مشروع بن نبي خارطة طريق لاستئناف الدورة الحضارية
تمر اليوم الذكرى الخمسون لوفاة المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي عاش قرابة سبعة عقود متنقلا بين عالمين؛ عالم يعيش انحطاطا وتخلفا بعد أن انفلت منه عقد الحضارة وزمامها، وإن لم يفقد الطاقة الروحية وقوة الإيمان أخلاقيا، وعالم متطور يعيش أفضل أطواره التاريخية بعد أن استلم مشعل الحضارة وأخذ بزمامها، لكنه يعاني هو الآخر من مشكلات حضارية، ويكشف سلوكه الاستعماري عن نفسية استعلائية متجبرة وإن بدت أنها رحيمة في علاقاتها البينية؛ وهي الأجواء التي ستدفعه إلى البحث في مشكلة الحضارة، من خلال قراءة الشرق كما الغرب، مستهدفا وضع خارطة طريق للمسلمين للنهوض من جديد والأخذ بزمام المبادرة.
د. عبد الرحمن خلفة
وقد حتّم عليه هذا أن يقرأ الشرق من خلال تاريخه وتراثه وواقعه، ليستبطن العوامل النفسية والاجتماعية البعيدة التي سببت انحطاطه وتخلفه بعد أن كانت له الريادة والسيادة الحضارية، ويكشف عن الأعراض التي تتجلى على إنسان الشرق المتخلف، أو إنسان ما بعد الموحدين كما يسميه، الذي أضحت له قابيلة للاستعمار، ويقرأ ما اشتغل عليه المصلحون المحدثون والمعاصرون في المشرق والمغرب الإسلاميين وما قدموه من مشاريع إصلاحية وحضارية لعلاج داء الشرق، قبل أن يسهم بآرائه وفلسفته في وضع مشروع للنهضة عارضا شروطها الأساس ليحدث المسلم مجددا تفاعلا تاريخيا بين ثلاثية التراب والوقت والفكرة، ويستلم بادرة الحضارة من جديد؛ على اعتبار أن للحضارة دورة لابد من بلوغها، والغرب مهما بدا اليوم متحضرا فإن لحضارته دورة هو الآخر ستأفل لا محالة.
ولم يكن يرى مشكلة التخلف عند المسلمين إلا في الأفكار، فهي الأساس وما عداها من الأشياء مجرد أعراض، ولذا اشتغل بعد تأملات عميقة على مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ومشكلة الثقافة، والصراع الفكري في البلاد المستعمرة، لتحديد بوصلة وجهة العالم الإسلامي، الذي يعيش في مهب المعركة بين الرشاد والتيه، وذلك من أجل التغيير، متوخيا ميلاد مجتمع يبرز فيه دور المسلم في هذا العصر، مقترحا مرحليا كومنولث إسلامي في مواجهة التكتلات الغربية، ولأن محور الإصلاح عنده هو النفس البشرية، فقد جعل التغيير يبدأ منها، متبنيا رأي الشيخ محمد عبده ذاته في هذا المجال، ولذا حرص على التذكير بأهمية القرآن في حياة المسلم كمحرك أساس لأي تغيير قد يعيد له الاتصال مرة أخرى بين حياته الروحية وحياته المادية الذي فقده منذ معركة صفين، فكان لزاما الانتباه للظاهرة القرآنية وما تفعله في النفوس، وقد تنبه المصلحون المعاصرون إلى أهمية القرآن الكريم كفاعل ذي وظيفة اجتماعية إصلاحية حضارية فاتخذوه منطلقا، ومنهم الإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر وغيره من المصلحين الذين عاصروه في المشرق العربي ودول آسيا المسلمة.
بعد خمسين عاما عن رحيل مالك بن نبي ما يزال فكره في حاجة ماسة إلى قراءات تحليلية ونقدية، وما يزال مشروعه الحضاري في حاجة إلى تفعيل حقيقي لتحقيق نهضة كان يحلم به الرواد المصلحون واستئناف دورة حضارية جديدة، وفي هذا الملف عرض لبعض القراءات في مشروعه الحضاري من جوانب مختلفة.
مالك بن نبي مثقف في ظرف مابعد كولونيالي
تعد تجربة مالك بن نبي مع ماسينيون، مثالا تاريخيا أنموذجيا، عن طبيعة الصراع الناشئ، بين المركز وأطرافه. هو شخصية مثقف، تأبى التفكير من الهامش، في المركز من أجل المركز. ففي تمثل درجات الصراع الثقافي بين ماسينيون ومالك بن نبي، يسترعينا سؤال، عن أهمية الوعي النقدي المستقل، تفكيرا من خارج الظرف الكولونيالي، ثم عن موقف الكولونيالية من الاستقلال الثقافي، فقد كشفت تحليلات بن نبي، عن مستوى التأثير الاستعماري، على ثقافة البلاد المستعمرة، بحيث سيكون من الصعب الانفصال عن المركز، وبناء ثقافة ذاتية، تتحرك في فضاء الخصوصية، تفرض اللحظة الابن نبية الحرص في عملية التفكير، وتنطلق من الخصوصية الثقافية، لنقد المركز والانفصال عنه بوسائل ذاتية، إذ يبدو أن تحرير الوعي، من السلطة اللاشعورية للآخر المهيمن، هي بادرة الاستقلال المنتج.
