غـــزة .. المقاومـــة و الأثـر
طوفان غزة/ أو طوفان الأقصى، جعل المثقف الجزائري والعربي عموماً، أكثـر وعيًا باللحظة الفلسطينية الراهنة، وهي لحظة، تفتح أكثـر من نافذة وأكثـر من سؤال، وربّما أيضا أكثـر من موقف، إذ تتعدّد وتختلف المواقف والآراء إزاء القضايا المصيرية والكونية، غالباً، لكن هذه المرّة وعلى غير العادة، حدث ما يشبه الموقف الواحد، والرأي الواحد، تجاه حرب غزة. فكانت قراءات ومواقف المثقف العربي والجزائري، في هذه السياقات الراهنة، متشابهة ومُتحدة وفي ذات المغزى تقريبًا.
أعدت الملف: نــوّارة لحـرش
كما أنّ هذا الطوفان الاِستثنائي الوجودي والمصيري جاء ليُؤرخَ لواقعٍ جَديدٍ، ولفكرٍ جديد، ولأملٍ جديد رغم سياقاته وسياجاته التراجيدية والمأساوية. وهذا ما لاحظناه/ونلاحظه في مقالات ومنشورات الكُتّاب والمثقفين في الجزائر والوطن العربي، وكذا في تدخلاتهم في برامج وحصص سياسية وثقافية تتناول الحرب على غزة، عبر مختلف الفضائيات الوطنية والعربيّة، كلها تجلت في كثير من مواقفهم وفي أعمالهم الفكرية والفنية اِنتصاراً للقضية ودفاعًا عن موقف مبدئي إنساني وجودي. وهذا ما جاءت به أيضاً مساهمات ومقاربات الكُتّاب و الأكاديميين (في هذا الملف)، الذين تناولوا المسألة كلٌ حسب رأيه وقناعاته ووجهة نظره، لكن تلتقي المساهمات والآراء تقريبًا في نفس المعطى والسياق.
* عبد السلام فيلالي
طوفان الأقصى سابقة في تاريخ المواجهة
يقول الأستاذ والباحث الأكاديمي الدكتور عبد السلام فيلالي: «السؤال الّذي يتبادر إلى الذهن حول ما يجري الآن، كنتيجة لعملية طوفان الأقصى، يتعلق بمآلات هذه الحرب، حول مداها ومدتها. والإجابة تكون، في نظري، في موضعته ضمن سياق الصراع العربي الإسرائيلي والدفاع الفلسطيني المشروع ضد الاِحتلال. وبالتالي قراءة ما يحدث وفق تواصل هذا الصراع منذ نكبة 1948 والظُلم التّاريخي الّذي لَحَقَ بأصحاب الأرض الذين طُرِدوا من بيوتهم وهُجِّروا إلى منافٍ بعيدة، ثمّ نُقِضَ حقهم في العودة وِفْقَ العدالة ومُقررات الأُمم المُتحدة».
إذن، -كما يُضيف المُتحدث- «هو ظلمٌ مُستمر، يتمادى المُحتل في تعميق جراحه عبر سياسة الاِستيطان والتنصل من الاِتفاقيات التي أبرمها في إطار عملية السلام (منذ مؤتمر مدريد سنة 1991) الّذي تبدى أنّها لم تكن سِوى لعب على الزمن من أجل اِستكمال مشروع «أرضك يا إسرائيل من النهر إلى البحر»، ثمّ مسار التطبيع الّذي هو في حقيقة الحال اِستسلام وتنازل للمحتل ومنحه دوراً في الشرق الأوسط كلاعب أساسي ومحدّد فاعل».
وأردف مُستدركاً: «لكن أصحاب الأرض كانوا ولا يزالون يقظين أمام هذه اللعبة/المؤامرة، لقد قرروا دائمًا أنّ الحق يظل حقًا ولن يتقادم، وآلوا على أنفسهم الدفاع عليه وإفشال كلّ أنواع الغدر والتضييق، سواء التي تخص الإلهاء المادي والحصار المضروب. وقد تحقّق لهم هذا، بهذه العملية التي تعد سابقة في تاريخ المواجهة، بادرَ بها عقل فلسطيني ونفذتها أيادٍ فلسطينية، وما نراه يوميًا من تدمير وإبادة في غزة هو نتاج حالة الصدمة وعدم تصديق ما جرى تبعًا للتباين الصارخ في ميزان القوّة وما يُقال عن جيش الكيان (الجيش الّذي لا يُقهر) وشهرة مخابراته الخارجية والداخلية، حيثُ لم يتسنَ لهما توقع هذه العملية ولم يتصديا لها».
