هل تحوّل النقد من مقاربة النصوص ودراستها وتحليلها إلى ما يشبه مساءلتها ومساءلة الكاتب؟ هل اِنحرف عن سكته ومهامه ووظيفته؟، ليصبحَ بمثابة العصا التي تضرب وتجلد شخص الكاتب، بعيداً عن النصوص، وعن وظيفة النقد الحقيقيّة. إذ المُلاحظ -حسب أهل الكتابة والأدب- أنّ الكثير من النقد الّذي يتناول شخص الكاتب أو الكاتبة يكون مبطنا ومغلفاً بالإساءة والتجريح والمُساءلة وحتى المحاكمة، وهذا بعيداً عن النص كمتن إبداعي قابل للنقد البنّاء والموضوعي والإشارة إلى مواضع الضعف والهنات والهفوات فيه، وما يحدث في بعض النقد الّذي يتناول بعض الأعمال الأدبية لبعض الكُتّاب والكاتبات، أنّه يترك النص جانبًا ليتفرغ لتناول شخص الكاتب كيفما شاءت له قريحة التجريح والتنكيل وطُرق المُساءلة.
أعدت الملف: نوّارة لحـرش
الظاهرة قديمة طبعًا وليست وليدة اللحظة أو الآن، لكنّها اِستفحلت أكثر وبشكل يدعو للقلق في الوسط الأدبي الجزائري؟، فلماذا يا ترى تحوّل بعض النقد في الجزائر إلى إساءات وإيذاءات وتصفية حسابات ومساءلات لشخص الكاتب من خلال نصوصه؟، هل اِنحرف النقد عن مهمته ورسالته وسكته، لهذا أصبحت هناك -كما يقول الدكتور بوطاجين- بعض التجاوزات التي حصلت/وتحصل في التحليل النفسي للنصوص وفي مقاربات اِنطلقت من اِنطباعات ومواقف أيديولوجية ودينية وشخصية أيضا. ولهذا أيضا أصبح هذا النقد يهتم بالأشخاص وحياتهم وسيرهم الذاتية متجاوزاً بذلك حدود وظيفته. فالمُتابع لبعض ما يُطرح باِسم النقد سيرصد -كما يقول محمّد بن زيان- ظاهرة خصومات تفتقد التأسيس المعرفي. وفي مثل هذه الحالات يتحوَّلُ بَعضُ النَّقدِ إلى مسائلة الكُتّاب ونصوصهم، وإلى مُهاتراتْ وإساءات.
السعيد بوطاجين
حصلت تجاوزات في التحليل النفسي للنصوص وفي مقاربات ايديولوجية ودينية
يقول الناقد والمُترجم السعيد بوطاجين، إنّ علاقة الناقد بالإبداع، كما في الأعراف، لا تتعدى المنجز الّذي يتعامل معه، في بناه وتراكيبه ونحوه ومعجمه وجمالياته، وكيف قال ما قاله.
أمّا مهمته الأساسيّة فتكمن -حسب رأيه- في ترقية هذا الإبداع بالتنبيه إلى خصوصيّاته، إيجابية كانت أم سلبية. ما عدا إن تعاملنا مع المُقاربات اللسانية البنيوية التي تُؤَسس على الوصف، دون أي تقييم للمادة السردية أو الشِّعرية، بالنظر إلى القيود التي وضعتها بعض المناهج الجديدة التي وجب مراجعتها.
في حين -كما يضيف- قد يهتم الإبداع بمسار الأشخاص والشخصيات، كواقع أو كمُتخيل، كما في القصيدة الهجائية، وكما في النثر الّذي يُعنى بالتاريخ، وبالواقع كذلك، سواء في إطار رمزي أو تقريري. وقد حدث في بعض النصوص أن نقل الكُتَّاب حياة أفراد وجماعات وأحزاب.