هناك فئة من المثقفين، يمكن القول أنها عثرت، على الآلية التحررية، من صفة الهيمنة الثقافية للإمبراطورية، محققة بذلك لكشف معرفي، وتؤلف النقدية الحضارية لمالك بن نبي، أنموذجا سابقا لنقدية تيار مابعد الكولونيالية. فقد عمل بن نبي، على تتبع نشوء المثقف الأنديجاني" indigenisés "الذي يُعْتَبَرُ صياغة نهائية، للأهداف المشتركة، بين الأب دي فوكو وماسينيون، فهناك المركز والحواف الهامشية، ومهمة المثقف الأنديجاني، تقتضي حراسة المركز من موقع الهامش، وإنتاج ثقافة واقع الحال، للمحافظة على الامتيازات الثقافية لهذا المركز. ويعد مالك بن نبي مناهضا للدافع الماسنيوني، وأنموذجا للمثقف العضوي، الذي سار في سبيل تفكيك خيط العنكبوت الكولونيالي، فهذا الدافع يعد تأهيل مضاعف، للبعد الأنديجاني للفكر المُسْتَعْمَرْ، ولذلك كان انفصال بن نبي عن هذا الخط، حدث مهم يسترعي الانتباه.
صنف فكر مالك بن نبي، ضمن أوسع الأيديولوجيات انتشارا، في ظرف الصراع السياسي أي الأسلمة، فهل يعد فكر بن نبي فكرا اسلاميا، ببعده السياسي المؤدلج؟ أم هو خلاصة فكرة نقدية تجاوزت صوب التحليل العقلاني، عثورا على عوامل الشلل ثم الفشل، الذي تعانيه المجتمعات المستعمرة، وما بعد المستعمرة، عقب الانفصال عن الجسد المستعمر؟ فلماذا ربط بن نبي، أفق التغيير بالمشترك الإسلامي؟ أليس لأنه أدرك مرامي الكولونيالية، وقد أفصح عنها ماسينيون، العالم المبشر بثقافة مزدوجة تبشيرية استعمارية؟ فالثقافة في البلاد المستعمرة، تؤدي مهمة الآباء المبشرين نفسها، وأن سلطة المثقف الكولونيالي، تعني إنشاء ثقافة خاصة بالانديجان المثقف.
لم يشر مالك بن نبي، إلى مصطلح ما بعد الاستعمار، وإن كانت فلسفة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، تفي بغرض تشخيص الوضع ما بعد الكولونيالي، خاصة أن بن نبي، ينتمي إلى أكثر الجغرافيات المُسْتَعْمَرةِ انتهاكا، من قبل أخطر الأنظمة الاستعمارية في العالم، إنه الاستعمار الفرنسي الذي يعني قتل الشخصية وجسد الشخصية. سينتقل إلى استشراف المستقبل، مديما للتمزيق في الأفق البعيد. وستبقى هذه الجغرافيا، حبيسة الأفعال الكولونيالية، على صعيد اللاشعور الأنديجاني، الذي يكرس المستوى الأقصى للقابلية الاستعمارية، وهي مهمة أوكلت للمثقف المتجنس.
يشير بن نبي، إلى خيانة المثقف الأنديجاني، بوصفه فاعل نشيط، في الحياكة المتينة لخيوط العنكبوت، التي تبدو واضحة في العمل العقلي، الذي قام به ماسينيون، إنها عملية تصفية خطيرة، للعقول التي تنتمي إلى المستعمرات، تجهيزا لنخب القيادة السياسة والثقافية، لكن ماسينيون لم يرض عن ابن نبي، لأنه مزق خيوط العنكبوت، بوعيه للقابلية للاستعمار، وتمثيله لشخصية مميزة، هي في عرف الاستعمار، رمزا لما أراد القضاء عليه تحريرا للجزائر، لتكون خالصة للإمبراطورية، الاستعمارية الفرنسية.
تؤلف كتب السيرة البنبية، المادة الثرية لاستنباط، الظرف المميز للمثقف الأنديجاني الكولونيالي، ثم المثقف ما بعد الكولونيالي، وقد انقسم إلى شقين: فهناك من أبدى الاستعداد، لإكمال مهمة ماسينيون، هو مثقف تجنس وعيه، وتحول ليكون امتدادا، لكل خطط الاستعمار. ثم هناك المنفصل عن الأبعاد الاستحواذية للمستعمر، وما المشروع الفكري لبن نبي، إلا بحثا في آليات انفصال، الوعي عن الاستحواذ الاستعماري، وارتقاء صوب البديل، الذي يمكن من الحرية والتحرر.