ولأنّ الكيان -يُواصل ذات المُتحدث- «يحظى بالرعاية والدعم الغربي المُطلق والتغطية، فقد راح يصب جام وحشيته على السكان المدنيين العُزل (الطائرات أمريكية والقنابل أيضًا)، فاقترفَ مجازر يندى لها جبين الإنسانية غير الملوثة بنفاق الحكومات والإعلام الغربي، فلا يمكن لعاقل أن يُوافق أو يقف على الحياد أمام مجزرة المستشفى المعمداني في غزة. والأمر يعكس أيضاً حالة خوف من تغير معادلات الصراع، فما كان يحدث في الماضي من عربدة: ضربات جوية إسرائيلية، قصف مدفعي، اِجتياح، اِستيطان، اِغتيالات دون توقع رد فِعل صارم وبمباركة غربية، صارَ يواجه مقاومة صلبة ومتمرسة ضرباتها موجعة، بالتالي يتوجس أن يرتكب حماقاته».وفي ذات المعطى، أضاف: «أسبوعان من القصف الجوي المُفتوح على غزة بمساعدة ومؤازرة غربية، يظنون أنّها ستؤدي إلى الاِستسلام. لم يحدث هذا لحد الآن، ونتوقع أنّ رؤية مشهد شبيه بِمَّا حدث في بيروت سنة 1982 لن يحدث».
وخَلُصَ إلى أنّ الحل يبدأ بالاِعتراف بأنّ عملية طوفان الأقصى هي رد فِعل على جرائم الاِحتلال، وأنّه يتعين على من يمنحون الشرعية له أن يُعيدوا حساباتهم وأن يُقروا للشعب الفلسطيني حقه في أن يعيش بكرامة وسلام عبر إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
* فؤاد منصوري
غزة كشفت للمجتمع المدني الغربي أكاذيب وأباطيل الكيان الغاصب
يقول، أستاذ العلوم السياسية، بجامعة عنابة، الدكتور فؤاد منصوري: «سيُسَجل السابع من أكتوبر في مسلسل المقاومة المباركة التي تصرخ في وجه الظُلم والطغيان لمن اِغتصبَ الأرض وألفَ الأكاذيب والأساطير حول حُلم هو سراب في النهاية. لقد أثبتَ التاريخ أنّ مآل كلّ مقاومة النصرة والفلاح لأنّ صوت الحق لا يُعلى عليه».
مُضيفاً، أنّ التوغل داخل الأراضي المُحتلة وإنهاء مقولة الجيش الّذي لا ينام ولا يُقهر في ساعات، مثل كلّ المقولات المغلوطة التي زيفت الوقائع وقفزت على التاريخ والجغرافيا.
وواصل في ذات السياق: «في الحرب شرف أيضاً لا يدركه إلاّ الشرفاء وبِمّا أنّ الكيان الغاصب لا يدرك معنى الشرف فكانت ردة فعله اِنتقامية وإجرامية اِستهدفت المستشفيات والمدنيين الأبرياء والأطفال. الحرب في أعين الصهاينة تختزل في القذارة واِنعدام الشرف. فيسعى الكيان الغاشم إلى تهجير سُكان غزة من بيوتهم إلى جنوب غزة في ظل اِستماتة سكانها، السكان الأصليون للأرض منذ أجدادهم اليبوسيون الكنعانيون الذين بنوا مدينة القدس وأطلقوا عليها اِسم شاليم أي إله السلام».
