شاعريـة اللقـاء و قـوة التأثيــر
مازال كاتب ياسين الأديب الجزائري المتفرد يثير الجدل بين الباحثين و النقاد و الدارسين كلما فتحوا نافذة على عالمه المليء بالأحداث و المآسي و الإبداع و التحدي و الثورة، عالم من الرومانسية و الشاعرية المتجلية في كاتب ياسين الإنسان المتخندق مع المضطهدين و الكاتب المبدع الذي تفرد بأسلوبه المتهكم اللاذع، بإنسانيته المنكسرة حد الخجل و البكاء عندما يصدمه الواقع و ينال منه بعض الوقت قبل أن يستقوي عليه و ينهض من جديد.
أعد الملف: فريد غربية
في الملتقى العاشر المنعقد بقالمة يعود كاتب ياسين إلى صلب النقاش الأكاديمي من زاوية أخرى تتناول هذه المرة أدب اللقاء و المواقف الشاعرية التي جمعت الأديب بالناس البسطاء في الشوارع و الساحات العامة و مواقع العمل و في المعتقل و دهاليز الحياة التعيسة، كما جمعته أيضا بكبار الساسة و الأدباء و المناضلين و الصحافيين من أجل الحقيقة و القضايا العادلة حول العالم. اللقاء عند كاتب ياسين هو الحياة هو الحرية و الإبداع و الإحساس بالآخرين، في ميادين العمل و ساحات النضال و قاعات التحرير و المسرح و المعتقل، لا معنى للحياة عند كاتب ياسين دون اللقاء حتى لو كان هذا اللقاء صادما و مؤلما. على مدار يومين كاملين ظل كاتب ياسين يصنع الجدل و يثير النقاش بين نخبة من الأدباء و الباحثين و أساتذة الجامعات الذين قدموا من فرنسا و إيطاليا و تونس و الجزائر للمشاركة في إثراء الملتقى و الكشف عن المزيد من الأسرار التي لم تتكشف بعد عن شخصية ياسين الأديب العصامي الذي طوع اللغة و كسر الحدود بين الأنماط الأدبية و أحدث ثورة في الكتابة الصحفية و العلاقات الإنسانية التي تتجاوز حدود الأوطان و المعتقد و الجغرافيا.
* الأديبة الإيطالية ماري جيوفانا بيطريلو
كاتب ياسين .. بداية اللقاء مع الصحافة
تناولت الأديبة الإيطالية ماري جيوفانا بيطريلو كاتب ياسين الصحفي المبدع الذي قرر خوض تجربة الكتابة الصحفية بعد الرواية و المسرح و الشعر، معتمدا على رصيد هائل من العلاقات و اللغة و المخيال الواسع الذي فتح أمامه أبواب الإبداع على مصراعيها.
و قالت الباحثة في محاضرة لها بتقنية التحاضر عن بعد بأن قدرات كاتب ياسين في مجال الكتابة و الإبداع و الصحافة لم تعد في حاجة إلى إثبات اليوم، لقد طبع بنجمه الساطع جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية بأكمله، على حد قول جاكلين أرنو، و لكي نفهم الدور الذي لعبته كتاباته الصحفية على المستوى الاجتماعي و تأثيرها في وعي المواطن، يجب أن نأخذ في الاعتبار أول خطواته في مجال الصحافة و مغامرته الكبرى مع صحيفة الجزائر الجمهورية التي تميز خطها التحريري عن منافسيها، و منها فتح كاتب ياسين نافذة أخرى لمخاطبة الشعب الجزائري من خلال نصوص امتزجت فيها الكتابة الصحفية مع الكتابة الأدبية، و هو الاندماج الذي سعى إليه كاتب ياسين منذ بداياته الأولى في الإنتاج و التأليف سنة 1949، من خلال تقديم نفسه كصحفي مشكك في الحدود بين الصحافة و الأدب ساعيا لأن تكون كتاباته مؤثرة في القراء و ملامسة لهم على المستوى العاطفي و العقلاني في نفس الوقت.
