يحتفل العالم يوم 30 سبتمبر 2023 باليوم العالمي للترجمة. وتأتي اِحتفالات هذا العام حسب ما أعلنه الاِتحاد الدولي للترجمة تحت شِعار "عالم بلا حدود". فالترجمة -كما جاء في رسالة الإتحاد قبل أيّام: "ليست فناً جانبياً من حياتنا، لا يتسع لأحداث العصر المتسارعة، وبالتالي فإنّ شِعار يوم الترجمة العالمي يلمس جانباً مُؤثراً من حياتنا كلّ عام.. ففي عام 2019، كان شعارنا (الترجمة ولغات السُكان الأصليين) تعبيراً عن اِهتمام فن الترجمة بكلّ اللغات، وتضامناً مع اِحتواء جميع الشعوب، مُؤكداً أنّ لنجاتنا وازدهارنا على الأرض يجب علينا جميعاً أن نتكاتف ونتقارب، كما تتقارب الكلمات والعبارات الخاصة باللغات المختلفة حين نربط بين لغتين بوثاق من فضول وحب معرفة يربط شعبين لا يتحدثان نفس اللّغة. أمّا هذا العام، فاليوم العالمي للترجمة يسير بخطىً واضحة، عابراً نفس الجسر، مُوحداً شعوب العالم عبر شعاره (عالم بلا حدود)، مُتمنياً أن تذوب الحدود الفكريّة والثّقافيّة بين الشعوب حتّى نصير شعباً واحداً يتقبل فيه أحدنا اِختلاف الآخر. سُمي هذا اليوم بالـ International Translation Day لأنّه يخدم هدف الترجمة الأساسي في توحيد العالم".
أعدت الملف: نـوّارة لحـرش
وكما هو معروف فقد بدأ الاِتحاد الدولي للمترجمين الّذي تأسس عام 1953، الاِحتفال الرسمي بالترجمة يوم 30 سبتمبر من العام 1991. وقد أَطلَقَ الاِتحاد فكرة الاِحتفاء باليوم العالمي للترجمة كيوم معترف به رسميًا، وذلك لإظهار تعاضد وتعاون المترجمين في جميع أنحاء العالم ولتعزيز مهنة الترجمة في مختلف الدول. وتعتبر الاِحتفالية فرصة لعرض مزايا هذه المهنة التي تزداد أهميةً يومًا بعد يوم (خاصةً في عصر العولمة)، وكذا دورها الفعّال في نقل ثقافات وآداب وعلوم وحضارات الشعوب من لغةٍ إلى لغة. المناسبة فرصة للاحتفال بالترجمة والمترجمين واللغات، وهي أيضا فرصة ومناسبة لطرح أسئلة ذات صلة بهذا الشأن. إذ يمكن هنا أن نتساءل -مثلاً- عن الدور الحضاري الّذي يمكن أن تلعبه الترجمة في مجالات التحصيل العلمي والمعرفي؟، وعملية الاِنفتاح على الآخر؟، وفي ربط خيوط التلاقي والتواصل بين الشعوب والأُمم في جميع مناحي الحياة. وما مدى مكانتها وأهميّتها وسقف الدور الّذي يمكن أن تضطلع به في التنميّة البشريّة؟. وما مدى الأهمية التي تمدها للفِكر في شتّى صنوفه من حيثُ نشره وتبليغه. وبالموازاة معَ كلّ هذا هل يمكن للترجمة -حقًا- أن تكون ظاهرة حضارية تُشكل في تاريخ الأُمم معبراً هامًا وفاعلاً للمساهمة في تاريخ البشريّة؟. وهل بات مُؤشر التطوّر العلمي والمعرفي بين الدول المُتحضرة، يُقاس بحجم الترجمة المُنجزة في هذا البلد أو ذاك؟
حول هذا الموضوع "الترجمة والدور الحضاري"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد، وفيه آراء متنوعة، مع مجموعة من الكُتّاب والمترجمين.
* محمّد داوود
نشاط يسمح بالاِنفتاح على الثقافات و الحضارات الأخرى
يؤكد من جانبه الأكاديمي والمترجم الدكتور محمّد داوود، أنّ الترجمة في العالم العربي عامة وفي الجزائر على وجه الخصوص تواجهُ معوقات كثيرة تَحُدُ من فعاليّتها ومن إشعاعها في الأوساط الأكاديميّة والثّقافيّة.