وفي ظل هذا الصراع الحضاري العقائدي في السياقات الحالية يتجلى -حسب الدكتور منصوري، «سيناريو أوّل هو الاِنقلاب على نتنياهو الّذي يريد اِنتصاراً يُعيدهُ للسباق الاِنتخابي وتحميله سبب الفجوة الأمنية والخروج بهذا الشكل من هذه المواجهة بأقل الخسائر، والسيناريو الثاني وهو اِجتياح غزة أي اِختيار المواجهة وهذا سيؤدي لأقلمة الحرب ودخول أطراف أخرى متوقعة وغير متوقعة على خط المواجهة مِمّا يجعلها حربًا مُعقدة وطويلة الأمد ستكسب المقاومة من خلالها أوراقًا رابحة تُحَسِن من موقعها التفاوضي في ظل التضامن الشعبي العربي والإسلامي المُتزايد وأيضًا التضامن الّذي أبدته بعض الدول التي تُؤمن فعلاً بحرية الشعوب وبالعدالة الحقيقية غير الاِنتقائية وكذلك بعض فئات المجتمع المدني لدول غير عربية وغير إسلامية التي اِكتشفت أكاذيب وأباطيل الكيان الغاصب. وهذا في ظل تخاذل بل وخيانة عدد من الدول العربية التي اِختارت أن تكون ضدّ مصالح شعوبها وأمتها متجاهلةً حِكم التاريخ ودروسه».
* اليامين بن تومي
حرب غزة كشفت الأقنعة الإنسانية
يرى الكاتب والناقد الدكتور اليامين بن تومي، أنّ حرب غزة، كشفت الأقنعة الإنسانية، وما يمكن أن يُسمى بالحرب الدينية.
إذ يقول بصريح العبارة: «لقد كشفت حالة غزة الأخيرة كلّ الأقنعة الموبوءة التي كان يتدثر بها الغرب حيثُ طعن هذا الغرب شرفه الأنواري العتيد. لم يبق له ما يقنع به العالم سِوى منحاه الهوبزي الّذي نقل البشرية إلى اِنحدارٍ سحيق».
مُضيفاً في ذات النقطة: «سيستفيق الغرب على وجهه المقيت بعد أن خسر العالم وعاد مرّة أخرى إلى كهفه الأفلاطوني يتأمّل كلّ الخيالات التي زرعتها يده المتواطئة، والمُتحالفة مع وحوش الحرب وطقوس الوحشية والغطرسة.. لحظتها لن تعود المحاكاة مُمكنة بل سيقوم بعد المهمشين والمبدعين من نادى الإنسانية سياطهم ليقمعوا بها هذا الغرب المتصهين».
مُؤكداً في المُقابل أنّ حرب غزة كشفت بُعداً قيميًّا وأبانت بوضوح كلّ الوجوه الخاذلة/المتخاذلة والخائنة، كما كشفت التلاحم العالمي مع القضية الفلسطينية وهزمت كلّ مخططات أوديب في السيطرة على العالم بالقوّة ليتبيّن أنّ التلاحم والتعاطف هو ما يمكنه أن ينقذ العالم من مخططات الصهيونية.
بن تومي، يرى أيضاً، أنّ العالم فقد رشده.. وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية يدفع كلّ أحرار العالم ليتخندقوا في جهة الحق الّذي سيكبر كلّ يوم لتبدأ ملحمة التحرير الكُبرى.. واختتم بقوله: «طيلة 20 سنة وأنا أدرس تاريخ الملاحم اليونانية والرومانية والغربية والهندية ولكنّني لأوّل مرّة أُتابع ملحمة بهذا الشكل البطولي.. فهمتُ الآن أنّ البطولة تصنعها أيادي الرجال البيضاء وزغاريد النساء كمديح عالي الصوت ..بكلّ تأكيد نحن نعيش فصولاً جديدة لعصرٍ قادم. وطوفان الأقصى أصبح شوكة في حلق الظالمين والمطبعين».
