هل أصبحت مواقع التواصل الاِجتماعي بمثابة الأرض الخصبة لخطاب وسلوك التنمّر، هل حادت عن وظيفتها: وظيفة التواصل والحياة التشاركية من خلال تبادل الأفكار وتوسيع رقعة أنوار وأضواء الفن والفكر والمحبّة والعيش المشترك. ما الّذي جعل موازين الخير والجمال فيها تختلّ إلى درجة تدعو إلى التساؤل، والخوف على مستقبل العلاقات الإنسانية ومساحة الحوار التواصلي في فضاءات الميديا. أيضاً بأي أدوات تحليل نقرأ ما أصبح ماثلاً في صفحات التواصل الاِجتماعي، وبخاصّة الفايسبوك، ونقصد طبعًا، «ظاهرة التنمّر الاِلكتروني» الّتي أصبحت واضحة ومُباشرة ومُقلِقة ومُزعجة جداً. اِنتشرت وبشدة من خلال وسائل ووسائط التواصل الحديثة. ومساحتها آخذة في الاِنتشار والاِتساع أكثر يومًا بعد يوم. فما الّذي أخرج ظاهرة وسلوكيات التنمّر وخِطاباته بين أبناء الشبكة الواحدة. وهل يمكن الجزم أنّ الفايسبوك أو مواقع التواصل بصفة عامة، ما هي إلاّ بيئة خصبة وفضاءً مُتاحًا وحاضنًا لمثل هذه الحالات والخِطابات؟
أعدت الملف: نوّارة لحرش
* عبد القادر رابحي
مواقع التواصل أرض خصبة لإنتاج أكبر قدرٍ مُمكن من التأزيم
يقول الشاعر والناقد الدكتور عبد القادر رابحي، إنّ المثقف الفايسبوكي يعتقد أنّ لديه رسالة تنويرية يجب عليه أن يضطلع بتحقيقها في وسط الجموع المُتعطشة لقراءة أفكاره بِمَا لديه من قدرة على إعادة تشكيل وعيها وفق الأجندة الإيديولوجية التي يسعى إلى التأثير بها على العالم الواقعي والاِنتصار بها على خصومه وتوجيه طاقاتها الكامنة إلى مساقات وغايات مدروسة مسبقًا.
مضيفًا في ذات السياق: «يحرص المُثقف الفايسبوكي على بذل جهدٍ كبير وقدرة إقناع رهيبة لأجل تدوير ضمير(هُم) الدّالة على الآخرين-والدّالة على الفكرة المُناقضة التي يحملها الآخرون. كما يحرص على تحميل هذا الضمير قدرة إبدالية قادرة على عكس الأدوار في لحظات التاريخ الحرجة. فأحيانًا تكون (هم) هي الجلاد وأحيانًا أخرى تكون الضحية، وهي تُنتجُ آلية تغيير الوجهة بتغيّر وجهة الرمز الّذي قد يكون فكرة أو حادثة أو شيئًا ماديًا ملموسًا».
ولذلك، فهذا الضمير -حسب ذات المتحدث- ينتج، في تصوّر المثقف الفيسبوكي، تداخلات وإيهامات ينتقل بموجبها الرأيُ والرأي الآخر من وضعية الإحالة الظاهرة أو المتخفية، إلى معنى نائم في التاريخ المسكوت عنه، بِمَا يُشير إليه من مُسْبقات الذات المتشظية، إلى وضعية مُناقضة في مآلاتها لِمَا يحمله التاريخ المسكوت عنه نفسه من إشكالات عالقة في أدراجه المحكمة الإغلاق أو المتروكة للهباء وللنهب غير المؤسَّس على رؤية واضحة تعطي الفرصة لإمكانية اِختلاف القراءة، ولكنّها لا تبني عليها موقفًا ثقافيًا يُستغَّل إيديولوجيا من أجل ترسيم كراهية دائمة في صُلب الحادثة التاريخية.