و على أساس هذه الاعتبارات، تضيف المتحدثة سنقترح هنا تحليلا لعمل كاتب ياسين كصحفي من جريدة «الجزائر الجمهورية» استنادا إلى مقابلات جمعها «جيل كاربونتيه» في مؤلف تحت عنوان «كاتب ياسين، شاعر كالملاكم» و هي مقابلات صحفية أجراها الكاتب بين سنتي 1958 و 1989، و استنادا كذلك إلى ما جمعه ابنه أمازيغ من مقالات نشرت بعد عشر سنوات من رحيله تحت عنوان «كاتب ياسين، منتصف الليل» و هي كتابات صحفية بين 1947 و 1989، و كانت كلها بأسلوب أصيل و التزام كامل يدين مظالم الاستعمار و يكشف ما سكتت عنه الصحافة الاستعمارية، أو شوهته، لذلك سنضطر إلى الحديث عن الدور الذي لعبته الكتابة الصحفية لدى كاتب ياسين الذي لا يكل و لا يتوانى في الدفاع عن المضطهدين عندما كان صحفيا بجريدة الجزائر الجمهورية بين سنتي 1948 و 1951 هذه الجريدة العنيدة التي احتضنت هذا الصحفي الشاعر المثقف العنيد الذي بقي بعد وفاته الرمز العالمي للثورة الذي كانت تعني له العودة الدورية لقوى المقاومة السياسية و الفكرية في خدمة عالم جديد و شعب متجدد.
صحافي ليس كالآخرين في زمن الاستعمار
كاتب ياسين يموت دون أن تولد جزائر جديدة تقول الأديبة الإيطالية، التي أوردت بعض ما قاله ياسين «هناك سؤال حقيقي يتعلق بالضمير بالنسبة لي منذ أن قمت بكل الاكتشافات و تعرية الحقائق، هل يجب أن أغمض عيني أو أبقى صامتا أو على العكس من ذلك أذهب بعيدا في البحث عن الحقيقة»
من الواضح، تواصل المتحدثة، أن كاتب ياسين كان صحافيا لا مثيل له في جريدة لا مثيل لها، و توضح كتاباته الصحفية في رأينا المغامرة الكبيرة لكاتب ياسين لكن لكي نفهم هذا العمل المتفرد يجب قبل كل شيء معرفة تاريخ و مسار جريدة الجزائر الجمهورية التي تعد مثل نص مجزأ على طريقة كاتب ياسين في فترة ما بين الحربين العالميتين، صحيفة يكتب فيها كاتب بأسلوب التشظي بأسلوب التبرعم و عن طريق استئناف نفسه و تجديدها باستمرار.
في ذلك الوقت لم يكن لدى الجزائر صحف يومية يسارية، و في سياق استعماري من التعايش بين الأوروبيين و السكان الأصليين كانت الصحافة اليومية الجزائرية استعمارية الى حد كبير و كان هذا لا يساعد على تحقيق العدالة و التسامح و التقارب بين السكان، كانت السيادة للمجتمع الأوروبي و الفرنسيين الجزائريين أو ما صار يعرف بالأقدام السوداء، كل هذا المجتمع لم تكن لديه صحف إعلامية حقيقية و كل ما كان موجودا في ذلك الوقت صحف استعمارية تمارس الدعاية لتكوين رأي مجرد من الحقيقة و المشاعر، و للرد على هذا الخلل المعلوماتي و تغيير الواقع ظهرت «الجمهورية» صحيفة الفقراء، التي يسميها المتعاونون من الصحافة الاستعمارية بسخرية «المتسول الصغير» لأنها اضطرت إلى طلب الاشتراكات و التبرعات من قرائها لمواصلة الحياة من معقلها بحي باب الواد الشعبي حيث يعيش عمال الموانئ و المناجم و عمال الرصيف و عائلاتهم.