* نبيل دحماني
المثقف العربي انشغل بمآلات أخرى ومصالح
يقول الكاتب وأستاذ العلوم السياسية، الدكتور نبيل دحماني: «تُعد القضية الفلسطينية أحد أهم القضايا العالمية والإنسانية العربية خلال أزيد من قرن من الزمن، أي منذ وعد بلفور المشؤوم1917، والّذي اِعترفت بموجبه الحكومة البريطانية بحق اليهود في وطن قومي على أرض فلسطين. وهي الفترة التي كانت فيه أقطار العالم العربي في معظمها تحت الاِنتداب والاِحتلال البريطاني والفرنسي. مِمَّا يدل على أنّ القضية ككلّ لم تكن في يد العرب طالما أنّ هؤلاء لا يمتلكون تقرير مصيرهم وهي أحد المصائب الكُبرى التي ألمت بالعالم العربي المُتشتت والمُمزق بين قِوى الإمبريالية التقليدية والاِستعمارية الحاقدة».
وفي ذات الاتجاه، واصل قائلاً: «في العقود اللاحقة وبتواطؤ بريطاني وأمريكي صريح تمّ إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني الدخيل في مارس 1948، في ظل غياب أي دور مُناهض عربي اللّهم حركات المقاومة من داخل فلسطين أو بدعم بعض الدول العربية التي لا تزال تابعة بشكلٍ أو بآخر للاِحتلال أو الاِنتداب على طول الاِمتداد الجغرافي العربي من الخليج إلى المحيط. حيث تمّ زرع كيان دخيل على المنطقة العربية».
وفي هكذا أوضاع وسياقات، لم تكن هناك -حسب الدكتور دحماني- مساهمات أو أدوار بارزة للمثقفين العرب في دعم هذه القضية في بداياتها بفعل اِنغماسهم في قضايا قطرية مرتبطة بالتحرّر كما هو الشأن في سوريا والعراق ولبنان أو مصر وتونس والجزائر، وما وُجِدَ من إرهاصات لم تكن بالقدر البارز أو المُؤثر. فقد اِندمج المثقفون العرب في قضاياهم المحلية أكثر من اِهتمامهم بالقضايا العربية.
غير أنّ الوضع تغيرَ تقريبًا -يضيف ذات المتحدث- بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، وكان الكيان الصهيوني أحد أطراف هذا العدوان في ثاني حرب عربيّة صهيونيّة بعد حرب 1948. في كلّ هذه الفترة كان الحوار السائد هو حوار السلاح والأداء العسكري والسياسي العربي وحركات التحرّر القطرية كما يحب البعض وصف ذلك غير أنّ الوضع تغير بعد نكبة 1967. بحدوث اِستفاقة فكرية وثقافية عربية أرادت مجابهة هذا الاِحتلال ومحاولات التمدّد الصهيوني على جغرافية المشرق العربي.
وخلص في الأخير، إلى أنّ هذا هو الواقع الّذي يلخص أداء المُثقف تجاه قضايا الأمة نتيجة اِنشغاله بمآلات أخرى ومصالح ضيقة في أحايين كثيرة مُتسببًا عن قصد أو غير قصد في اِستمرار نزيف الأمة العربية وتشتتها. ولذلك فقد اِنحصر دور المُثقف العربي في التباكي على الأطلال.
* بشير خليفي
العُدوان على غزة تراجِيديَا لا تَختزلُها اللُّغات
يقول الباحث الأكاديمي والمُترجم، الدكتور بشير خيلفي: «لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يَصف أهوال الحرب في تَفاصيلها الصغيرة، وأن يَنقل حَجم الدمار المادي والنَفسي بِحرفيته وتمامِه، لا الصَحافيُون المقتدِرُون ولا المؤرخون المخَضرمُون... ولا غيرهم. فحتّى الروائيون المحترِفُون والشُعراءُ البَارعُونَ الذين تمكَّنوا من نَاصية اللُّغة لن تُسعفهم الألفاظ في الإفصاح عن مُنتهى الوَجع الّذي تُفضي إليه ضراوة الحرب وشراستها».
الأمر يَنسحِب أيضاً -كما يضيف- على التلفزيونات ذات التقنيات العالية؛ فإنّها تُبرز أشياءً وتُخفي أشياءً أخْرى، إمّا تحت سَطوة التَحَيُّز، أو عنَاية بِرهَافةِ المشَاهِد الّذي تُؤرقه صُور الأشلاء والخراب، أو عَدم قدرتها -مَهْما حَاولت- على نَقل الأوجَاع والفجَائع التي لا تختزلها لُغات الدُنيا. وفي الغَالب لا يَعرفُ حَقيقة الحرَب إلاّ مَن كَابَدها.