أمّا أن يهتم النقد بالأشخاص فذاك -حسب رأي المتحدث- تجاوز لحدوده من حيث إنّ الكاتب ليس نصًا، شأنه شأن الشاعر والمسرحي والرسام، وإذا حدث أن وقع أمر كهذا، وقد حصل فعلاً، سواء في السبعينيات أو بعدها، فمعناه أن هناك خللاً في فهم وظيفة النقد برمتها. أي أنّنا نكون قد اِنتقلنا من جغرافية النقد الأكاديمي إلى حقلٍ آخر لا علاقة له بالنقد المُتعارف عليه عالمياً.
صاحب "ما حدثَ لي غداً" وفي ذات السياق، أضاف قائلاً: "لا توجد أكاديميات في هذا الشأن، وليس من تقاليدها الخروج عن الحدود المرسومة لها من قِبل المناهج مجتمعة، التحليل النفسي أو الاِجتماعي أو الدلالي أو الأسلوبي أو غيرها من المناهج. مع الإشارة إلى بعض التجاوزات التي حصلت في التحليل النفسي للنصوص، أو في التحليل الاِجتماعي، أو في مقاربات اِنطلقت من الاِنطباعات والمواقف الأيديولوجية والدينية. قد تحصل خروقات ليست لها مسوَغات علمية، ومن ثمّ ضرورة تجاوزها، لأنّها لا تنتمي إلى النقد، بل إنّها تحط من قيمته وأخلاقه. حتّى النص الّذي نتعامل معه نقديًا يجب أن نحترمه لأنّه جهد له مبرراته، أمّا النقد الموجه له فليس سوى تنبيه إلى الزلل، من تموقع عيني وفي سياق حصري. ذلك أنّ المواقف متغيرة، كما الذائقة، ما عدا ما اِرتبط بمسائل لا يمكن أن تكون إلاّ كذلك". ثمّ اِستدرك قائلاً "مع ذلك يجب أن نُشير إلى تجاوزات الكُتّاب في حق النقاد، وليس في حق النقد كآلية علمية، ويمكننا مراجعة ما يُنشر أحيانًا على صفحات التواصل الاِجتماعي من تعليقات فجة مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية، وبمطبات بنائية وأسلوبية غير مقبولة. خاصةً عندما تأتي من كُتَّاب مكرسين وطنيًا وعربيًا. وما يمكن قراءته على صفحات التواصل الاِجتماعي هو ما يتم تداوله في الشارع. أعتقد أنّه من المهم أن يلتزم كل منهما حدوده".
واختتم قائلا: "ثمّة اليوم تصادم لا يجدي، وليس من السهل تجاوزه في الفترة الحالية سوى بعدم الكتابة عمّا يُكْتَب، وذلك تفاديًا للخروج من النص إلى الذات. لم نكرس بعد لتقاليد الحوار، ويبدو أنّنا لم نعد بعيدين عن جدل الأسواق. كل منا بسلطنته وحاشيته وحريمه وقوانينه".
عبد الله العشي
المركزيات الصُغرى (الشللية) دعمت هذا التوجه السالب
يُشير الشاعر والناقد عبد الله العشي، إلى أنّ هناك ممارستين نقديتين، إحداهما تشبهها في الهدف وإن كانت نقيضًا لها في الشكل، وهي النقد القائم على المجاملة والمحاباة، والأخرى المختلفة عنهما في الشكل والهدف، وهي النقد العلمي الموضوعي. والمُمارسات الثلاث حاضرة في الخطاب النقدي في الجزائر.
ويواصل في هذا المعطى: "يمكن أن تكون (ظاهرة العنف) في النقد الأدبي مرتبطة بحالة اِجتماعية أعم، يوجهها العنف على المستوى السياسي والإعلامي والتربوي والإداري ثمّ الثقافي والأدبي، وربّما يعود ذلك إلى البنية النفسية والفكرية للفرد الجزائري الّذي غالبًا ما يُنعت بالقسوة والشدة، وبالتالي بالتمركز حول الذات واستبعاد الآخر (ولهذه الفكرة تفسيراتها التّاريخيّة) لكن هذا التفسير لا يعني جميع الكُتّاب والأفراد، إنّما يتعلق فقط بمن يُمارسون هذا النوع من الكتابة النقدية".