و قبل عام من الحرب العالمية الثانية ظهرت فكرة لدى اليسار الفرنسي بإنشاء شبكة من الصحف اليومية في الجزائر، هي صدى الجزائر، صدى وهران و صدى قسنطينة و عندها أدركت الجبهة الشعبية المضطهدة بأنه بات من الضروري الرد على هذه الخطوة بإنشاء 3 صحف في شهر فيفري 1937 هي وهران الجمهورية، و بعدها بعام واحد الجزائر الجمهورية ثم قسنطينة الجمهورية التي لم تر النور.
و كان ميلاد الجزائر الجمهورية حدثا بارزا بالجزائر آنذاك و استدعي الكتاب و المثقفون للمساهمة في إصدار الجريدة الفتية بينهم ألبير كامي الذي لم يكن يجيد الكتابة الصحفية فتم تكليفه بقضايا المسرح و الأدب كمتربص.
و في تلك المرحلة كان كاتب ياسين من عمال مخازن القمح بميناء الجزائر عندما توفي والده و تولى هو مسؤولية والدته و أختيه و أفراد من أقاربه حيث لم يعد ما يحصل عليه من عمله يكفي لسد حاجيات العائلة و غرق الرجل في الديون و صار مدانا من كل الحي الذي يعيش فيه، و من هنا راودته فكرة الالتحاق بجريدة الجزائر الجمهورية، معتبرا مهنة الصحافة مهنة رائعة و مشوقة تجعلك في تواصل واقعي مع الأحداث و الناس. و شغل كاتب ياسين منصب رئيس قسم بجريدة الجزائر الجمهورية التي انتهجت الخط التحريري المناهض للاستعمار المدافع عن حقوق المضطهدين حتى صدر قرار منعها من الصدور في شهر سبتمبر 1955. و اعتبر كاتب ياسين كشاعر صحفي يمضي مقالاته تحت الاسم المستعار سعيد العمري لكنه أمضى مرة واحدة باسمه الحقيقي في مقال صدر يوم 8 مارس 1950 و في نفس السنة تحررت الجريدة من الصحافيين الفرنسيين و صارت هيئة التحرير كلها من الجزائريين تحت إشراف هنري علاق، و بذلك صارت الجريدة في منأى من الرقابة الفرنسية بخصوص القضايا الجزائرية الجوهرية.
بين الصحافة و الأدب..اللقاء
تواصل الباحثة الإيطالية ماري جيوفانا التحدث عن كاتب ياسين و علاقته بالصحافة و قدرته على الجمع بينها و بين الأدب معتبرة ذلك مغامرة كبرى و عبور مثير بين طموحين على قدر كبير من التعقيد، مؤكدة بأن الكتابة الصحفية عند كاتب ياسين تتميز بخصوصية كونها تظهر باستمرار من خلال البحث عن أسلوب كتابة فريد و منظور شخصي يتجاوز المنظور الصحفي الكلاسيكي.
كصحفي يسافر كاتب ياسين كثيرا لكن محطاته الرئيسية كانت موسكو و ستالينغراد و أوزبكستان، و من الواضح أن طريقة كاتب ياسين في ممارسة الصحافة تتطابق تماما مع طريقته في الشعر و الأدب و المسرح، حيث يريد الكاتب التحدث إلى الناس و الالتقاء بهم و إعلامهم باستخدام أسلوب متفرد و صور شعبية و فكاهة و مفردات تصل مباشرة إلى صلب الموضوع، ذلك انه كان يتحدث إلى الأشخاص الذين يناضلون، هؤلاء الأشخاص الذين جردهم الاستعمار من إنسانيتهم و أفقرهم و نال من شخصيتهم.