وفي ذات السياق، أردفَ قائلاً: «ما يَشهدُه الفلسطنيون في غزة عبر حَلقات الحربِ المدَمرة والعِقاب الجماعي أمرٌ بالغ الفظاعَة والقَسوة، وهي حَلقة من سِلسلة تاريخ مُفرطٍ في التراجيديا، بدءًا من النكبة، وما حدث في دير يَاسين وصَبرا وشاتيلا، وفي أمكنة عديدة وعبر قِصصٍ ومآسٍ كثيرةٍ، تتقاطع في الموتِ والوجَعِ والقصفِ والتهجيرِ واليُتم؛ ولعلَّنا قَادرين هنا، أن نضع قاموسًا لمفردات مُنتهى الوجع، تبدأ بالبكاء وتنتهي في حدود الموت حَرقًا أو تحت الأنقاض».
ثمّ أضاف: «في هذا المقام، أستذكر مَا قَاله الأديبُ الألماني غُونتر غراس (1927 - 2015) الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1999، كان ذلك في مَدخل الألفية الثانية، كنا نَعتقد حِينها أنّه بمجرّد حُلول الألفين ستخْلِّدُ الإنسانية أوْجَها. قال غونتر غراس صاحب رائعة القِط والفأر: (أتمنى أن تَستفيدَ البشريَة مِن أخطائِها، أتمنى أن نَعيش في عَالم آمن لا يَعرف الحروبَ). كان غونتر غراس في أتون الحرب العالمية الثانية مُنتميًا لسلاحِ الطيران الألماني، كان يَعرف أسرار الحرب وشُرورها المتعددة».
واليوم، -وحسب رأي الدكتور خليفي دائمًا- ورغم الكم الهَائل من الفلسفات التي تُعلي من شَأن الإنسان وتَراه مَركز الكون، مَا زلنا نرى الوقعَ المستبدَ للإيديولُوجيا الحربية التي تُبرِرُ العقاب الجماعي بحُجَةِ مُحاربة «الشَّر المحض،» الأمر الّذي يُفضي -حسبه- إلى اِنتهاك فظيع لشِرعَة حُقوق الإنسان؛ بِقتل مُتوحش وإبادة شَنيعة عبر إلقاء القنابل من عَلٍ، أو قتل يُعرّفُه البعض بأنّه: «هادئ» عن طريق حِصارٍ جَائر يُفضى تحت طائلة التهجير والتشرِّيدِ، إلى اِنتشار مُرعبٍ للجوع والعطش، الخوف والمرض. وبالخصوص حِينما يتعلق الأمر بفئة الأطفال، الذِين بحُكم مُقتضيات سِنهم عَادةً ما يَتفَننون أثناء لَعبهم في صُنع عالم طُوباوي أسُاسه التنظيم والعِناية الشدِيدة بالتأثيث،.. يجدُون أنفُسهم على حين غَرَّة، في واقع مُناقض تمامًا: يُتمٌ وخَراب.
وواصل مُستدركاً: «للأسف سَيتبدى هَول الكارثة حِينما تتوقف الحرب الجَائرة؛ أعداد يَصعب حَصرها للقتلى، الأيتام، الأرامل، المعطوبين، المكلُومين... إضافةً إلى مِلْكِيَات مُدمرةٍ وبنية تحتية مُحطمة. وهو ما عَبّر عنه المؤرخ الإغريقي هِيرودوت بِقوله أنّه: (في أوقات السلام يَدفن الأبناء آباءهم... أمّا في الحرب فيحدُث العَكسُ المُهوِل والفظيع».
واختتم قائلاً: «يبدو أنّ ضراوة الحربِ القائمة بِوتيرتها وقسوَتِها تُؤرخُ لواقعٍ جَديدٍ، لَيس عَلى الأرض فَحسب، وإنّما في الفِكر أيضًا، وهو ما يُجسد ويُعمق عَلى الدَوام؛ مَقولَة الشاعِر الإنجليزي روديارد كبلينغ: (الغَرب غربٌ، والشرق شرقٌ، وقَدرُهمَا ألا يَلتقِيَا».