إنّها -كما يضيف- قدرة التفكير الاِستعجالي الّذي تُتيحه وسائل التواصل الاِجتماعي على إنتاج بذرة الخِلاف التي تدفع المثقف الفايسبوكي إلى اِختزال مسارات التاريخ المعقدة وتسخير أحداثه المُتشابكة من أجل تحقيق اِنتصارات اِفتراضية تُتيحها اللحظة الفايسبوكية المُفعمة بالاِنبهار بالفكرة النيّئة واِلتهامها السريع من طرف جموع المتابعين وهضمهم المتعجل لها، والمؤدية، في نهاية الأمر، إلى اِستصدار أحكام برقية مُتعجلة تُستند إلى اللايكات والمقاسمات، وتذهبُ إلى حدّ تزييف المقولة أو الحادثة أو الشيء المادي باِقتطاعها من أصولها النّصيّة أو التاريخية أو الزمنية، من خلال ما يُتيحهُ الفايسبوك من آليات تزييف كتعمدّ تغيير تاريخ النشر لأجل غرضٍ وحيد هو الاِنتصار للذات المُتماهية مع اللحظة الفايسبوكية المُترنحة من هيام الفكرة التي تُتيح فرصة غياب المرجع وغياب القراءة المتأنية وغياب المنطق لأجل إنتاج ثقافة النكران والنفي المولِّدين للتنمر، أو للكراهيّة التي تُؤسس للقطيعة المعرفية.
صاحب «أرى شجرا يسير» واصل مستدركاً: «ولعلّه لذلك، فإنّ الحال أنّ كلّ اِختلافٍ في الرأي هو فرصة جديرة بالتجمهر الفايسبوكي وعرض واقع الذات المتشظية الّذي يُشبه الأسطورة في طرحه، وفي طرائق مُناقشته، وفي توظيف حجاجيته واستعمال براهينه. رأينا ذلك مع العديد من الأطروحات العالقة في منعرجات التاريخ الوطني كما تعلق الثآليل في وجه تمثال التاريخ. ورأينا كيف تنتقل الحمولة المعرفية لاِسم اِبن باديس ولنوفمبر ولعبان رمضان من النقيض إلى النقيض خلال سنتين أو ثلاث سنوات، ورأينا كيف تنتقل الحمولة الرمزية لهؤلاء من (هم) الجلاد إلى (هم) الضحية بطريقة مُتعاكسة لأجل إنتاج أكبر قدرٍ مُمكن من التأزيم الّذي يُولِّد التنمّر والكراهيّة، هذا التأزيم الّذي يجد أرضا خصبة في مواقع التواصل الاِجتماعي».
ومن جهةٍ أخرى، يعتقد المتحدث، أنّ المُثقف الفايسبوكي الجزائري يخاف الكتابة والحوار والمحاججة ويركن إلى الشفوية والنميمة والتنابز وبعض التنمّر على الرغم من اِدعائه الشجاعة في المواقف والجهر بحقائقها. وهو يجد في أداة العصر التي هي وسائل التواصل الاِجتماعي كلّ هذه العناصر تقنية لتمرير شحناته الفكرية المفعمة بالعاطفية والغضب، من دون اِلتزامٍ واضح بِمَا يمكن أن يطرحه من مواقف أو بِمَا يمكن أن يُصرح به من شهادات، وما يُحْدِثه كلّ ذلك من آثار سلبية لدى من يدعي أنّهم خصومه التاريخيين أو الواقعيين. ولعله لذلك، فإنّ الجزائري يكاد يكون الوحيد الّذي يضع سيجارة في فم تمثال اِبن باديس في قسنطينة، وينزع نهد تمثال المرأة العارية في عين الفوارة من دون أي اِنتباه لِمَا يمكن أن يحمله هذان الفعلان من تناقض في مقاربة الفكرة التي يريد تحقيقها. إنّها مسألة (وضع ونزع) بِمَا تحمل الكلمتان من تمركز إبتيمولوجي. وهي حالة تُسيطر على المُثقف أوّلاً، ثمّ تجد تطبيقاتها عند من يوصَفُون بالعوام الفايسبوكيين، بِمَا يحمل هذا التوصيف من تخطيء في الرؤية ومن سلبية في المسبقات.
وفي ذات المعطى يواصل قائلاً: «إنّ العالم الاِفتراضي يستدعي الواقع ويُعيد تشكيله وفق رغبة جامحة مدعومة بِمَا يُوفره من حرية ومن سرعة اِنتشار ومن قُدرة على التواصل وكذلك من إمكانات النقاش الحاد والاِختلاف المُروع الّذي يُعري في نهاية الأمر الذات المُتشظية المنقسمة على ما يُتيحهُ العالم الاِفتراضي من إعادة تشكيل للوعي بتقويض وعي سابق، ومن إدراكٍ لِمَا يُمكن أن يحمله الاِفتراض من مُمكنات تزييف للوعي ومن إمكانيات تحويل الأكاذيب إلى حقائق وتحويل الحقائق إلى أكاذيب».