و تظهر مقالات كاتب ياسين رغبة في إعادة الاتصال بالحدث بشكل معمق و تقديم معالجة متميزة للمعلومات انطلاقا من ملاحظة أن الصحافة التقليدية تظل غير كافية لسرد الوقائع كما يتضح من قراءة إحدى مقاطع كاتب ياسين « عندما خرجت من السجن قصصت رؤيا للناس، هؤلاء الأشخاص الذين لم أكن ألاحظهم و أهتم لحالهم عندما كنت أمر بهم كل يوم في الشوارع و عندما رأيتهم في السجن تحدثنا معا عندما واجهنا نفس المصير، لقد بدأت فعلا في التعرف عليهم و بعد خروجي من السجن كنت على استعداد للعمل و كنت على قناعة تامة بأنه ينبغي علي أن أفعل شيئا و ليس شيئا صغيرا علي أن أفعل كل شيء».
و منذ عام 1950 عمل كاتب ياسين في قسم الأدب و الأخبار في الجزائر الجمهورية، و كتب في إحدى منشوراته بالجزائر العاصمة قصيدة «الشعب الضال» التي نشرتها الصحيفة في 13 سبتمبر 1950 و كانت مخصصة للشعب الملغاشي، و تترجم بشكل رائع النضال المشترك لجميع المضطهدين.
إلى الشعب المشرد تحت أنقاض الملاجئ المهدمة
أنا أعرفك
من أجل النزيف في غاباتكم
شعب مدغشقر
من القارب إلى ميناء الجزائر
أرى
مرة أخرى بلادنا محاطة بأسوار العبودية.
و كانت وقتها الثورة الملغاشية متأججة سنة 1947 و تذكر كاتب ياسين و الجزائريين المضطهدين بمجازر ماي الأسود عام 1945.
* الباحثة بالجامعات الفرنسية جليلة دشاش
نموذج حقيقي لبناء جسور التواصل و شاعرية العلاقات
اختارت الباحثة الجزائرية العاملة بالجامعات الفرنسية جليلة دشاش الحديث عن العلاقات و اللقاءات التي جمعت كاتب ياسين ببعض الكتاب و مثقفي العالم لمعرفة أكثر بحياة الكاتب من خلال العلاقة مع الآخر و التأثير فيه و التأثر به في سياق البحث و التأليف و التوجهات الفكرية.
و قالت الباحثة بأنها اعتمدت على ما كتبه «إدوارد جليسانت» في كتابه شاعرية اللقاءات بأنه كان صديقا لكاتب ياسين و بقيا كذلك حتى النهاية يؤثر كل منهما في الآخر، و لاحظت أن نظرية و تجربة إدوارد جليسانت في هذا الشأن تتماشى تماما مع رحلة كاتب ياسين الإنسانية و الشعرية، حيث التقيا في أوائل الخمسينات في باريس و تقاسما نفس مثل النضال ضد الاستعمار و من أجل استقلال البلدان المستعمرة بينها الجزائر، الحلم الذي ظل يراود كاتب ياسين منذ أحداث 8 ماي 1945 و منذ أن عرف حقيقة الاستعمار و معاناة شعبه.
و أضافت المتحدثة بأنه و عندما ظهر كتاب نجمة سنة 1956 في باريس بدأت مسيرة الرجلين في التجلي و البروز في عالم الأدب و حياة النضال من أجل القضايا العادلة في العالم، و كان لإدوارد جليسانت شرف كتابة مقدمة الجثة المطوقة سنة 1959 قبل عرضها من طرف المخرج جون ماري سيرو في بروكسل في نفس العام، و يومها صعد إدوارد على المنصة لقراءة مقدمة الجثة المطوقة التي تؤرخ لحقبة دامية من تاريخ الجزائر، بالرغم من تهديدات مجموعة يمينية متطرفة بتفجير كل شيء، و منذ تلك اللحظة توطدت العلاقة بين الرجلين و اكتسبت أهمية كبيرة في مجال الفكر و التأليف و النضال و العلاقات الإنسانية السامية.