وتابع قائلاً: "إنّ الترجمة باِعتبارها من أكثر الوسائل الناجعة في نقل العلوم والمعارف إلى اللّغة العربيّة ومنها، تُعاني كثيراً من الاِكراهات وتُسجلُ تأخراً كبيراً، وقد أشارت إلى هذه الوضعية العديد من التقارير الوطنية والدولية ومنها المؤسسة الأُمميّة (برنامج الأُمم المُتحدة للتنمية)، إذ جاء في بعض تقاريرها السابقة: إنّ العالم العربي لا يُترجم سوى 330 كتابًا في السنة، أي ما يُعادل خُمس ما يُترجمه بلد مثل اليونان، وأنّ ما تمّت ترجمته من مؤلفات لا يتجاوز مائة ألف كِتاب، أي ما يُعادل المعدل السنوي لِما يُترجم سنويًا في إسبانيا".
وأضاف ذات المتحدث: "على الرغم مِمَّا أثاره هذا التقرير من جدل في الأوساط الأكاديميّة والإعلاميّة حول دقة وصحة هذه المعلومات، فإنّ واقع الترجمة يُعاني كثيراً من اللامبالاة ومن غياب إستراتيجية وطنية تأخذ بعين الاِعتبار الأهمية الكُبرى التي يُمثلها هذا القطاع".
وحسب رأيه دائماً، يمكنُ القول أنّ الدولة الجزائرية قد بذلت جهوداً مُعتبرة لتنميّة الترجمة من خلال التكوين الجامعي وتحرير الحقل الثّقافي والترخيص القانوني والتشجيع المادي لدور النشر منذ بداية التسعينيات.
ثمّ أردفَ قائلاً: "لقد تمّ تأسيس العديد من أقسام ومعاهد الترجمة وتوطين المعهد العالي العربي للترجمة بالجزائر العاصمة إلى جانب مؤسسات أخرى مثل المجلس الأعلى للغة العربيّة وغيرهما، وهي جهودٌ معتبرة لكنّها تفتقد إلى رؤية شاملة وإستراتيجية وطنية واضحة".
وذهبَ في هذا السياق إلى أنّه لا بدّ من إعادة النظر فيما تمّ إنجازه وتقييمه ووضع إستراتيجيّة وطنية للرفع من قدرات هذا القطاع بالتشجيع المادي والمعنوي للمترجمين وبمختلف اللغات، وتأسيس مخابر ووحدات بحث ومراكز تعتني –وفقط- بترجمة المؤلفات وفي جميع التخصصات العلميّة، الاِجتماعيّة والتّكنولوجيّة...
في الأخير خَلُصَ إلى التأكيد على أنَّ الترجمة بوصفها نشاطًا يسمح بالاِنفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، وهذا ليس غريبًا عن حضارتنا العربيّة والإسلامية.
* بشير خليفي
مرتبطة بالفهم التراكمي للفِعل الثّقافي وبالحاجة المعرفية للآخر
يقول الباحث الأكاديمي والمُترجم، الدكتور بشير خيلفي: "لقد أضحت الترجمة مَجالاً واسعًا للبحث من حيث ضوابطها ومجالاتها وأشكالها مِمَّا فسح المجال لكثير من الباحثين للخوض في غمارها من أبواب شتّى. والواقع أنّ أهمية الترجمة في أشكالها المُتعدّدة تنبعُ أساسًا من التعدّد اللغوي الحاصل والرغبة في تواصل ناجع يستفيد من خلاله الأفراد من الحاصل في المعطيات التداولية المختلفة، هذا زيادةً على الأهمية البالغة التي تمدها الترجمة للفكر في شتّى صنوفه من حيثُ نشره وتبليغه".
مُضيفًا في ذات النقطة: "إنّ الحديث عن الترجمة في الجزائر لا ينفصل البتة عن طبيعة الوعي بمفصلية الثّقافة لدى الإنسان الجزائري، ومن ثمّة ترتبط اِرتباطاً عضويًا بالفهم التراكمي للفِعل الثّقافي وبالحاجة المعرفية للآخر سواء كباحث أو مُستقبِل، أو حتّى عند القارئ الجزائري نفسه من حيثُ رغبته في قراءة منجز معرفي مكتوب بلغة مختلفة عن إطار التكوين والاِشتغال".