والحق أن مرحلتي التحرر، تحرير الفكر وتحرير الواقع، تعد من علامات الاستشراف البني، التي ميزت عمله الفكري، وتدخل في مضمار، تجاوز الاستعمار وما بعده، كمرحلة تبدو أنها طبيعية، فقد انبت الاستعمار إنسانا خاصا، له قابلية للاستعمار، فلا عجب أن تعقب الاستعمار، مرحلة تتشبث به وتنتج رموزا له، عبر بنية أنثروبولوجية خاصة، بالجغرافيا الموسومة بالمستقلة
تؤلف مادة السيرة الشخصية لبن نبي، موقعا للتحليل وكشفا، لآليات الإقصاء، الذي تستخدمها ثقافة المركز من أجل تهميش المثقف، العضوي المنتمي إلى الهامش، وقد أدرك مرامي المشروع الكولونيالي وربما ما بعده، في مفهومه المركزي القابلية للاستعمار، تجهيزا لطبقات المثقفين المتجنسين، الذين يمثلون مصالحه في الجغرافيا، التي انسحب منها، مؤلفا لجغرافيا ما بعد كولونيالية، خادمة للمركز مستحوذة على الهامش دون كلفة.
لتحليل العلاقة بين ماسينيون ومالك بن نبي، يجب أن نقرأ المسرحية الاستعمارية، قراءة تتحقق بعناصر ثلاثة، الديني، السياسي والثقافي، فهناك الأب (دوفكو) الذي قال في رسالة وجهها" لصديقه الدوق (فيتس جيمس)سنة 1912 (منشورة في جريدة لوموند بتاريخ 17/05/1956 )"إنني أعتقد بأنه إذا لم نستطع تحويل، المسلمين بالتدريج عن دينهم، وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة هي تكوّن روح قومية جديدة، تؤدي إلى طردنا من الإمبراطورية الاستعمارية في شمال إفريقيا.
إن الروح الوطنية، العربية والبربرية، سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة، التي ستستعمل الإسلام كسلاح فعال، لإثارة الجماهير الجاهلة في إمبراطوريتنا...!!
إن السبيل الوحيد، لضمان عدم طردنا من هذه الإمبراطورية، هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد، لذلك هو جعلهم مسيحيين".
كلام رجل الدين، يعقبه كلام رجل السياسة "رئيس وزراء فرنسا(منديس فرانس) الذي قال في خطاب له في قاعة "فاجرام" بباريس (منشور في جريدة لومند الفرنسية بتاريخ 07/05 /1956 )" إننا نعتقد أن سياستنا، هي الوحيدة التي تستطيع إدامة الوجود الفرنسي في الجزائر، وإذا ما قدر لنا سوء الطالع أن نفقد الجزائر، فإننا سنفقد معها، جميع أجزاء إمبراطوريتنا. وإننا نعلم النتائج المريعة المترتبة، على ذلك من جميع الوجوه، الاقتصادية والسياسية والمعنوية(؟).
إننا نعتقد بضرورة صيانة/المصالح الحيوية لفرنسا في الجزائر، ويجب أن يزول أي شك، يحوم حول سياستنا في هذا الصدد. وليس هناك أي شخص، راديكالي يدافع عن أية سياسة أخرى، غير سياسة الإدامة والإنقاذ والتمكين لفرنسا في الجزائر"
أما عالم الثقافة فيحركه ماسينيون، تلميذ رجل الدين، المنفذ لخططه صياغة لفضاء ثقافي انديجاني، يتوالد على أثره أصناف المثقفين، العاملين في أبراشية دوفوكو، أما رجل السياسة، فهو تلميذ ماسينيون المخلص لتوجيهاته ووصاياه، من هنا نستوعب الاضطهاد الفكري، والمتابعة الوجودية التي لقيها إبن، نبي على يد ماسينيون، ثم ندرك جيدا الحرب الشعواء، التي أقيمت ضده، لكي لا ينتمي إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس، هل لأنه يمثل شخصية مثقف منفصل، مستوعب لخطط الاستعمار؟ في حين رحب ماسينيون بمثقفين قادمين من الجهة الأخرى، إعدادا لهم لتكريس الثقافة الفاقدة للهوية، إلى حد الدعوة إلى الأوربة والتغريب، والسعي في هذا السبيل، إيمانا منهم بالتفوق الغربي وبقوة المركز، التي يجب أن يسيطر على الهامش
يصف مالك بن نبي، متابعة ماسينيون له بخيوط العنكبوت، وقد عبرت عنها مضايقات وجودية في المعيش، عبر فيها عن نفسه، بالمنبوذ الهائم على وجهه، فهو الانديجان الذي عرف القابلية للاستعمار في موطنه، حيث أرض رحل إليه إنسان من الأقاصي، ف"استولى عليها من مالك قديم لا يعرف ولا يقدر على الاحتفاظ بها"، وهكذا استكنه بن نبي، صيرورة الاستحواذ، التي تتعقب هذا الوضع الوجودي، لهؤلاء القابلين للاستعمار، فالعلاقة تتوضح عبر تسلسل، معقد ينطلق من عالم هو ماسينيون، باعتباره تجسيدا للخطة الإمبراطورية الكبرى، ومبشر يعتز بالمتجنس المفرنس، وسياسي يجسد الخطط في واقع الحال، لماذا الحرب التي سلطها ماسينيون على بن نبي؟ إذ لم يكن يصنف ضمن الجماعات المهيأة لتكميل خطة الاستعمار، دعنا ننصت لشهادته، قائلا "وقد حملنا معنا إلى باريس، أنا ومحمد بن ساعي، نزعة إسلامية توحيدية، تعزلنا أيضا عن الآخرين، من الجانب الأخلاقي على الأقل، وأظن أننا كنا فخورين بعزلتنا"، بين أصناف المثقفين، يمثل شخص بن نبي نمطا، غير محبذ في الإمبراطورية الاستعمارية، التي يحافظ عليها مستشرق كبير كمسينيون، الذي"كان على قدر من الميكيافلية، حيث كان يعطي أوامر للمطيعين له، لاحتلال موقع في المعارضة، وإلا فلن يصبح النشاط الاستخباري ممكنا". كانت الحرب الماسينيونية خفية وباردة، اتجاه أحد الانديجان، من أبناء المستعمرات، وباعتباره مفكرا يقظا، متفهما لكل أبعاد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يكشف بن نبي مهمة المستعمر.
