو نص فاز بجائزة عظيمة، فتتلهف للاِطلاع عليه؛ غير أنّك تُفاجأ، ويُكسر توقع اِنتظارك، أمام الهالة الإعلامية التي حُظيَ بها ذلك النص، وبالمقابل هناك نصوص قوية ورصينة ومبتكرة، طواها النسيان تحت طائلة تحسين القبيح وتقبيح الحسن، من طرف بعض النُقاد المتكرّشين، الذين لا ينصتون لضمائرهم، إنّما لما يُحشى لهم من مظروف مبطّن بالدولار تحت الطاولة.
تصدير الأعمال وتقديمها، شهادة ضمير أمام التاريخ، على الكُتّاب أن يراعوا ذلك، غير منساقين تحت عواطفهم وعلاقاتهم مع من يطلب منهم التدبيج، حتّى وإن كان ولا بدّ، فلا بأس بإبراز المحاسن مع الإشارة إلى الهنات.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com