إضافةً إلى هذا التفسير العام، فسر -المُتحدث- الظاهرة، من وجهة نظري، بإعادتها إلى الأسباب التالية:
السبب الأوّل يتعلق بـ"الناقد" الّذي لم يبلغ بعد درجة الوعي النقدي، ولم يدرك دلالات فعل النقد، ولا مسؤوليات الممارسة النقدية، إنّما يتصرف بعقل تشكل خارج "المؤسسة النقدية"، ونما خارج قيم العِلم والثقافة، وتوجهه رغبات أو خلفيات ذاتية، فجاء إلى الكتابة "فقيراً" إلى لغة النقد ومناهجه وأساليبه وأهدافه المعرفية، جاء إلى النص الأدبي من خارج الأدب ومن خارج النقد، يستعمل لغة من سياق آخر، ويخوض "معركة" يبدو أنّ موضوعها هو الأدب، لكن الأدب ليس سوى مجرّد ميدان لها.
وهنا أضاف: "صحيح أنّ هناك الكثير من النصوص لا تستحق شرف الاِنتماء إلى الأدب، لكن النقد يمتلك من الآليات اللغوية والمنهجية والمعرفية ما يستطيع بها وصف حقيقة تلك النصوص، ويمتلك سلطة تستطيع إخراج "النتوءات الأدبية الدخيلة" من دائرة الأدب.
أمّا السبب الثاني فيعود -حسب المتحدث- إلى المؤسسة التي تروج لتلك الكِتَابات وتسمح لها بالعبور، (سواء كانت مجلات أو جرائد أو مواقع إلكترونية أو دور نشر اِلخ...)، فإمّا أنّ هذه المؤسسات تفتقر إلى الوعي الثقافي وإمّا أنّها متورطة مع الكاتب.
في حين يرى أنّ السبب الثالث قد يعود إلى "الحراك النقدي" العام، الّذي لم يتمكن من تأسيس تقاليد تمثل "سلطة رمزية" ملزمة، هذا الحراك يصنعه الكاتب والناشر والقارئ والمؤسسة الإعلامية والأخلاق الاِجتماعية.
صاحب "صحوة الغيم"، أضاف قائلاً: "لا شك أنّ ظاهرة (المركزيات الصغرى -الشللية-)، والتي تشكلت في غياب مشروع ثقافي عام يجمع الأغلبية على قواعد عامة وقيم كُبرى، دعم هذا التوجه السالب. لكن المُمارسة الأخرى المُقابلة، مُمارسة المجاملة والمحاباة، ليست أقل ضرراً من هذه، فهي كثيراً ما ترفع (كتبة) إلى درجة الكُتّاب وتصنع منهم رموزاً تُضلل القارئ والرأي العام".لكن -حسب الدكتور العشي- لا يعمل هؤلاء وحدهم، فهم يمثلون طبقتهم أو مجموعتهم أو "مركزيتهم الصغيرة" أو مؤسسة غير أدبية، وللأسف فإنّ عدداً من الأسماء والنصوص هي من صنع "مؤسسات" غير أدبية، تقف في الظل وتستغل كُتابا من هذا النوع أو ذاك بشكل ذكي، وتدفعهم للنطق بلسانها.