وهنا تكاد الموضوعات المُهيمنة في العالم الاِفتراضي -حسب رأيه- تُؤدي إلى إنتاج وضعية (ما فوق اِختلافية) تُؤسس للقطيعة الفايسبوكية أوّلاً، ثمّ تنتقل القطيعة الفايسبوكية إلى قطيعة واقعية مدعومة بالأدلة والحُجج والبراهين التي تعتمد الحفر غير المنهجي في الماضي والقذف والتزييف والتكتل في مجموعات تربط بينها أواصر القناعة الاِفتراضية والمواقف الفايسبوكية.
وخلص في الأخير إلى أنّ مواضيع مثل اللّغة والدين والتاريخ والهوية والعلمانية تكاد تكون موضوعًا واحداً يُؤدي إلى المسارات المُتمركزة نفسها لأنّها تنطلق من جذرٍ واحد مرتبط بِمَا يُوحد الذات الجمعية أو بِمَا يُفرقها. وهذه الوضعية الـ(ما فوق اِختلافية) هي التي تتحوّل بالتدريج إلى رعونة معرفية خارجة عن قواعد الحوار المبني على الاِختلاف المُتبصر، وتتحوّل بعد ذلك إلى قطيعة معرفية تُوَلِّد الحقد والضغينة والكراهيّة والتنمّر.
* محمّد بن ساعو
خصائص مواقع التواصل الاِجتماعي تُوفر بيئة خصبة لإشاعة التنمّر
يرى الباحث والدكتور محمّد بن ساعو، أنّه ورغم فعّاليّة مواقع التواصل الاِجتماعي وأهميتها، إلاّ أنّها أدّت إلى بروز ظواهر خطيرة، من بينها اِنتشار خطاب التنمّر والترويج له، حيثُ أصبح الفايسبوك خاصة يقوم بدور عكسي. وعليه وجب بدايةً الاِعتراف بأنّ هذا الخطاب الّذي نلمسه في الفايسبوك هو اِنعكاس لشعور يسكن البعض، لكن قد لا يجرؤون على التعبير عنه في واقعهم وفي محيطهم الحقيقي، فيلجؤون إلى بثه في فضاء اِفتراضي، يكفل لهم التنكر خلف أسماء مٌستعارة لمحاولة إحداث الفرقة والخصام ونشر الأكاذيب والترويج للعنصرية ورفض الآخر من منطلقات دينية أو عرقية أو سياسية أو اِجتماعية.
بن ساعو ذهب في هذا السياق إلى اعتبار أنّ تفشي هذا النوع من الخطاب ساهمت فيه الحسابات المجهولة والأسماء المستعارة، إذ يقول بصريح العبارة «خاصية الأسماء المستعارة والحسابات المجهولة هي إحدى الأسباب التي أسهمت في رواج التنمّر وخطاب الكراهيّة، لأنّ المستخدمين الذين يتخفّون وراء شاشات الكمبيوتر والهواتف النقالة بصور وأسماء غير حقيقية، يشعرون بالتحرّر من سلطة الرقابة الاِجتماعية، فيحاولون التعبير عن الترسبات التي خلّفتها النزعة العدائية ضدّ الآخر، وبالتالي يطلقون العنان للمس بكرامة الآخرين وإهانتهم وازدراءهم؛ وفي الوقت نفسه يحاول هؤلاء الهروب من أي متابعة قانونية محتملة، بِمَّا أنّ القانون يُعاقب على الجرائم الاِلكترونية تمامًا مثلما يُعاقب على تلك المرتكبة في الواقع».
مضيفاً أنّ الخصائص التي تُـتيحها مواقع التواصل الاِجتماعي تُوفر بيئة خصبة لإشاعة خطاب التنمّر، رغم أنّ المدوّن يُفترض أنّه قد وافق على شروط الاِستخدام، والتي من بينها تجنب إشاعة الكراهيّة والتنمّر.
بن ساعو يستدرك بنوع من التوضيح وهو يقول «من خلال متابعة بسيطة لما يُنشر في الفضاء الأزرق، نُدرك أنّ خطاب التنمّر والكراهيّة يستثمر في المختلف فيه، لينقله من دائرة الاِختلاف المتسمة بالتنوع والتعدّد والتي تستدعي النقاش والتفتح، إلى مستنقع الخلاف الّذي يوظف الشتم والسب والأحكام العنصرية وينتهي إلى الاِصطدام، وتزداد خطورة المنشورات التي تحث على التنمّر والكراهيّة عندما يلجأ أصحابها سعيًا منهم لتمرير توجهاتهم ونفث سمومهم إلى التلاعب بالمحتويات، حيثُ يتفننون عن طريق بعض البرامج التي تتدخل في الصوت والصورة لترويج أخبار كاذبة عن بعض الأطراف والهيئات بغية تأليب الرأي العام عليها ونشر الكراهيّة تجاهها».