بناء الإنسان أساس الإصلاح الاجتماعي من منظور مالك بن نبي
مالك بن نبي مفكر جزائري عالمي تميّز بأسلوب علمي، و تحليل دقيق، وبعد نظر، وقد اعتنى في كتبه العديدة بمشكلات العالم الإسلامي، وبأسباب تخلفه، وأزمته الحضارية، وكان تركيزه في كل ذلك على بناء الفرد ليكون إنسانًا رساليًا، إذ يعتبر أن مشروع الإصلاح ينطلق من الفرد.
يوضح مالك بن نبي أن أول عمل ينبغي أن يحدثه التغيير الاجتماعي هو تغيير الفرد، ليصبح مواطنًا رساليًا، يقوم بواجبه و يستشعر مسؤوليته، و يرتبط بمجتمعه، و يعمل من أجل أهدافه السلمية، فيقول: (فالقضية ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، إن القضية كانت في أنفسنا، إن علينا أن ندرس أولا الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان، وليست السلال وغيرها؛ فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ) (مالك بن نبي، تأملات، ص:129)
إن بناء الإنسان هو ما ينبغي أن يضطلع به أي مشروع تغييري اجتماعي، فلا يمكن أن يحدث أي إصلاح أو تطور أو تنمية إذا لم يتغير الفرد نفسه. لذلك، كان أخطر مرض يتعرض له أي مجتمع هو الخلل الذي يحدث في نفسية الفرد وعقليته، حيث يفقده دوره الرسالي، و يجعله إنسانًا سلبيًا أنانيًا لا يفكر إلا في ذاته، و لا يعمل إلا من أجل مصالحه الخاصة، و لا يهتم بمشاكل مجتمعه، ولا يحمل همّ أمته. إن المجتمع لا يتغير إذا لم يتغير الفرد، إنه القانون الاجتماعي الثابت الذي قرره القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد:11)، و تغيير الإنسان في نظر بن نبي يكون بتصفية شخصيته من رواسب التخلف، و تطهير عقله من الأفكار المثبطة، فعلى الفرد أن يتخلص من عقدة احتقار الذات و احتقار العمل المبذول، بل عليه أن يحس بجدوى وجوده وعمله، و أن يعلم أنه لا يقل إرادة و طاقة عن إنسان أوروبا أو أمريكا أو اليابان. و يستند بن نبي في توضيح هذه الفكرة بمثال تاريخي في حياة الشعب الجزائري، فالإنسان الجزائري الذي كان يلقب "بالانديجين" في عهد الاستعمار، و صار يلقب بالمجاهد عند اندلاع الثورة، هذا التغيير الذي حدث في نفسيته و تفكيره هو الذي جعله يقوم بأعظم ثورة في القرن العشرين، وذات الشعور هو يدفعه لإحداث معجزة البناء والتشييد ما بعد الاستقلال. (بن نبي، بين الرشاد والتيه، ص:52و53)
إن مالك بن نبي يحث الإنسان الجزائري على وجه الخصوص، و إنسان العالم المتخلف عموما، أن يكون فعالاً في حياته: يحسن استثمار وقته و طاقاته و قدراته، و توظيف ما هو متاح بيده من الإمكانات و لو كانت بسيطة، وأن يتسم سلوكه بالإيجابية والمنطق العملي، و ليس بكثرة الكلام والخُطب. فالعمل النافع النابع من إرادة الفرد وحده هو الذي يخط الطريق للمجتمع لكي يدخل التاريخ من جديد. فالعمل المبذول من قبل أي فرد قد يبدو بسيطا بالنظر إلى حجم الأهداف المسطرة، لكنه عظيم في مآله، لأنه بمجموع الأعمال البسيطة المتنوعة التي يقوم بها الأفراد يتغير وضع المجتمع، ويسير نحو النهضة والحضارة.