وعليه، -يُضيف المُتحدث- "يحتاج الناقد أن يكون مؤسسة بذاته، متحرراً من أي إكراه، مُستقلاً بعقله، عن أية غايات أو مصالح غير علمية. هذا مع الإشارة إلى وجود نُقاد علميين موضوعيين حريصين على ماهية النقد الأدبي ومنهجه وأهدافه، يستحقون التقدير، ولا ينبغي أن يكونوا، في ظل أوضاع ثقافية ضالة ومضللة، ضحية ممارسات لن تسجل لها موقعا في التاريخ".وخلص إلى القول: "لنقل في النهاية إنّ هذه الظاهرة طبيعية، وإن لم تكن صحية، وليست أمراً طارئاً في ثقافتنا القديمة والحديثة، وبقدر تطور النقد الموضوعي سوف تنكمش هذه الممارسات السلبية سواء في الكتابة أم القراءة.
قلولي بن ساعد
يجب التعامل مع النص بمعزل عن مؤلفه
يقول الناقد والقاص قلولي بن ساعد: "مِمَّا لاشك فيه أنّ تداول كتابات يحاول البعض أن يضعها ضمن خانة (النقد الأدبي) وهي تضمر داخلها أحكامًا مُسبقة تنتصر للزائف والنمطي والشخصي والقبلي والعلاقات الهشّة بين الكُتّاب أنفسهم في أبعادها الاِجتماعية والأبوية والسياقية يعود بالأساس إلى اِنفتاح فوضى النشر عن آخرها، والتي هي الأخرى لها سلبياتها، مثلما لها إيجابياتها، يضاف إلى ذلك خلو المشهد الأدبي من حركة نقدية، فنحن لدينا نُقاد وليس لدينا حركة نقدية مؤطرة بشكل منظم ومدروس ومؤسس له بخطىً ثابتة وبُعد نظر".
كلّ هذا -حسب المتحدث- فتح المجال واسعًا لهذا النوع من "النقد" الّذي لا يحتاجه القُراء ولا يُشكل أية إضافة نوعية وليس في اِستطاعته الذهاب عميقًا إلى البواطن والمساحات الغامضة التي تُحيل إليها وعليها النصوص الإبداعية قصةً وشِعراً ورواية.
مُضيفًا في ذات السياق: "طبعًا، لا يمكن أبداً اِستبعاد البُعد الذاتي في الكتابة النقدية أو تجاهله وأنّ الناقد مهما بلغ من الأهمية ومن الموضوعية والحس العقلاني حتّى وهو يستخدم بعض الأدوات الإجرائية التي تنتمي إلى المناهج النسقية المغلقة كالبنيوية والسميائية السردية في أول عطاءاتها مع غريماس وجوزيف كورتيس وحوليات مدرسة باريس للسيميائية ذات المسحة التقشفية العلمية الصارمة فلابدّ أن تتسرب المؤثرات الذاتية إلى لاوعيه النقدي ومخياله الثقافي وذائقته الإبداعية، لأنّه عمل بشري وأنّ الموضوعية تبقى دائمًا مسألة نسبية، والمطلوب هو توفر الحد الأدنى من توخي الموضوعية والتعامل مع النص الإبداعي بمعزل عن مؤلفه وعن كلّ السياقات الخارج نصية".
وهنا اِستدرك موضحاً: "لو كان الأمر مثلاً يتعلق باِستثمار منجزات التحليل النفسي في النقد الأدبي الّذي يحاول الربط بين النص ومبدعه لكان الأمر مقبولاً لأنّ للاِتجاه النفسي في النقد الأدبي بتأثير من فتوحات فرويد ولاكان وغيرهما من المفكرين وعلماء النفس أدواته الإجرائية ومفاهيمه و(إنتاجيته النّصيّة) نسبيًا بتعبير جوليا كريستيفا، فما هو مُلاحظ عند رصد ومعاينة بعض المقالات التي تمتلئ بأسئلة التسطيح والاِبتذال لقيم النقد والكتابة أنّها تنطلق من محدّدات خارج نصيّة فتلجأ إلى اِجتزاء بعض المقاطع والفقرات مفصولة عن سياقاتها الإبداعية لتبرير أحكاما أخلاقية وأخرى مطلقة ترتضيها في أي الاِتجاهين (مع أو ضدّ)".