المتحدث ذاته، أشار إلى «أنّ ما يزيد من خطورة الوضع، هو أنّ الأمر ليس عفويًا ومرتبطًا بأشخاص أو بحالات معزولة، إنّما أصبح مُنظمًا من أطراف معينة، ويمكن أن نُطلق عليها (مرتزقة مواقع التواصل الاِجتماعي)، حيثُ تُوظِف خبراء في تكنولوجيات الإعلام والاِتصال مِمَن يملكون خبرة كبيرة في تسيير المواقع والتغلغل في الشبكات، ومنه يمكن القول بأنّ صناعة خطاب التنمّر والكراهيّة وترويجه أصبح بمثابة اِستثمار اِقتصادي وسياسي بالنسبة للبعض». وما يؤكد ذلك -حسب رأيه دائمًا- هو أنّ حِدّة هذا الخطاب تأخذ في التصاعد كلما كانت هناك حركية على المستويات السياسيّة والاِجتماعيّة.
واختتم قائلاً: في ظل التعاطي السلبي مع وسائط التواصل الاِجتماعي واِستغلالها في نشر التنمّر بأشكال مختلفة وخطاب الكراهيّة، ينبغي العودة إلى سؤال الإنسان وكيفية التصالح مع الذات، وسُبل بناء مواطن بقيم إنسانية ووطنية، عن طريق إصلاح المدرسة والتطبيق الصارم للقانون.
* خديجة زتيلي
وسائل التواصل الاِجتماعي ساهمتْ في اِنتشار التنمّر
ترى الباحثة الأكاديمية وأستاذة الفلسفة بجامعة الجزائر الدكتورة خديجة زتيلي، أنّه لا يُمكن الاطْمئنان على حياتنا متى اِعْتنق النّاس سلوك التنمّر، أو خطاب الكراهيّة الّذي لا تتوقّف أضراره في المجتمع بسبب مضامينه السلبيّة، وتغدو الأمور بالغة الصعوبة عندما يتحوّل ذلك الخِطاب إلى نسقٍ يُوطّن ذاته في الثقافة والمجتمع ويسعى جاهداً إلى مُمارسة إكراهاتهِ.
مضيفةً في ذات السياق «نحنُ إزاء مشكلٍ عويص يتفاقم يومًا بعد يوم في حياتنا المُعاصرة، ويجد له منابر مفتوحة تُطيل من عمره وتمدّه بأسباب اِنتشاره، من دون أن يعترض طريقه أيّ رقيب أو حسيب حتّى عهدٍ قريب. وأشهر تلك المنابر التي ساهمتْ في اِتّساع رقعة اِنتشار خطاب الكراهيّة والتنمّر الاِلكتروني راهناً وسائل التواصل الاِجتماعي التي شغلتْ النّاس في الجهات الأربعة للعالم. فقد عزّزت هذه الوسائط الجديدة من هذا الخطاب كمنصّة فيسبوك أو إنستغرام أو تويتر أو جوجل وغيرها. مِمَا بات يستدعي النظر في الأمر بجديّة وصرامة بالغتين للبحث عن حلول لتطويقه وإراحة النّاس من كوارثه ومآسيه».
كما ترى من جهةٍ أخرى، أنّه من الصعوبة بمكان أن نجد تعريفًا جامعًا مانعًا لعبارة (خطاب الكراهيّة/خطاب التنمّر)، ولكن من السهولة رصد تمظهراته. مُشيرة إلى أنّه «وفي كلّ الأحوال يمكن توصيفه بالخطاب الأحادي، العنيف، المتطرّف، العنصري، التحريضي، المؤدلج، ما يُرشّحه في نهاية المطاف لكي يكون غير مجدٍ ولا إنسانيٍّ».
