السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

تعد الأكبر في شمال إفريقيا

المقبرة الميغاليتية... ذاكرة مهملة بأعالي جبال بونوارة

تعتبر المقبرة الميغاليتية المتواجدة  بمنطقة بونوارة، واحدة من بين أعرق الشواهد الأثرية التي تؤرخ لمدينة قسنطينة، وتحكي قصصا عن عادات وطقوس جنائزیة  مارسها الإنسان القدیم، ورغم أن المنطقة لا تزال تخفي الكثير من الأسرار، إلا أنها ليست مستغلة سياحيا بالشكل المطلوب  و لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، خاصة من ناحية بحث و التنقيب  كما يؤكد مختصون، أن تاريخها لم يضبط بعد.

لينة دلول

بانوراما أثرية
المقابر الميغاليتية ليست مجرد شواهد حجرية صامتة ولا أثار مطمورة، بل هي جذور تمتد إلى غابر الأزمنة لتحدثنا عن جوانب من هويتنا الحضارية التي تتشكل من ثمانية أوجه يعكس كل وجه حقبة لابد و أن تفاصيلها لا تزال جزء من تراثنا  الثري، انطلاقا من الحضارة النوميدية البربرية ثم الفينيقية وبعدها الرومانية وسليلتها البيزنطية، وصولا إلى المرحلة الإسلامية والعثمانية، وهي حضارات ساهمت مجتمعة في بناء الإرث الحضاري للجزائريين، و تركت العديد من الشواهد التي  جعلت منقبين وعلماء آثار يغوصون  في البحث لاستكشاف  المزيد من الكنوز التاريخية المخفية، على غرار قبور «بونوارة» التي تعتبر بمثابة بانوراما أثرية لأهم المعالم الجنائزية التي لا مثيل لها في العالم.  
على بعد 32 كيلومترا من مدينة قسنطينة، و على الطريق الوطني رقم 20 المؤدي إلى مدينة قالمة، تقع مقبرة بونوارة الميغاليتية، وهي « نوع من العمارة الجنائزية القديمة يعود إلى عصر ما قبل التاريخ»، توجد تحديدا عند المنحدرات الجنوبية الغربية لجبل «مزالة» وعلى بعد كيلومترين شمال قرية بونوارة، وقد عرفت الشواهد بعد اكتشافها بعدة تسميات منها القبور المنضدية و  الجلمودية أو الدولمانات.
وحسب المصادر التاريخية المتوفرة حول  الموقع، فإن  تعداد مقابر بونوارة، يتراوح ما بين 3000 إلى 4000 قبر ميغاليتي، كما تمتد مقبرة جبل مزيلة الأثرية، على طول 400 هكتار أو أكثر، و تغطي كامل سفح جبل أم ستاس، الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 1040م ويشرف على سهل وادي البرذعة.