ولا يستطيع المجتمع أن يغير ذاته إذا هو لم يبدأ أولا بتغيير الإنسان من حيث سلوكه وأفكاره، فإن مالك يدعو إلى تربية الفرد لضمان بناء الإنسان بناءً سليمًا. والتربية ليست عبارة عن أمور نظرية، أو قواعد مجردة، إنما هي في جوهرها قيم أخلاقية و ثقافية، نابعة من أصالة المجتمع و دينه و تاريخه، و بقدر ما تستمد هذه التربية مفاهيمها من قيم الدّين وثقافة المجتمع وهويته، بقدر ما تكون قادرة على إحداث التغيير السليم في عقل الفرد و نفسيته، وتصنع منه شخصًا اجتماعيًا. (مالك بن نبي، آفاق جزائرية، ص:121 وما بعدها)ن فينبغي أن يكون محتوى ومضمون التربية يهدف إلى تغيير الفرد، وبتغيير الفرد يتغير المجتمع، و كل ما يبني الفرد يبني المجتمع، و كل عمل في الاتجاه المعاكس فهو هدم للبناء الاجتماعي ككل.
إن العلاقات الاجتماعية في جوهرها قيم أخلاقية و ثقافية، تخلق في الفرد روح العمل و المنافسة الإيجابية. فالذين يدعون إلى حرية الأخلاق بدعوى التقدم و التطور، إنما هم في الحقيقة سواء قصدوا ذلك أو لم يقصدوا يعملون على تخريب المجتمع و تحطيمه. وإن القيم الأخلاقية من صدق وأمانة وإخلاص وجدية ونصح و شجاعة وإرادة وصبر وغيرها هي المضمون الجوهري للتربية، هي التي تصنع الفرد الصالح، وتصنع فيه قوة الشخصية وسلامة السلوك، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان، و تجعل للفرد قيمة ومعنى في محيطه الاجتماعي، لأن حينئذ يشعر بأن مجتمعه يقدره، وأن له مكانة فيه.
إن توظيف المبادئ الأخلاقية في التربية لها دور مهم في صناعة الشخصيات السوية، وفي توجيه عمل الأفراد و نشاطهم نحو الأعمال الصالحة الإيجابية، وتجعلهم متعاونين فيما بينهم لخدمة الصالح العام لمجتمعهم.
هكذا قارب مالك بن نبي المسألة اليهودية
يتزامن إحياء ذكرى وفاة مالك بن نبي هذه السنة ، مع الإبادةالجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة جراء الحملة العسكرية التي تقودها اسرائيل على المدنيين، و هي الحملة المدعومة بلا حدود من طرف الغربيين و في مقدمتهم أمريكا أغلب الدول الأوروبية، و تعد هذه الحملة العسكرية من جيش مدجج بالأسلحة ضد شعب أعزل استمرار للإبادة المبرمجة ضد الفلسطينيين منذ أكثر من سبعين سنة خلت ، لأن الصهيونية اليهودية تحكمها عقيدة الحلولية كما يقول " عبد الوهاب المسيري" فالصهيونية هي نتيجة تصاعد معدلات الحلولية داخل اليهودية، فحلول الخالق في اليهود أدى إلى تأله الشعب اليهودي، و من ثم أصبح له حقوق مطلقة في فلسطين، لأن ما يراه الشعب اليهودي حسب هذه العقيدة هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولذلك فإن الهدف المعلن هو نظرية الاستبدال الكبير الحقيقي، أي استبدال الشعب الفلسطيني بالشعب اليهودي عبر عمليات الإبادة بوسائل مختلفة مثل القتل والتهجير والاستيطان وغيرها من الوسائل المتاحة .
وبالنسبة للفكر العربي الحديث والمعاصر لا يوجد اهتمام كبير بالمسألة اليهودية، فأغلب المفكرين العرب المعاصرين من أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون و حسن حنفي وغيرهم لم يهتموا كثيرا بالمسألة اليهودية، ويعود ذلك إلى أسباب منها: هيمنة الصراع العربي الإسرائيلي في بعده السياسي والاستراتيجي على التفكير النظري في المسألة اليهودية، و ميل هؤلاء المفكرين إلى الاهتمام النظري بقضايا أخرى ومنها إشكالات النهضة والتراث والتقدم، وطرحت المشكلة الفلسطينية ضمن منظور أوسع وهو منظور النهضة الذي ينص على أن تحرير الأرض المحتلة هو أمر متوقف على ضرورة انجاز مشروع النهضة الشامل في بعده العلمي والاقتصادي و السياسي والحضاري .
ولكن يمكن أن نستثني من هذا الحكم العام حالة بعض المفكرين العرب والمسلمين و منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ " مالك بن نبي " و " عبد الوهاب المسيري " ، فبالنسبة للمفكر المصري " عبد الوهاب المسيري " فقد كرس حياته العلمية للبحث في المسألة اليهودية، حيث تحول من دراسة الأدب الانجليزي إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية و البحث في اليهود واليهودية والصهيونية، وترك لنا العديد من الدراسات التي حاول من خلالها تقديم نموذجا تفسيريا لليهودية والصهيونية، كما تصدى إلى نقد الكثير من الصور النمطية السائدة حول اليهود واليهودية في الثقافة العربية المعاصرة، وتشكل موسوعته التي تضم ثمانية مجلدات حول " اليهود واليهودية والصهيونية " أهم عمل فكري عربي حول المسألة اليهودية .