وهو يرى، أنّ أزمة الترجمة عندنا من أزمة الثقافة في فهوماتها، تشكيلاتها وتنويعاتها المتعدّدة عبر نسبة المقروئية والنظرة للآخر المُختلف في لغته ومعتقده ومعاشه، وكذا في التصوّر العام لما يستحق ترجمته عبر أحكام غالبًا ما تحيد عن لغة العدل والإنصاف، يُؤججه اِعتقاد سائد يستوطن بعض المثقفين يرون من خلاله أنّ العمل الترّجمي يستهدف أساسًا إلى خدمة الكاتب والتعريف به أكثر من التعريف بالمترجم.
وفي هذا الإطار -أضاف مستطرداً-: "لا يمكن أن ننفي الجهود المبذولة عبر المعهد العالي للترجمة أو أقسام الترجمة ومخابر البحث المُتخصصة المُنتشرة عبر ربوع جامعات الوطن في سعيها لتكوين مترجمين في تخصصات الترجمة المختلفة، إضافةً إلى ما تقوم به بعض دُور النشر. إلاّ أنّ غياب التنسيق وعدم وجود إستراتيجية واضحة المعالم للاِعتناء بالترجمة والمُترجم يجعل من فِعل الترجمة في إطارها البحثي والمعرفي على وجه الخصوص عملاً بالغ العُسر والصعوبة. ليستحيل الأمر إلى نشاط فردي ينبري له بعض الباحثين بجرأة وتحدٍ كتعبير عن نشاط معرفي يستجلبون من خلاله مناويل وأنسجة في التحليل والحكي من سياق لغوي إلى نظير له، مثلما يتضح على سبيل المثال لا الحصر عبر جهود أبو العيد دودو، محمّد ساري، سعيد بوطاجين، عبد الحميد بورايو، جيلالي خلاص وبوداود عميّر في مجال الأدب، إضافةً إلى محمّد جديدي، عمر مهيبل، كمال بومنير، الحسين الزاوي ونادية بونفقة في إطار الفكر والفلسفة".
* بوداود عميّر
مُؤشر التطوّر العلمي والمعرفي يُقاس بحجم الترجمة المُنجزة
يقول الكاتب والمُترجم بوداود عميّر: "لا يختلف اِثنان في الدور الحضاري الّذي كانت ولا تزال تلعبه الترجمة في مجالات التحصيل العلمي والمعرفي، وعملية الاِنفتاح على الآخر، وفي ربط خيوط التلاقي والتواصل بين الشعوب والأُمم في جميع مناحي الحياة".
مضيفًا في هذا السياق: "لقد بات مُؤشر التطوّر العلمي والمعرفي بين الدول المُتحضرة، يُقاس أساسًا بحجم الترجمة المُنجزة في هذا البلد أو ذاك: من خلال عدد اللغات المُترجم منها وإليها، المواد العلمية والمعرفية التي تشملها وأيضًا نوعية الترجمة المُؤسّسة على عناصر الإتقان، الكفاءة والأمانة العلمية. فليس غريبًا والأمر كذلك أن تتنافس الدُول المُتحضرة في إنشاء معاهد مُتعدّدة للترجمة ومؤسسات للإشراف والمُتابعة وجوائز لتشجيع المترجمين وتحفيزهم".
ومِمَّا لا شكَ فيه -يُواصل ذات المتحدث- أنّ الترجمة رغم ضروراتها الحتميّة وأهميتها الكُبرى، هي في الأساس عملية صعبة ومُعقدة، يستوجب لتحقيق أهدافها إمكانيات مادية وبشرية هائلة، قد لا تتمكن معاهد الترجمة أو المؤسسات الجامعيّة لوحدها من بلوغ أدواتها وتحمّل كاهلها، ذلك أنّ حركة الترجمة في حد ذاتها لا تقتصر كما قد يتوهم البعض على عمليات نقل فحسب من لغة إلى أخرى في مجال واحد أو مجالين من الأدب أو العلوم.