مقابر يكتنفها الكثير من الغموض
عند أعلى قمة جبل مزالة، وتحت شجرة زيتون يرقد إنسان من العصور الحجرية الغابرة يطل قبره على منطقة عمرانية آهلة عند السفح، يقطعها قطار يجعل المشهد يحاكي في رمزيته تلك الرحلة الطويلة, التي قطعها الإنسان ليتطور.
تطلب منا الوصول إلى المقبرة عبور الوادي، وقد كانت مهمة صعبة بالنظر إلى كثرة الحجارة وحدتها، بعدها تجاوزنا مزرعة صغيرة بطول 5 أمتار، و قطعنا شريط السكة الحديدية لنبلغ مقصدنا، أول ما شد انتباهنا عد وصولنا إلى الموقع، هو عدد  قليل  من «الدولمن»، التي ما تزال تحتفظ بشكل هيكلها العام، وتتكون من ثلاث صفائح  «ألواح حجرية «، مغروسة في الأرض بارتفاع يقدر بأقل من متر للواحدة، تعلوها صفيحة أخرى  بمثابة سقف، وهي قبور مزودة بفتحة يقدر عرضها بـ 0.60 م، كان البعض منها متباعدا عن الآخر، بينما تسجل مسافة قريبة بين أخرى، أما مساحة و ارتفاع القبور فمختلفة  وقد يعتقد الزائر لأول مرة، أنه اختلاف نابع من تباين أحجام الموتى أو ربما تفاوت المستويات الطبقية بين من يسكنون هذه القبور مثلا.
و بحسب مختصين في علم الآثار و التنقيبات، فإن الطقوس الجنائزية في تلك الحقبة ما تزال غامضة، و قد اكتشف منقبون في  بعض القبور جثثا في وضعية الجنين، فيما دفنت جثث أخرى فوق بعضها البعض، فضلا على أن  القطع الأثرية التي تم العثور عليها لم تحدد بالضبط الفترة الزمنية  التي استعملت خلالها.
معلم ينتظر اهتماما سياحيا
يلاحظ المتجول في المنطقة، غرابة  هندسة هذه القبور الصخرية الفريدة،  التي ما تزال تحتفظ بمعالمها رغم التشوهات الذي طالتها بسبب عاملي الزمن والبشر، إذ أن هناك من  يجهلون قيمة هذه الكنوز الأثرية التي تعود لآلاف السنين، و لا يتحرجون من رمي قماماتهم بين قبور قديمة قدم التاريخ، رغم أنها شواهد مهمة قد تروي لنا قصصا شيقة عن الإنسان  الذي عاش قبلنا على هذه الأرض، و المؤسف أن المحاجر التي كانت منتشرة بالقرب من الموقع الأثري حطمت و طمرت هي أيضا عدد من القبور، فبين كل قبر و قبر يوجد آخر محطما، رميت أجزاء منه بعيدا أو تم إخفاؤها بحجارة كبيرة، عوض أن تستغل بشكل أفضل يخدم الغرض السياحي.
أما الأدهى، فهو الغياب التام لأية لافتة توجيهية أو إرشادية أو تعريفية، تبين بأن المكان أثري وأنه عبارة عن مقبرة قديمة، لدرجة أن سكانا يقيمون بالقرب من المقبرة يجهلون وجودها كما أكدوه لنا، علما أن جل من قابلناهم كانوا متواجدين أساسا في المحيط العمراني القريب، أما الموقع الأثري فقد كان خاليا تماما من الزوار، ولم نتواصل طيلة وجودنا فيه سوى مع راع كان يسوق أغنامه و أطفال صغار استخدموا صخرة مسطحة كمنصة للتزحلق.
دفع بنا الفضول لمعرفة المزيد عن المقبرة نحو دخول متحف سيرتا بوسط المدينة، للبحث أكثر عن آثار  من بنوا المقابر و الوقوف على ما تم العثور عليه من موجودات في المنطقة حين اكتشافها، غير أننا قوبلنا بالخذلان بعدما أعلمنا القائمون على المؤسسة، بأن كل الأثريات معروضة على مستوى المتحف الوطني بالعاصمة.
حفريات قليلة ونتائج شحيحة
يوضح أستاذ التاريخ محمد الصغير غانم، في كتابه « المعالم الحضارية في الشرق الجزائري – فترة فجر التاريخ»، بأن زيارات الباحثين الأثريين والمؤرخين التي  توالت على منطقة بونوارة  بدأت منذ سنة 1837 م، مؤكدا أن هناك من الباحثين من زار المنطقة ثم دوّن في مذكراته أشياء تشير إلى تلك المقابر الميغاليتية، و ينطبق ذلك على ما قام به فروبینیوس و ماك إيفر وغيرهم من عشاق الآثار، فيما  كانت الحفريات التي جرت في مقبرة بونوارة، أقل بكثير من الزيارات العلمية التي خصت بها، و قال، إن نتائج تلك الحفريات لم تنشر بشكل موسع، ما عدى بعض التقارير التي لا تقدم الكثير من المعلومات. و في سنة 1865م، قام الجنرال  هارب، بتنقيب 5 قبور ومنذ ذلك التاريخ توقفت الحفريات حتى سنة 1909، أين  قام بول بلاري، بفتح حوالي 12 قبرا دولمينيا في منطقة بونوارة،  و لم تقدم النتائج التي توصل إليها، فيما عدا أنه وضع الفخاريات التي أخرجها من بعض تلك القبور في إحدى قاعات متحف باردو بالجزائر العاصمة.
ويعتقد الباحث جـ. كامبس،  بأن « بول بالاري  قد عثر خلال تنقيباته على رمادية تمتد لحوالي 200م، على طول الخندق الذي فتح من أجل مد خط السكة الحديدية التي تربط بين قسنطينة و عنابة.
 و في سنة 1913،  قام «ديبروج»و «جلود» بتنقيب 25 قبرا دولمينيا، و طبعت نتائج حفرياتهما، و منذ ذلك التاريخ انقطعت أعمال الحفر و التنقيب المنظمة إلى غاية سنة 1954، عندما قام كامبس صحبة زوجته هنريات، بالحفر في موقع بونوارة، و قد  توقفت أعمالهما بسبب اندلاع الثورة التحريرية، ثم عادا بعد الاستقلال أي في سنة 1963،  ليتحققا من نتائج أعمال الحفر التي قاما بها، وكان ذلك تحت رعاية مركز الدراسات لما قبل التاريخ و الأنثروبولوجيا بالجزائر العاصمة.
 وكانت النتيجة التي توصلت إليها حملة كامبس و زوجته،  هي فتح اثنين و أربعين قبرا دولمينيا، لم يعثر في الكثير منها على أثاث جنائزي. و كل الذي قام به كامبس و زوجته هو لفت الانتباه إلى الطقوس الجنائزية التي مورست في تلك القبور و إعطاء فكرة على هندستها المعمارية، ثم رسم بعض الأشكال وأخذ صور للعديد من القبور.
الأضخم من نوعها
أكد مدير المتحف الوطني العمومي سيرتا، خليل بوجعطاط، أن مقابر بونوارة التي ما تزال قائمة و شاهدة على آثار الدولمن  وبقايا عظام لهياكل بشرية، تعتبر الأكبر  في شمال إفريقيا، و أوضح أن اللقى الأثرية التي عثر عليها الباحثون في المقبرة، لم تعرض بقسنطينة، بل نقلت إلى  متحف باردو بالجزائر العاصمة، مشيرا في ذات السياق، إلى وجود بعض الأثريات على مستوى المخازن، لكن عملية  جردها لم تكتمل، وقد تنتهي بالعثور على  أثاث جنائزي جديد، وأضاف المدير، أنه يمكن من خلال مقبرة بنوارة التي تضم  بضعة ألاف  من مقابر الدولمن، استنتاج  أن قسنطينة كانت تسجل كثافة سكانية كبيرة، في فترة ما قبل التاريخ
 وقال المتحدث، إنه يأسف فعليا لتواجد محاجر بالقرب من المحيط الأثري، موضحا أنها  تسببت في تخريب العديد من القبور، مشيرا إلى  أن  مديرية الثقافة توقفت عن تقديم التراخيص  لاستغلال المحاجر القريبة من المقبرة، لكن اهتزازات  تفجيرات المحاجر الناشطة بإمكانها أن تؤدي إلى تخريب الآثار ولو كانت بعيدة.