وغالبًا ما تكون هذه النزعة -حسب رأيه- مرتبطة أشد الاِرتباط بعوامل سياسية في اِنصياعها الأعمى لتوجه سياسي معين، أو تحيل لخلافات شخصية، أو هيكلية، أو تكتلات فئوية لها أهدافها الضمنية وأجندتها الظرفية وقيمها النفعية التي تدعو لها. وهذا النوع من "النقد" -في تقديره الشخصي- "لا يُشكل تياراً فكريًا ولا يستقي مفاهيمه من أية مدرسة في الكون والتاريخ، بل لا يملك أصلاً مفاهيمَ واضحة ومُعترف بها علميًا، وهو غير جدير بالبقاء والتداول الإعلامي والثقافي ومن الأفضل تجاهله والاِهتمام بالنص لا بمبدعه ومؤلفه، والعمل على الحد من حضوره وشيوعه، والتوجه صوب النص الإبداعي بِمَّا يُثيرهُ فينا من حس إبداعي ومن عوالم إبداعية جديرة بالتأمّل النقدي والمُساءلة الفلسفية وما يطرحه من اِنزياحات لغوية ودلالية وتركيبية على مستوى اللّغة والجملة والتشكيل المفرداتي".
مؤكداً في هذا المعطى، أنّه لا بدّ للدرس النقدي أن يمتح من جمالياته لإضاءة جوانبه الداجية، والكشف عن علاقة النص بالدلالة والمعنى وبالقيم الإبداعية التي ينتجها، واعتبار ذلك عملاً إبداعيًا ونقديًا ثانيًا هو بمثابة (الكلام عن الكلام) بتعبير أبي حيان التوحيدي طالما أنّ الكشف عن (المعاني الإضافية والرمزيّة للمتعة النصوصية) كما يسميها رولان بارت ليس مطلوبًا من المبدع مُنشئ النص إضاءتها، بل إنّها من مهام الناقد الّذي يُنشئ على ضوء النص الإبداعي نصًا آخر ينتمي إلى حقل النقد الأدبي النصوصي المُؤسس على معرفته النسبية وتمثله لمقومات الكتابة النقدية وأُسسها وعلاماتها المحفوفة بالمعرفة وبأسئلة الكتابة الإبداعية وتنوع طرائق القول الإبداعي درءاً لأي اِنحراف أو اِنسياق وراء وتائر ما هو زائل وظرفي ومبتذل.
محمّد بن زيان
التردي الأخلاقي حوَّل النقد إلى معارك لتصفية الحسابات ولرد المجاملات
يعتقد الناقد والكاتب محمّد بن زيان، أنّ واقع الممارسة النقدية مرتبط بسياق عام، سياق مرتبط بهيمنة النمط الريعي وما كرسه من شبكة العلاقات الزبائنية وباِمتداد نفوذ الولاءات التي سبقت الحداثة، الولاءات القبلية والفئوية. سياق مناخ طارد لتشكل النخبة بكلّ ما تعنيه من دلالات إنتاج الرساميل الرمزية والتأسيس على العقل، تأسيسٌا يفرز الحالة الحضارية بكلّ ما تعنيه.
وعودة للموضوع، فالمُمارسة التي تعم، -حسب ذات المتحدث- تتناقض أحيانًا مع مُسمى النقد كفاعلية توليدية للدلالات المُراكمة للمعنى، وما يتفشى هو اِمتداد لما تعرفه جامعاتنا ولما التبس بالمُمارسة الإعلامية.
ثمّ أضاف قائلاً: "بل لو تعمقنا أكثر سنرصد ذلك في المنظومة التربوية التي بدّدت صياغة العقل النقدي. والنتيجة ما نراه من غياب للتبلور الجدير بالنسبة إلى النقد كفاعلية إبداعية تقرأ النص ولا ترتكز على العلاقة مع صاحب النص، تتعاطى مع المكتوب وليس مع من كتب. وفاقمَ الواقع الظاهرة بإحباط أدرك عدد من المخلصين للعقل وللإبداع".