* محمّد تحريشي
مواقف المثقف العربي مرتبطة بتصادمه مع سلطة بلده السياسية
يتناول أستاذ النقد الأدبي وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار، الدكتور محمّد تحريشي، الموضوع، اِنطلاقاً من دور المُثقف في قضية العرب الجوهرية، وهنا تحديداً أبدى رأيه قائلاً: «إنّ الحديث عن المُثقف العربي وقضية العرب المركزية فلسطين هو حديثٌ عن دور المُثقف العربي بغض النظر عن كلّ التنظيرات لهذا المُثقف وبصفاته ونعوته المُختلفة، وبحسب ميوله السّياسيّة والإيديولوجيّة وبحسب الطبقات الاِجتماعيّة التي ينتمي إليها، أو حتّى بالنسبة لتحوّلات درجات الوعي عند هذا المُثقف أو ذاك ليمثل النُّخبة الفكريّة للمجتمع».
وأضاف في ذات المعطى، «يمكن القول أنّ الحديث عن دور المثقف هو حديث عن كلّ النُّخب بكلّ فئاتها، ومن ثمّ فكلنا معنيون بهذه القضية المركزية، وكون قضية فلسطين هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، فقد شكلت تجاذبات كثيرة بدءاً من مواقف تقليدية اِرتبطت بوضع سياسي للعرب في اِتفاقية سايكس بيكو ومخلفات الحرب العالمية الأولى والثانية، وما عرف الوطن العربي من أنظمة سياسيّة أنتجت نخبها التي تعاملت مع القضية بين التعامل العاطفي والتعامل الثوري والتعامل الراديكالي والتعامل العضوي، وفي حالات تعاملاً مُتخاذلاً لغياب الاِنسجام بين المواقف السّياسيّة ومواقف النُّخبة وتطلعات المجتمعات العربية قياسًا إلى هذه القضية الجوهرية».
ثمَ أردفَ مُؤكداً: «الواقع أنّ المثقف العربي تُواجهه الكثير من الصعوبات والعوائق للقيام بدوره المنوط به في هذه القضية، من ذلك تصادمه مع السلطة السّياسيّة لبلده خاصةً لما لا تتوافق مواقف بلده السّياسيّة وما يتبعها من قرارات ومواقف مع موقف هذا المثقف. ومن ثمّ فإنّ دور المثقف يرتبط بدرجة أكبر بالعلاقة بينه وبين السلطة السّياسيّة في بلده وبالهامش الّذي يمكن له أن يُناور فيه للتعبير عن موقفه عن هذا الصراع».
مُشيراً في هذا السياق، إلى أنّ هذه العلاقة تؤدي حتمًا إلى فئتين من المثقفين؛ فئة خاضعة لإغراءات السلطة إلى درجة أن تصير بوقًا من أبواق الدعاية السّياسيّة، وفئة ترفض هذا الاِنصياع وتُمارس نوعًا من المعارضة حفاظاً على اِستقلالية الرأي والموقف، ومن ثمّ يكون التعامل مع هذه القضية المركزية اِنطلاقًا من موقف كلّ فئة بحسب التوجيه السلطوي السياسي أو بحسب القناعة الشخصيّة بعيداً عن الموقف السياسي لكلّ بلد. كما أنّ للتنشئة الأسرية والاِجتماعية دوراً مهمًا في مواقف المُثقف من القضايا الجوهرية والمركزية للأمة.
وخَلُصَ إلى أنّ قضية الصراع العربي الإسرائيلي ومنها الحرب على غزة على مدار سنوات متفرقة، تجلت في كثير من مواقف المثقفين العرب وفي أعمالهم الفكرية والفنية اِنتصاراً للقضية ودفاعًا عن موقف مبدئي إنساني وجودي يرتبط بالحق في العيش بسلام وبكرامة وبالحق في العودة وبالحق في الحرية.