من جانب آخر، يرى مدير المتحف، بأن مقبرة  بونوارة موقع أثري مهجور لم يستغل سياحيا بالشكل المطلوب و لم يدرج حتى ضمن المسار السياحي لقسنطينة، كونها منطقة بعيدة نوعا ما، لذلك يجب حسبه، تهيئة المسالك المتاحة أمام الزائرين و وضع لافتات إرشادية و إحاطة المنطقة  بالحراس لضمان الأمن.
وطالب المتحدث،  بضرورة تحسيس المواطنين بأهمية المقابر الميغاليتية، وتعريفهم بمختلف  بقايا المعالم الجنائزية، التي تعود إلى العصور القديمة التي تعاقبت على المنطقة وتثمينها والمحافظة عليها، فضلا عن توفير المرافق العمومية في المحيط الأثري وتهيئته.
وقال، إنه لم يتم حتى الآن، حصر عدد المقابر الميغاليتية الموجودة ببنوارة لكثرتها، لذلك يجب كما أوضح، القيام بعملية جرد جديدة لتحديد عددها الحقيقي، والتنقيب من الجديد في مقابر لم تجرى عليها  حفريات  كثيرة  منذ سنوات، وذلك بغرض تعزيز الاكتشافات و معرفة المزيد من الحقائق.
وأضاف المتحدث، أن التنقيبات لا تتم إلا بترخيص من طرف وزارة الثقافة، وهي عملية توقفت منذ الستينيات  في فترة كومبس،  الذي قام  بعملية صبر في المنطقة، مؤكدا  أنها عرفت زيارات عديدة من طرف باحثين وطلبة آثار، قاموا بإجراء دراسة ميدانية  لأخذ معلومات تقنية عنها وفقط.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com