يضاف إلى ذلك ما كتبه مالك بن نبي حول الموضوع و تحديدا سنة 1952، حيث ترك كتاب " المسألة اليهودية " وهو الجزء الثاني من كتاب " وجهة العالم الإسلامي " ليقوم "عمر المسقاوي " بنشره بعد ستين سنة وتحديدا في 2012، وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية التي جعلت مالك بن نبي يقرر عدم نشر هذا الكتاب في وقته، فيمكن القول أنه وفق إلى حد كبير في طرح الكثير من القضايا النظرية حول المسألة اليهودية ومنها ما يتعلق بتفسير الهيمنة اليهودية على أوروبا ولغز تأثير الفكر اليهودي في بناء العالم الغربي وعلاقة ذلك بالاستعمار، وفي محاولته الإجابة على ذلك قدم للقارئ العربي تحليلا تاريخيا ثقافيا أراد من خلاله إعادة قراءة السردية التاريخية الثقافية الغربية ، والتي تفسر عادة صعود الغرب الحديث بلحظة النهضة والقطع مع العصور الوسطى بداية من القرن السادس عشر، ولكن بالنسبة لمالك بن نبي فإن الحدث الرئيسي لكلمة أوروبا في التاريخ هو وصول اليهود إليها كشخصية مستقلة عن الفكرة المسيحية ، و هي التي سيطرت على سائر تسلسل حضارتها ، أي أنها لحظة تأسيسية مهمة ، و كأن مالك بن نبي يريد إعادة كتابة التاريخ الثقافي الأوروبي من خلال التركيز على العنصر اليهودي، عكس ما هو متفق عليه من أن التاريخ الغربي الحديث يستند إلى ثلاث أفكار أساسية و هي الأخلاق المسيحية والقانون الروماني و الفكر الإغريقي . وفي هذا السياق يطرح مالك بني أسئلة مهمة منها ما يتعلق باتجاه اليهود نحو الغرب بدل الشرق ويفسر ذلك وبمعنى أخر لماذا اختار اليهودي الرجل الأوروبي ولم يختر الرجل الشرقي، و يفسر ذلك بكون اليهودي بكل بساطة لا يريد استعادة تجربة أبائه العبيد في آسيا و مصر، كما أنه اختيار مبني على معرفة بالرجل الأوروبي، فهو منفتح على سائر الحضارات المحيطة به ، إلا أنه كان و لا يزال ابن نشأته الأولى، والسبب الثالث يتعلق بخصوصية الشعب اليهودي وخياره، و قد وجد مساحته كاملة في العجين الرخو البادي في طبيعة الأوروبي، و هذا هو السبب الأكيد في خيار لا محل له في طبيعة الشرقي، فالأوروبي كما يصفه مالك بن نبي هو " صادق مع نفسه وشريف ولكنه متطلع إلى المادة أكثر منه مستلهما لصفاء الأخلاق، وهو ذكي في مداه الجمالي، و لكن لا يقيده التزام و لا أفق بعيد، ما عبد الطريق للعبة اليهودية .
و يمكن أن نلخص اختيار اليهود للغرب بدل الشرق في عاملين وهي : عامل تاريخي يرتبط بالكراهية التي يحملها اليهود نحو الشرق عموما، بسبب ذاكرة الاضطهاد التي عاشها أسلافهم، و ما قصة "الدياسبورا "إلا أكبر دليل على ذلك . و عامل ثقافي يتمثل في كون النسق الثقافي الشرقي لا يناسب شخصية اليهودي، عكس النسق الثقافي الغربي حيث أصبح الغرب اليوم يدور حول مركزية اليهود فهم عقله و روحه أطروحة مالك بن نبي تتضمن الكثير من الأفكار الراهنة حول اليهود و الصهيونية و يمكن استئناف النظر فيها واعتمادها كنموذج تفسيري للظاهرة اليهودية عموما.
شروط النهضة كما يراها
لقد اعتمد مالك بن نبي في عرض تصوره لشروط النهضة والحضارة –اي حضارة – على منهج تحليل السّبل التي من شأنها أن تسهم في تحديد الكيفيّة التي تبني بها الأمم حضاراتها، الذي لا يتأتّى إلا بمعرفة أسس البناء وإدراك عوامل الهدم وفهمهما فهما دقيقا من خلال النّظر في تاريخ الحضارات السّابقة، فهي كالسّلسلة الواحدة والأمم حلقاتها كما شبّهها ابن نبي، فكلّ أمّة من هذه الأمم مجبرة على القيام بدورها ضمن الحلقة الخاصّة بها ضمن إطار زمني محدّد والتّاريخ كفيل بالحكم عليها من حيثُ نجاحها أو فشلها، و تكوين الحضارة –حسب ابن نبي -إنّما يكون في نفس الظّروف والشّروط التي قامت بها الحضارة الأولى مستشهدا على ذلك بالحضارة الإسلاميّة في عصورها الزّاهرة.