وهنا استدرك قائلاُ: "ولكن لا يمكننا أن نُنوه بجهد تبذله أسماء ترفض الخضوع للمنطق السائد، وهي الأسماء التي تكابد مجاهدات اِستثنائية أكاديميًا وإعلاميًا وثقافيًا في سبيل الاِنتصار للحقيقة وللجمال. والمُتابع لبعض ما يُطرح باِسم النقد سيرصد ظاهرة خصومات تفتقد التأسيس المعرفي الّذي يُحَوِّل الخصومة إلى عطاء كما كان يحدث في المعارك الأدبية بين أسماء صاغت الحراك الأدبي في مراحل سابقة، كالمعارك التي جرت بين العقاد وخصومه أو بين زكي مبارك وأحمد أمين. البعض بسبب اِفتقاده للعدة المعرفية وبسبب تموقعه في ما أسماه أركون بالسياج الدوغمائي المُغلق أو بسبب تحكم ما نعته القرآن الكريم بالحمية الجاهلية يفرز الاِنحطاط المسمى نقداً. الظاهرة إجمالاً بربطها بالسياق العام لا تبدو مستغربة بل هي من علامات الوضع المُربك باِرتباكاته".
صاحب كتاب "حرائق قلب"، أضاف قائلاً: "لقد عرّف عالم الاِجتماع بيار بورديو المثقف كمنتج للرأسمال الرمزي للمجتمع، أي ما يشكل رموزاً وعلامات وقيمًا ودلالاتْ، والمتعاطي مع الإبداع نقديًا يقوم بتوليد دلالات وقيم من النصوص التي يتعاطى معها، هذا ما أنجزه بارت وهايدغر وسارتر وبقية الأسماء المرجعية فلسفيًا ونقديًا في عصرنا، وهذا هو الجدير بالاِشتغال النقدي تحقيقه، لأنّ الأدب وصل مرحلة جعلت قامة نقدية كتودروف يكتب: (الأدب في خطر)، وذلك ما نلاحظه في أثار هيمنة النزعة التقنوية التي أفقدت الإبداع إبداعيته وأخضعته لما بدّد ماءه ودمه".
كما أنّ من مصائب الممارسة -يُضيف بن زيان- الإسقاطات المتعسفة لأطروحات نقدية مبتورة عن مرجعياتها ومستنداتها الفلسفية والمعرفية وعن سياقات تشكلها. وزاد الاِنحطاط بالتردي الأخلاقي الّذي حول النقد إلى معارك لتصفية الحسابات ولرد المجاملات وتبادل المغانم. لكن، لا يمكن أن نُعمم. هناك اِنحرافات خطيرة وهناك محاولات لممارسة سوية وهناك اِشتغالات نوعية، لكن الضجيج يحجب الاِشتغال النوعي المتمرد على سيرة القطيع.
بن زيان خلص إلى القول: "مشكلتنا في الجزائر غياب المنابر وغياب فضاءات التواصل، فرغم العدد الهائل للعناوين الإعلامية لا توجد إلاّ بعض العناوين التي تفتح صفحاتها للنقاش ولملاحق ثقافية، كما يفتقد المثقفون فضاءات اللقاء، ولعله من نافلة القول التذكير بمحورية المنابر والفضاءات في شحن المشتغلين ثقافيًا ونقديًا بطاقة العطاء".