ولكنّها تقتضي في الأساس -حسب رأيه دائماً- إضافة مُتجدّدة وإثراءً واسعًا للمعرفة المُعاصرة، مع الأخذ بعين الاِعتبار التباين في عمليات الترجمة العلميّة والأدبيّة، باِعتبار أنّ الأولى تهدف إلى توخي الموضوعية والصرامة العلمية، في حين تسعى الترجمة الأدبيّة إلى تحقيق إبداع يتماهى مع إبداع النص المُترجم منه، وبالتالي لا يكفي هنا إتقان اللغات أو التمكن من نظريات الترجمة وتقنياتها فقط، الأمر يتعلق في الأساس بضرورة توّفر الموهبة الأدبيّة المُلِمة بقضايا الشِّعر أو السرد حسب الحالة، اِطلاعاً وكتابةً، بمعنى نقل نص أدبي بوصفه نصاً أصليًا وليس نصًا مُترجمًا.
من هنا -كما يعتقد بوداود عميّر- فإنّ تواجد العديد من معاهد الترجمة على الصعيد الجامعي أو إنشاء المعهد العالي العربي للترجمة في بلدنا، لا يكفي وحده لتحقيق التواصل العلمي والمعرفي الّذي نتطلع إلى إنجازه من وراء حركة الترجمة، كما أنّ المجهودات الفرديّة لكُتّاب ومبدعين على أهميّتها لا تكفي هي أيضًا.
ولهذا فهو يرى، أنّ الحلول تكمن أساسًا في مبادرات واسعة تُطلقها الدولة في إطار إستراتيجية واضحة المعالم، تهدفُ إلى دعم حركة الترجمة والتأسيس لها، وتتمثلُ خاصةً في تشجيع المبادرات الفرديّة والجماعيّة، وإنشاء مجلس أعلى للترجمة مع ضرورة وضع كافة الإمكانيات الماديّة والبشريّة تحت تصرفه، شأنه في ذلك شأن المجالس العُليا الأخرى، تشجيع دور النشر المهتمة بالعملية، تنظيم مسابقات أحسن عمل مُترجم في المجالين العلمي والأدبي.
المُتحدثُ ذاته، اِستدرك قائلاً: "من نافلة القول التأكيد أنّنا نُعاني من تخلف فظيع كوطن عربي في ميدان الترجمة في جميع مجالاتها، وحسبنا في ذلك الإحصائيات التي تُصَنِف للأسف الدول العربيّة في ذيل الترتيب، إذ وِفقًا لتقرير التنميّة البشريّة حول الترجمة أنّ (اليابان مثلاً تُترِجم 30 مليون صفحة سنويًا، في حين أنّ ما يُترجم سنويًا في العالم العربي هو حوالي خُمس ما يُترجم في اليابان، عِلمًا أنّ ما تُرجِم إلى العربيّة منذ عصر المأمون إلى العصر الحالي 10.000 كِتاب، أي ما يُعادل ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة. ففي النصف الأوّل من ثمانينات القرن العشرين، كان متوسط الكُتُب المُترجمة إلى اللّغة العربيّة أقل من كِتاب لكلّ مليون عربي في السنة مقابل 13 كتابًا لكلّ مليون في دول المجر و184 كتابًا لكلّ مليون في إسبانيا)".
صاحب "صوب البحر" أشار إلى أنّ بعض الدول العربيّة تفطنت ربّما لمكانة وأهمية الترجمة والدور الّذي تضطلع به في التنميّة البشريّة، وهكذا أطلقت في السنوات الأخيرة عدة مبادرات.
وخلص إلى القول: "لا شك أنّ الجزائر تملك طاقات بشرية هائلة في مجال الترجمة يُشهدُ لها بالكفاءة والتميّز، لكنّها طاقات للأسف تشتغل عشوائيًا وبشكلٍ غير منظم، ستبقى غير مستغلة، ما لم تضطلع الدولة الجزائرية بالدور المنوط بها في التأسيس لمنجز ثقافي على أعلى مستوى، وبشكلٍ يسمح لهكذا طاقات أن تُقدم مساهمتها الفعّالة في ترقية حركة الترجمة ببلادنا".
* محمّد عاطف بريكي
من الضروري العناية بالترجمة كسلوك إبداعي مُتكامل ضمن نسقٍ عام
يرى الشاعر والمُترجم محمّد عاطف بريكي، أنّ حال الترجمة في الجزائر من حال المشهد الثّقافي عمومًا والأدبي خصوصاً المُتميّز بالفوضى، إلاّ بعض النشاطات الأدبيّة التي تفرزها التظاهرات المناسباتية السنويّة، أو بعض الإصدارات الجديدة في الرّواية والشِّعر التي تبعث على شيء من الاِرتياح.
