عبد المجيد مرداسي يعود إلى قسنطينة
في جو من العرفان بما قدمه مؤرخون وكتّاب جزائريون ممن قضوا حياتهم، منقبين عن الحقائق وواضعين بين أيدي القارئ عصارة ما توصلوا إليه لينيروا فكره في شتى المجالات، احتضنت المكتبة العمومية مصطفى نطور بقسنطينة، أول أمس، فعاليات إطلاق منتدى الكِتاب في طبعته الأولى، تزامنا وانطلاق المنتدى بالجزائر العاصمة وكامل التراب الوطني، الذي جاء تحت شعار «فضاء مفتوح على الكتاب واعتراف بصناعه»، والذي يدخل في إطار سياسة وزارة الثقافة والفنون لترقية المطالعة والمقروئية والتعريف بالمؤلفين الجزائريين الذين أبدعت أقلامهم في تشريح عديد الظواهر الاجتماعية، وبرز حرفهم مدافعا ومعرفا بالتراث والتاريخ الجزائري.
بدورها احتفت قسنطينة في أولى الجلسات الفكرية والأدبية الخاصة بهذا النشاط، بإصدار الترجمة العربية لكتاب «خمسون مفتاحا للخمسينية» بمناسبة ستينية الاستقلال للباحث في علم الاجتماع والمؤرخ الراحل عبد المجيد مرداسي، الذي سبقه صدور النسخة الأصلية منه باللغة الفرنسية سنة 2012 عن دار الفضاء الحر.
خمسون مفتاحا لأبواب الثورة التحريرية
وفي جلسة امتزج فيها التقدير بالمشاعر، نشطتها الوزيرة السابقة والناشطة الثقافية، مريم مرداسي، ومترجمة الكتاب إلى اللغة العربية خالصة غومازي، ومسير دار نشر الحبر إسماعيل محند، أعادت المؤرخ عبد المجيد مرداسي مرة أخرى إلى منصة مناقشة المسائل المتعلقة بالذاكرة الوطنية، والتاريخ الجزائري في مؤَلَّفِه الذي قدّمه في خاتمته على أنه ورغم عنوانه والمناسبة التي اقترن بها إلا أنه ليس مجرد كتاب ظرفي، بل هو إثارة للتاريخ ليس لدى الشباب فحسب بل لجميع الفئات على جميع الأصعدة وفقا لحجم الكفاح من أجل الاستقلال الوطني. وبحسب ابنة المؤرخ مريم مرداسي، فإن الباحث اختار أن يخلد خمسينية الاستقلال بمشروع يجمع حول تاريخ الجزائر أبناءها من الشباب، والطلبة خصوصا، وكل فئات المجتمع لهذا فقد اعتمد الأسلوب البيداغوجي، ليضع بين أيديهم مرجعا تاريخيا سلسا ومفهوما لخص فيه أهم المحطات المتعلقة بالثورة التحريرية، ولأنه كان شغوفا بالتوثيق التاريخي فقد أراد من القارئ أن لا يتوقف عند آخر سطر بل ذيَّل كل مقال بمصادر تاريخية أخرى وملاحق أهمها بيان أول نوفمبر، حتى يتعمق أكثر في بعض المسائل أو يطَّلع على ما اجتهد فيه المؤرخون في قضايا تاريخية أخرى.
وفي مستهل عرضها لمحتوى الكتاب، قالت مترجمته خالصة غومازي، بأن المؤرخ عبد المجيد مرداسي أفرغ حبره للإجابة عن خمسين سؤالا حول مواضيع عديدة مرتبة ترتيبا زمنيا، جمعها في مقالات صحفية، كشفت عن أدق التفاصيل المتعلقة بالثورة التحريرية ومعركة الجزائر، إذ بدأ الحديث عن التيار الاستقلالي معرجا على حزب شمال إفريقيا، وقدم شخصية مصالي الحاج، ثم تناول مجموعة 22 التاريخية، وسلط الضوء على جبهة التحرير الوطنية والمجلس الوطني للثورة، كما فتح للقارئ نوافذ على الثورة وما رافقها من مؤتمرات ولقاءات، وهجومات، ومذكرا إياه بالبطولات التي صنعها الطلبة ودعمهم للاستقلال والثورة الذي ترجموه في إضراب 19 ماي، واستذكر مجاهدين سقت دماؤهم الجزائر لتعيش الأجيال تحت راية الحرية، ونوافذ أخرى سلط الضوء عليها، شرحها وفصَّل فيها.