ومن هذا المنطلق تذهب زتيلي إلى القول «لعلّ الميزة الأساسيّة لخطاب الكراهيّة/وخطاب التنمّر توسّله بالعاطفة لا العقل لبسط نفوذه، فضلاً عن جهله أو تجاهله لمعطيات التاريخ. فلقد دأب المُروّجون لهذا الخطاب، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو مؤسسات أو رجال سياسة، على النظر للآخر نظرة دونيّة مستعليّة تستلهم مشروعيّتها من ثقافة عنصريّة تُقسّم النّاس إلى ثنائيات تُكرّس مبدأ الأعلى والأدنى، مستعينين في ذلك بشحن وسائل التواصل الاِجتماعي ضدّ عرقيات أو أقليات أو إثنيات أو أشخاص وضدّ ثقافات أخرى والتحريض على اِحتقارها أو تدنيسها».
وهكذا يسْتشري هذا الخطاب -حسب الدكتورة زتيلي دائمًا- في المجتمعات فيُعزّز من ظاهرة العنف الطائفي والتقاتل بين العرقيات والتطرّف الديني وحرق المعابد والكنائس والمساجد والاِعتداء على الأفراد والنساء وتوسيع رقعة الحروب الأهليّة وإطالة عمرها والسير بالمجتمعات نحو مصيرٍ مجهول أو مأساوي، تحت مسوّغات واهيّة لأصحابها لا تمت إلى المنطق والعقل بصلة. لكن في واقع الأمر لا يمكن حصر خطاب الكراهيّة والتنمّر في جغرافيّة بعينها أو لدى أشخاص معيّنين لأنّه اِنتشر في العالم بأسره بسرعةٍ فائقة كما تنتشر النار في الهشيم، بفضل الخاصيّة الرقميّة أو الاِفتراضية للفايسبوك العابرة للقارات أو لغيره من المنصات الرقميّة الأخرى.
ولهذا ترى المتحدثة، أنّه ربّما يلزمنا متخصّصين اِجتماعيين ونفسانيين لتحليل هذه الظاهرة بشكلٍ مستفيض والإحاطة بمسائلها بعُمق. وفضلاً عمّا قِيل فإنّه –كما تضيف- من الأهميّة بمكان في هذا السياق لفت الاِنتباه إلى ضرورة إصلاح التعليم وتجديد الخطاب الفقهي للحدّ من التنمّر وخطاب الكراهيّة والتطرّف، وبدَل ذلك نشر القيم الإنسانية النبيلة من أجل مشروع اِجتماعي يُؤسّس لإنسان سويّ ومتوازن ولمواطن لديه حقوق وعليه واجبات.
وببعض التفاؤل اِختتمت قائلة: «مثل ما ينتشر خطاب الكراهيّة أو سلوك التنمّر في مختلف المنصّات التواصلية، فإنّها تنضح أيضا بخطاب المحبّة والعدالة والتسامح والعِلم والمعرفة، وتبقى هذه الوسائل طيّعة في يد الإنسان يُوجّهها كيفما شاء وللأهداف التي يبتغيها. فمتى تضافرت جهود الدول مع جهود الأفراد والشركات الرقميّة بسن قوانين لتجريم التنمّر وخطاب الكراهيّة وإصدار عقوبات صارمة وردعيّة ضدّ المُخالفين، أمكن سدّ الكثير من الثغرات».
* ميلود حكيم
مظاهر انفصام الشخصية في العالم الاِفتراضي
يقول الشاعر والمُترجم ميلود حكيم: «للبحث عن جذور التنمّر وخطاب الكراهيّة لا بدّ من حفريات تتوّغل في تشكّل الذات الجماعيّة وبناءاتها الرمزيّة والمخياليّة، وأيضًا الجراحات التي تعرّضت لها وهي تُواجه أعماقها النرجسية، والتباسات الغيرية التي تأخذ تمظهرات مختلفة». مُضيفًا بنوع من التشريح «عندما نفهم الجذور التي شكلت شخصية وتركيبة الفرد سنفهم أنّ التمظهرات الجديدة التي تأخذ مظاهر عنف جديد في وسائل التواصل الجديدة، وتُخْرِج الوحوش التي تنام في الأعماق وتجد حريتها في الفضاء الأزرق لأنّه يُقدم لهذا الفرد مساحة يتعرى فيها من كلّ الضوابط والقواعد ويرى حقيقته في مرآة الفضاء الاِفتراضي، يستطيع أن يقتل ويُهين ويُنكّل بالآخرين دون أن تتحرك له شعرة ولا أن تُراق قطرة دم، وتكشف هذه الوضعية عن اِستعمالٍ غبي لوسائل الحداثة وعدم اِستيعابها واِستهلاكها بطريقة بدائيّة».