غير أنّ واقع الترجمة الأدبيّة -حسب رأيه- يبقى يُراوح مكانه كأنَّ القدر سَطّرَ له نكبة أبدية برغم المساعي والمحاولات من بعض الأقلام على قِلتها وحركية بعض المؤسسات التي لا ترقى إلى المستوى المطلوب مقارنةً بِمَّا يعيشه العالم من مخاض يومي بسبب العولمة التي شرّعت نافذتها على المستتر والظاهر.
بريكي، وفي ذات السياق، تابعَ قائلاً: "..وإذا كان حال الترجمة عندنا لا يبرح قاعة الإنعاش يتمنطق الخلل جليًا في المشهد الأدبي ككلّ، على أساس أنّ فِعل الترجمة يُعدُ أحد الركائز الأساسيّة في العملية الأدبيّة ككلّ التي تتموضع بدورها في صيرورة الإطلاع والبحث والاِكتشاف الّذي يجب أن يكون من سِمات المُثقف والأديب ضمن حلقة واسعة في حياة الكاتب الّذي يسمو إلى آفاق تزيد إبداعه تألقًا وعالميّة، خاصةً بِمَّا تُتِيحهُ الوسائط التكنولوجية المُتعدّدة التي جعلت ما يُنشر لتوه يُقرأ لتوه، وأصبحت المعرفة فضاءً مفتوحًا على الكل بدون اِستثناء".
مُشيراً هنا، إلى أنّه وبفضل الموقع الجغرافي للجزائر التي تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب من المفروض أن تكون هناك جسور للتواصل عن طريق الترجمة، ترجمة النحن وترجمة الآخر، إلاّ أنّ هناك ما يشبه الخلل المسرطن في عملية الترجمة كفعل إبداعي تمّ تهميشه على حساب اِعتبارات أخرى قيّضت لها أسباب واهية.
ومن بين هذه الأسباب -حسب رأي ذات المتحدث- خمول المُثقف، وثانيها صعوبة الترجمة كفعل إبداعي نقلي.
وهنا أَوْضَحَ قائلاً: "حتّى وإن كان خمول المُثقف مقدور عليه ومفهوم على الأقل من ناحية المقابل المالي المُناسب الّذي يرفع الضيم على المترجم الساعي عن طريق (فعل آلي) المُتمثل في الترجمة لكسب بعض الدنانير ترفع عنه الخمول والكسل لتقديم (نص مترجم) يصطدم فيه للأسف بفعل الترجمة كمُمارسة مسؤولة وخطيرة تستدعي منه أكثر من تحويل اللّغة إلى لغة أخرى أو السعي لقبض مقابل مالي، فالترجمة هي الدراية الكاملة بمعاني الكلمات، فلا يجب أن تكون حرفية، بل يجب أن تتعدّى الكلمات إلى معانيها، فالمُترجم هو سائق المعاني وفي نفس الوقت لا يمكن أن يتعدى النص الأصلي الّذي كُلِّفَ بترجمته".
وفي ذات المعطى، أضاف: "عِوض الحديث -مثلاً- عن إقامة مؤسسات ومعاهد أظن أنّه يجب رسم إستراتيجية لخلق المترجم بحد ذاته كقيمة. إذ لا يكفي إنشاء مؤسسات ومعاهد خاصة بالترجمة والحال فقير من الإنسان المُحرك الأساسي للفعل المرجو والمبتغى المأمول".
فالمُترجم، -حسب رأيه وكما يَعتقد- أصبح عملة نادرة، فمن الضروري بمكان العناية بالترجمة كسلوك إبداعي مُتكامل ضمن نسقٍ عام يبدأ من المراحل التعليمية الأولى لليافعين والشباب في شكل أبجديات ضمن مادة دراسية من المقرر الدراسي السنوي، فالترجمة الأدبية على سبيل المثال تحتاج إلى أكثر من قاموس وترجمة بل ما تتطلبه أيضًا هو سعة الإطلاع ولغة لا تنضب وخيال جامح وجرأة عالية في فتح مكامن الآخر ودخول أماكن قد لا تطأها أقدامنا لكن إذا كان المخيال خصبًا فتلك النقطة المفصلية في بروز نصوص جيّدة مترجمة من مختلف النصوص الأجنبية.