ارموا بالتاريخ إلى الشباب
وقد انشغل الباحث طوال حياته بالأعمال التي تخص الذاكرة الوطنية، والتراث الثقافي الجزائري، وتقول الناشطة الثقافية مريم مرداسي بأن والدها لم يكتف فقط بالتأريخ والتنظير بل كان صحفيا أيضا، وقد مست أعماله ومقالاته مجالات أخرى مثل الرياضة الجزائرية، والمسرح، وكتابة السيناريو، ولم يتوقف الشغف والجهد الذي بذله ابن قسنطينة من أجل وطنه، طوال حياته فقد حمل أيضا رؤية عن الجزائر الجديدة، التي يتمسك أجيالها وشبابها بالتاريخ الوطني والمبادئ التي تركها لهم المجاهدين والشهداء من خلال غرس حب التعرف على الماضي بهم، وذكرت بأنه لطالما دعاهم لمواصلة العمل وعدم التوقف عن البحث في تاريخ الجزائر. وأفادت ابنته، بأنه كان ينتهج هذا الأسلوب مع طلبته أيضا، فقد كان يشحذ همتهم للتثقف والتعمق في مختلف المجالات العلمية، واستثمر في الأطفال فشجع حضورهم للفعاليات الفكرية والثقافية لغرس بذرة البحث والاعتزاز بالهوية الوطنية، وأضافت بأنه كان محبا للغة العربية فقرر ترجمة كل كتبه إليها، كما كشفت بأن هناك أعمال أخرى له سوف تُنشر قريبا تُضاف إلى مجموعة المؤلفات التي عُرضت في بهو المكتبة على هامش المنتدى. من جهته اعتبر مسير دار نشر حبر، اسماعيل محند، أن الاهتمام بالكتب التاريخية من طرف المكتبيين ودور النشر هو واجب وطني من أجل الحفاظ على الذاكرة الوطنية وحمايتها، فضلا عن استخدام الكتاب كجسر للتواصل بين الأجيال والتعلم من تجارب من سبقوهم عبر مختلف الأزمنة.
ترجمة كتب التاريخ للحفاظ على الذاكرة
وترى مترجمة كتاب "خمسون مفتاحا للخمسينية" خالصة غومازي، بأن ترجمة المؤلفات التاريخية تكتسب أهميتها من نقص المراجع باللغة العربية، خصوصا عند الحديث عن الكتب التي تناولت الثورة التحريرية والتي تعد أغلب المراجع التي يستعين بها القراء باللغة الفرنسية، فبحسبها إذا لم يبادر المترجمون إلى جمعها وحمايتها فلا يمكن لها أن تصل إلى الأجيال، وأضافت بأنها تشجع الترجمة العكسية أيضا، من اللغة العربية إلى لغات أخرى لتصدير الموروث التاريخي إلى الخارج. كما وصفت غومازي هذا المجال بأنه وسيلة جد مهمة لفرض الذات وإيصال التجارب إلى الآخر دون مغالطات، معتبرة أنه من حقوق الشعوب أن تتعرف على تاريخها دون تدخل خارجي. لهذا فقد اعتمدت في ترجمتها لكتاب خمسون مفتاحا للخمسينية على تقنية التحقيق، وذكرت أنها كانت تقرأ عن كل حدث أو محطة من المحطات التي ذكرها المؤرخ عبد المجيد مرداسي من عدة مصادر قبل أن تشرع في نقلها إلى اللغة العربية.
وبحسبها فإن المترجم الذي يتعرض للنصوص التاريخية يجب أن يكون ذا مبادئ، يتمتع بالأمانة في النقل والدقة والحياد، لأنه سيصادف أحداثا يعبر عنها المؤلف الأصلي من منظوره الخاص، فأحيانا تخون المصطلحات المترجم وتوقعه في فخ المغالطات والذي يحميه منها هو التحليل الجيد للنصوص خصوصا التاريخية التي تتميز بحساسيتها.
إيناس كبير