وشروط النهضة عند مالك بن نبي تضمنه كتابه الموسوم ب'شروط النهضة' الذي تضمن ثلاثة محاور أساسية:
(المحور الأول) الحاضر والتاريخ ويتناول فيه الوثنية، الفكرة والسياسة والذي كما يبدو يؤطر بها الانطلاقة والاسس التي تعتمل فيها الفكرة حين تحولها السياسة الى وثنية، فالفكرة في حد ذاتها اجتهاد عقلي في أي مجال من مجالات الاجتهاد لكن بقدرة السياسة والسياسيين ان يحولوها الى طقس من طقوس القداسة فتتحول بهم الى وثن والى وثنية في اطوارها المتلاحقة التي يجب ان يتجاوز فيها المسلم عبثية التكديس ويتحول الى فعالية البناء الذي تنسجه الفكرة الدينية – هنا الفكرة الاسلامية – المتجددة وتتفاعل فيها عناصر الحضارة –كل حضارة -الثلاث : الانسان والتراب والزمان.
(المحور الثاني): المستقبل وتناوله "ابن نبي "في عناصر عديدة يربطها عقد المنطق البنابي المتصاعد بداية من تناول المقدمات المنطقية لصناعة هذا المستقبل للامة، وهو المستقبل المتجدد بتجدد اجيال الامة، فالحضارة الاسلامية دورة خالدة تتجدد بتجدد الاجيال ومن ثم منطق استمرار الإعداد لهذه الدورة .
(المحور الثالث): الاستعمار والشعوب المستعمرة وهي العوائق والمعطلات لسيرورة الحضارة التي تلتقي فيها معامل القابلية للاستعمار بمخاطر التكيف الظاهرة والباطنة، الايجابية منها والسلبية ومآلاتها العاجلة والآجلة.
نبه إلى خطر توظيف الاستشراق كأداة للصراع الفكري
معضلة الصراع الفكري من أبرز القضايا شغلت فكر مالك بن نبي وسكنت فؤاده، حيث تحدث عنها في معظم كتبه، وخصص لها كتابا مستقلا ولم يشف غليله منها، لأنه كان يرى أن الصراع الفكري لا ينفك عن الاحتدام عبر الزمن إلا أنه لا أحد يلاحظها ولا ينتبه إليها في المجتمع الإسلامي، رغم أن هذا الصراع له دور كبير في صياغة الواقع الذي نعيشه، فهناك عاملان في تخلف الأمة: عامل الاستعمار أو ما يسميه مالك بـ"اختصاصيي الصراع الفكري"، وعامل القابلية للاستعمار، وهو عامل ذاتي داخلي، والصراع الفكري يستعمل إنتاج المستشرقين في تطويع العالم الإسلامي وإخضاعه، مستغلا الثغرات الخطيرة التي يعاني منها المجتمع الإسلامي.
إن الطريق، في نظر مالك بن نبي، لإخراج الأمة الإسلامية من حالة التخلف هو تجديد الأفكار. وإن هزيمتها في مواجهة الدويلة الصهيونية يرجع إلى اهتمامها بتجديد الأشياء وتكديسها بدل تجديد الأفكار. الأفكار الحية المحيية لزرع الروح التي ترفع الإنسان إلى مستوى مهامه وقمة واجباته أمام الأحداث الكبرى... إن ما ينوب مجتمعا ما في منعطفات التاريخ الخطيرة، ليس من قلة أشيائه، ولكن من فقر أفكاره.
ينطلق مالك من قضية أساسية وهي التفريق بين العمل العلمي والتوظيف السياسي للإنتاج العلمي. وأن العمل العلمي يجب أن تحركه الأفكار وإلا كان مجرد تكديس للمعلومات، وهذا للأسف ما وقع فيه بعض كتابنا المعاصرين، حيث أصبحت أعمالهم وكتاباتهم علىكثرتها من غير جدوى في تحريك الأمة وإحياء ضميرها، لأنها مجرد تكذيس كالركام، كما أن الأفكار لا جدوى فيها إذا لم توضع موضع التنفيذ بواسطة برامج سياسية متوسطة وبعيدة المدىـ وهي السياسة التي تكون ناجحة ومثمرة في حياة الأمة.