عز الدين جوهري
بَعضُ النَّقدِ تحول إلى مُهاترات وتَجريحٍ فِي المبدعينَ
يعتقد الشاعر عز الدين جوهري، أنّ سُؤال النَّقد عِندنَا فِي الجَزائر يُعدُّ مِنْ بينِ الأسئلةِ الأكثر هَشاشةً، وقابليَّةً للكَسرِ، مِن بَاقي الأسئلةِ الثقافيَّةِ العَامَّةِ، التي يَبدو أنَّهَا لا تريدُ أنْ تُراجعَ مَناهجهَا وأدواتهَا البَاليَّةِ مِن جهة، والبائسة مِن جهة أخرى. لأنَّنا فِعلاً -حسب رأيه- لا نَملكُ مُؤسسة نَقديَّة مُواكبَة للحَركَةِ الإبداعِيَّة بعيدًا عَن التَّجريحِ والتَّنكيلْ بالمُبدِعِين الذين تأثَّرتْ دَواخِلهم ومَزاجهم الإبدَاعِي، ممَّا أدى بالكَثيرِ مِنهم إلى التفكيرْ الجدِّي في العُزوفِ عَن الكِتابة، وطَمسِ مَواهِبهم الإبداعيَّةِ في تُرابِ الأحقادِ والضَّغائنِ، والنَّعراتِ الثَّقافيّةِ التي قَتلتْ مُبدعينَ كثيرينَ فِي المهدِ، وأسلَمتْ مواهبهمْ إلى الجَحِيمِ الأرضِي.
صاحب "في شؤون النّار والأهوال"، أضاف قائلاً: "إنَّ مُساءلة النُّصوصْ تعدُّ مَسألة خَطيرةً، خُصوصًا حِين يتحوَّلُ بَعضُ النَّقدِ إلى مُهاتراتْ وتَجريحٍ فِي المبدعينَ، والطَّعنِ في سُلوكهمْ ومُمارسَتِهم للحَياةْ، بعيدًا عَن وَظيفةِ النّقدِ الحَقِيقيَّة، التي وجبَ عَلى النّاقدِ أنْ يتَحلَّى بهَا وأن يتأدّبَ بأدبهَا ويَنتهجَ نَهجهَا الواعي، الّذي يَهدفُ إلى إبرازِ مَواطنِ الخَللِ والضَّعفِ والقوَّةِ للنَّصِ الأدبي بعيدًا عَن كاتبهِ ومزاجهِ، وطريقةِ عيشهِ، ونَمطَ تفكيرهِ، فنقَّادنَا لمْ يعدْ يهمُّهمْ مُنجَزَ أبنائِهم وبنَاتِهم، إلاّ لأجلِ تَصفية حِساباتْ، والتربُّصِ بهمْ في الزَّوايا الضيِّقةِ، والطَّعنِ في شُخوصهمْ بسببِ مرجعيَّاتْ شَخِصيّة عِدائيَّة، لذلكَ وجبَ علينَا أن نسأل النُّقادْ عن سَببِ عُزوفِهم عَن تنَاول المَتن الإبداعي الجَزائري، التي أعلَن الكَثير مِن المُتابعين للشَّأن النَّقدي، أنَّها تَحوَّلتْ إلى حَلبة تَصفِية حِساباتْ نَاتجَة عَن ذِهنيَّات مَريضَة، همَّهَا الوَحيد الاِصطِيَاد فِي المَاء العَكر".
واختتم متسائلاً: "أينَ هُم نقّادنَا الجادّينَ الذين يُمارسون النَّقد عَلى أصولهْ؟ أينَ الأدواتْ النَّزيهة التي تهدفْ إلى إبراز القِيمة الجَمالية للنُّصوصْ الأدبيَّة؟ ألمْ يأنِ لنقَّادنَا أن يُعيدُوا النَّظرْ فِي أساليبهمْ التي شوَّهتْ سُمعةَ النَّص، والمبدعَ على حَدٍّ سواءْ.. إنَّنَا نَنحَدرُ بِسرعةِ البرقِ نَحوَ الهَاويَّةِ! لذلك يُؤسفُني أنْ أعلنَ مَوتَ النَّقدِ والنُّقادْ.