* ميلود حكيم
معبر ضروري للمساهمة في تاريخ البشريّة
يقول الشاعر والمُترجم ميلود حكيم: "بالنسبة لواقع الترجمة في الجزائر، فيبدو أنّ مقاربته ما زالت ملتبسة بِمَّا يبقى غائبًا عن الساحة الثّقافيّة من تناولات جادة لمسألة الإبداع والكتابة والمُمارسة الفكريّة والثّقافيّة عمومًا، ذلك لأنّنا لم ننجح كنُخب في تكوين تراكم يسمح لنا ببناء مشهد مُؤثر في بلدنا وفي البلدان الأخرى. أمّا عن الترجمة في الجزائر فحركتها بطيئة، وتكاد تكون جهداً اِستثنائيًا من أُناس يؤمنون بفكرة القسمة الضرورية، وتبادل المعرفة والإبداع، وهُم في الغالب مبدعون يستمتعون بنصوص فيحبون إيصالها لغيرهم كي تعمّ هذه المُتعة وتنتشر بعدواها الرائعة، ولذلك تبقى هذه الترجمة مرهونة بأذواق وتصورات ومرجعيات هؤلاء المترجمين".
ثمّ أضاف مُستدركاً: "وما لم تتحوّل الترجمة إلى مشروع تبنيه مؤسسات وتُدافع عنه وتضع إستراتيجيات له، فإنّه لن يُحدث الأثر المرجو، لأنّ تغطية كلّ المجالات والميادين لا يمكن أن يقوم به أفراد، هنا يمكن أن نتساءل مثلاً عن دور المعهد العالي العربي للترجمة الّذي لا نجد له حضوراً فاعلاً في الميدان، ودُور معاهد الترجمة والآداب في جامعاتنا، ودُور مخابر ومراكز البحث، التي لم تُقدم ما يكفي في هذا المجال".
بعدها أردف قائلاً: "مع ذلك يبقى أنّ القليل الّذي تُرجِم هنا في الجزائر بأقلام جزائرية يتطلب مراجعةً ونقداً لأنّ الكثير من الترجمات المُتداولة في السوق تحتاج إلى نقد وتعديل، بل إنّ بعضها يحمل الكثير من التشويهات والإساءات للنصوص الأصلية، مِمَّا يتطلب التفكير في وضع لجان مختصة في الترجمة على مستوى دور النشر، وجعل الترجمات تخضع لعمل مُراجعين جادين كما هو معمول به في دور النشر المحترمة".
أمّا المسألة الأخرى التي تلفت الاِنتباه -حسب رأيه دائماً-، فتتمثل في ضرورة تثمين العمل الكبير الّذي قام به مترجمون جادون مثل الراحل أبو العيد دودو أو أوائل كُتّابنا الذين ترجموا أعمال الأدب الجزائري كالجيلالي خلاص ومرزاق بقطاش وعبد الحميد بورايو أو الذين ما يزالون يبذلون ما يستطيعون بمغامرتهم الفردية في الترجمة كمحمّد بوطغان وفيصل الأحمر والسعيد بوطاجين وأمين الزاوي وعمار مهيبل ومحمّد شوقي الزين وغيرهم، والذين لا يجدون أحيانًا حتّى دور نشر لطبع كتبهم.
صاحب ترجمة "فجر إسماعيل" لمحمّد ديب، تابع في ذات المعطى مُؤكداً: "من هنا يجب التفكير بجدية في توجيه العمل أوّلاً لدفع مؤسسات الدولة كالجامعة ومراكز البحث إلى التكوين الجدي في الترجمة وإلى الاِهتمام بتدريس لُغات العالم المُختلفة، وتحفيز الطلبة والمترجمين إلى الاِنخراط في مشروع كبير واضح المعالم، وتشجيع دُور النشر على الاِهتمام بهذا المجال من خلال صناديق دعم تخص الترجمة، ومن خلال المرصد الوطني للكِتاب".
وفي الختام، خَلُصَ إلى أنّ الترجمة ظاهرة حضارية تُشكل في تاريخ الأُمم الحية مَعْبَراً ضروريًا للمُساهمة في تاريخ البشرية، وبدونه لا يمكن لشعب من الشعوب أن يُضيفَ لنفسه ولغيره شيئًا إذا لم يجعل من القسمة المعرفيّة شِعاره الأوّل.