والاستعمار مستوعب لهذه الحقيقة، فهو يوظف العمل العلمي لتحنيط الأمة فكريا، وإحباط كل الجهود المبذولة في تحريكها أو توجيهها نحو فهم مشكلاتها الحقيقية، واتباع الطريق الصحيح لحلها. ومن هنا يبرز مالك كيف استخدم الاستعمار إنتاج المستشرقين في التلاعب بعواطف المسلمين، ذلك أن الاستشراق الحديث سلك مسلكين متضادية في دراسته للثقافة والتاريخ الإسلاميين، مسلك المديح والتمجيد، ومسلك النقد والتجريح وإنكار كل إسهام للحضارة الإسلامية في العلوم الحديثة. ونتج عن هذا التضاد أن بقي الضمير الإسلامي في دوامة صراع باطني، مرة يسكِّنه ما يكتبه المادحون، وأحيانا يثيره ما ينتجه المفندون، واستمر هذا الصراع منذ قرن من الزمان في حلقة مفرغة استهلكت معظم طاقاته الفكرية من دون جدوى في تطوير العقلية الإسلامية، إلا في حالات قليلة تعد على الأصابع. وأهدرت طاقات فكرية ثمينة لم يحسن استخدامها. والمستعِمر يعمل أثناء الاستعمار وبعد الاستعمار، على قطع صلة المسلم، بوجه خاص، بالتطور الذي حصل ويحصل على مستوى العالم على مدى قرن من الزمان أو يزيد. ويستخدم في ذلك عزل الأفكار عن المجال السياسي، حتى إن عمليات النقد الذاتي والرقابة والتصحيح لن تكون ممكنة في البلاد المستعمرة حتى لا يتم كشف نواياه وتعطيل مشروعاته. ويبين مالك في عدد من كتبه كيف استعملت الجهات الاستعمارية الدراسات الاستشراقية المادحة للحضارة الإسلامية في تنويم الفكر الإسلامي عن طريق إغراقه بالأحلام والحنين إلى الماضي، حتى شلت أفكاره، وابتعد عن الفاعلية في تجديد أفكاره لتغيير واقعه. كما عملت هذه الجهات على إدامة هذه الحالة المرضية من شلل الأفكار، وغيابها عن الواقع، بكل الوسائل.
لقد أدى التتلمذ على المستشرقين من خلال الرسائل التي قدمها عدد من المسلمين، إلى زعزعة الشخصية العربية من الداخل، لأن هذه الحركة الفكرية والنزعة الاستشراقية تغلغلت بشكر غير مرئي عند شبابنا، وأنتجت تركيبا غير سليم ولا متوازن بين ما أنتجه الاستشراق من تحليل للإسلام وظواهره، وبين ما يحمله الإسلام فعلا من أبعاد في العقيدة والتصور. وهذا التزاوج بين النقيضين إنما هو اجتياح للمجتمع الإسلامي عن طريق حَمَلة من داخل المجتمع تشربوا بتلك الأفكار التي لا علاقة لها بالثقافة الإسلامية الأصيلة. ويعرِّض مالك بالكتاب العرب الذين أصبحوا يحتكمون إلى المستشرقين في إدراك الحقائق عن الذات الإسلامية الأصيلة. فكان الاستشراق، في نظر مالك، شرا على المجتمع الإسلامي لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة الحرمان، سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر، وأغمستنا في النعيم الوهمي، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيرتنا حماة الضيم بالدفاع عما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة بمراعاة الحقيقة الإسلامية، دون أن نسلم لغيرنا حق الإصداع بها والدفاع عنها لحاجة في نفس يعقوب.
ومن أساليب الاستعمار الفعالة في صراعه الفكري هو مبدأ الغموض، فيقوم بتمرير الرسائل بأدوات كثيرة، وهو يمتلك القدرة لا على توظيف أهل الأهواء من أبناء الأمة فحسب، بل يستخدم أحيانا ذوي النوايا الطيبة ويستعمل سمعتهم الخلقية. ويحارب أية بادرة يمكن أن تكون مثمرة في حل مشكلات المجتمع الإسلامي أو تنمية أفكاره. وقد عانى هو شخصيا من هذه المسألة وتعرض للأذى في شخصه وحورب في مصادر رزقه، وحتى في عائلته.
ويرى مالك أن مواجهة مشكلة الصراع الفكري تكون بالعمل على استقلال الإفكار، لأن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية، لا يمكنه أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا لتصنيعه. فلا يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج، من أي جانب كانت، فيجب أن نحدد نحن موضوعات تأملنا ونستعيد أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق استقلالنا الاقتصادي والسياسي. والحل الأساس الذي يطرحه بن نبي هو الرجوع إلى المصادر الأصيلة التي بنيت عليها حضارتنا التليدة؛ القرآن باعتباره المصدر النظري للمعرفة والحضارة وما تحتاجه من قيم ومبادئ، والسنة النبوية التي صاغت تلك المبادئ والقيم والقواعد في قالب عملي تطبيقي. وذلك تطبيقا للمنهج الذي دعا إليه وحدد خطواته، وهو المنهج الذي بينه لنا القرآن في طلب المعرفة والحكم على الأشياء... المنهج العلمي الصحيح. ولكن الأخذ بهذا المنهج يقف في طريقه عقبة كؤود، ألا وهو الصراع الفكري الذي يستعمل أدوات فعالة في تعطيل استخدامنا له، وأهم هذه الأدوات هي الاستشراق. فالاستشراق له أثره الفادح في تشويه نظرتنا إلى أمجادنا وتاريخنا وعلاقتنا بالقيم الشامخة في تراثنا الإسلامي.