في ذات السياق يعتقد ذات المتحدث أنّ خطر هذا العُنف الّذي يتخذ من وسائل التواصل الجديدة ساحة لمعركة خائبة هو كونه ينتشر كالنّار في الهشيم وتأثيره كبير على شرائح واسعة تقتات من الإشاعة والتدليس والمخادعة وتُصدق كلّ ما يُقال دون وعي أو حس نقدي.
مواصلاً بنوع من التنبيه «لا يجب الوقوف عند تمظهرات أمراض التنمّر والكراهيّة، كما تبرز على قروح الجسد الاِجتماعي.. البحث عن جذورها، واشتغالها الصامت هو الأهم. ما تنشره وسائل الاِتصال الجديدة يُؤكّد اِستفحالاً ما للدّاء، وبلوغه درجة التعفّن».
صاحب «مدارج العتمة» أضاف قائلاً: «اِنتقال خِطاب الكراهيّة والتنمّر إلى الفضاء الأزرق يُتيحُ لنا أن نُقاربه في الأبعاد السيميولوجية المتجدّدة، باِعتباره سِجلًّا لتحوّلات الدّوال مع بقاء المدلولات مغلقةً في بنيتها التقليدية. إذ عندما تتحوّل شاشات الهواتف والكومبيوترات إلى ساحة للصراع، ولأحقاد دفينة، ولمعجم يعود بِنَا إلى داحس والغبراء، فهذا يعكس الخلل الكبير في تعاملنا مع وسائل الحداثة، وانفصالنا عن فهم واستيعاب التقنية التي نستهلكها فقط، أو نستخدمها دون تحوّل في مقاربتنا، ورؤيتنا للعوالم التي تفتحها.. ويترسخ هكذا ما نعيشه من أوهام الحداثة، وأخطرها وهم المعاصرة، فلا يكفي أن تكون أجسادنا في القرن الواحد والعشرين في حين نحيا ونسلك بذهنيات الماضي».
كما يرى من جهةٍ أخرى أنّ الجزائري، يبدو مُصابًا باِنفصام الشخصية في العالم الاِفتراضي، وما يُتيحهُ له هذا الفضاء الجديد، الّذي يشبه الحلم أو الفانطاسم أو التهويم، هو أن يبقى في السلبية المطلقة، وفي الإحساس الآمن بأنّه محميٌّ بالتخفّي، والاِستتار، لأنّه ليس حاضراً جسديًّا، إذ جسده متروكٌ في الحيّز المُغلق المسيّج بالتوافقات والتطابقات الدينية والاِجتماعية، والتعاليم المُؤطِّرة لحياته الخارجية، التي لا يملك الأمر عليها، بل هي ملكٌ للسلطة بكلّ أنواعها.
فهو -كما يعتقد- ليس موجوداً في العالم الاِفتراضي إلاّ كوهمٍ وتهويم، وهذه الحميمية التي ليست جوّانيّةً، تجعله يُخْرِج المكبوت القريب من السطح بردود فعل سريعة ومتعجلة، لينتقم من الحُبْسة واللّعثمة والعجز عن الكلام والتعبير في الفضاء العمومي أو السلطوي... لهذا يذهب في الإفراط، ويُفْسِح المجال للبذيء والسليط والمدنّس فيه.. يُطلقُ العنان لكلّ ما يخطر على باله، ويتصرّف دون اِعتبار لِمَا قد يترتّب عن تصرفاته لأنّه يتصوَّر أنّه لن يضرّ أحداً، ولن يتسبب في أَذًى، بِمَا أنّه في العالم الاِفتراضي.
هذه الحالة الجديدة -حسب ميلود حكيم دائماً- عمّقت اِنفصال الجزائري عن الواقع، وعن الوجود، إذ لا وجود له خارج الشاشة، ولا معنى لحياته إلاّ في ما يُتيحه له هذا الأفق كي تتحقّق فانطاسماته، وأضغاث أحلامه.
وخلص في الأخير إلى أنّنا لا نُعالج التنمّر وخِطاب الكراهيّة بالقوانين والتجريم.. ولا بالتضييق .. المطلوب هو أن ننتصر لإيتيقا جديدة تستلهم مواثيق حقوق الإنسان في تجلياتها الإنسانية، وتضعنا في ما تفتحه العوالم الاِفتراضية من مسلكيات وعادات جديدة، ومفاهيم مختلفة عن الإنسان وعن العلاقات.. وننتهي من طغيان القبيلة وأحقادها على سلوكاتنا ومخيالنا.