و تساءلت المحاضرة عن معنى العلاقات الشاعرية قائلة إن فكر جليسانت حول ذلك هو نظام عالمي إنساني آخر مضاد للعولمة المتوحشة و الشمولية المقيتة، و مضاد لكل المواقف و التوجهات التي حبست الإنسانية و قيدتها بأغلال الطائفية، و الخداع و التمزيق و الأكاذيب، و من هنا، تضيف جليلة دشاش نشأ مفهوم جديد عن العالم كله، عالم مندمج متداخل و متعدد الثقافات و الأفكار، عالم يفضي إلى حقيقة انه يمكنني أن أتغير من خلال العلاقات و تبادل الأفكار و الرؤى مع الآخر دون أن أفقد هويتي أو أصاب بالتشوه، و يعتقد كاتب ياسين و إدوارد جليسانت بأن هذا المفهوم يحد من سياسة الهيمنة و يستبدلها بسياسة شعرية العلاقات الإنسانية و الفكرية.
و خلصت المحاضرة إلى القول بأن الرجلين مارسا شاعرية العلاقات، كل منهما يعرف الآخر ليس دائما بالمعنى المجرد للمعرفة لكن عن طريق الشعور و الحس الإنساني، التقيا و قدر كل منهما الآخر من خلال بناء أواصر الصداقة و الأخوة، و أثمرت ثقافتهما و أفكارهما و إنسانيتهما، لقد كان كاتب ياسين بالنسبة لإدوارد جليسانت مرآة هائلة تساعد على تهيئة المفهوم الشعري للعلاقة و الذي يؤدي في النهاية رؤية للعالم تختلف عن تلك العولمة المفروضة علينا، و كل هذا يعزز مواقف كاتب ياسين تجاه القضايا المصيرية للشعوب، و الى اليوم مازال هذا الكاتب الجزائري العالمي لم يكشف بعد عن كل أسراره، في انتظار المزيد من البحث و الدراسة و التحليل و التنقيب في أرشيفه السري ومحيطه العائلي الصغير قبيلة كبلوت و موطنه الجزائر و وطنه الكبير العالم كله حيث لا حدود للفكر و الإبداع و الإنسانية التواقة إلى الحرية و العدالة.
* الباحث التونسي منصور مهني
ياسين يمتلك القدرة على التأثير و استعمال الشخصيات الافتراضية
قال الباحث التونسي المتخصص في النقد و الأدب الفرونكفوني و المغاربي منصور مهني بأن كاتب ياسين يمتلك قدرة كبيرة في الربط بين مختلف الأجناس الأدبية و التأثير في محيطه من خلال الأحداث الواقعية و كذلك باستعمال الشخصيات الافتراضية التي كان يعتمد عليها في مجال المسرح و الرواية على وجه الخصوص.
و اختار منصور مهني الشخصية الأدبية و الشعبية الأسطورية «جحا» ليبزر قدرة كاتب ياسين على التعامل مع النص القصصي و الشعري و المسرحي، محاولا إيصال رسالته إلى حيث يريد.
و أضاف المتحدث، الذي يرأس اللجنة العلمية للملتقى الدولي كاتب ياسين بأنه و عندما اجتمع المشرفون على هذا الموعد العلمي و الأدبي في ختام الملتقى التاسع في أكتوبر 2022 للتفكير في القضايا التي سيتناولها الملتقى القادم تم طرح العديد من الاقتراحات و كانت كلها جيدة و مناسبة، لكن كلمة «اللقاء» كانت محل إجماع و تم اعتمادها كموضوع جدير بالدراسة و النقاش و التحليل، مؤكدا بأن حياة و مؤلفات كاتب ياسين كانت كلها مرتبطة بحركية ديناميكية تعتمد على التواصل مع الآخر و اللقاء الواقعي مع الأحداث و الشخصيات و الصدام مع المواقف و المتغيرات.
و للوهلة الأولى، يقول منصور مهني، قد يبدو الاختيار حساسا لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالطبيعة الواضحة لكيفية تطور الأحداث في عالم الأدب، و في الواقع فإن النص الأدبي يعد ملتقى الشخصيات و الوقائع و الأفكار و الأساليب التي يدار بها النص، إنها ديناميكية اللقاءات التي ميزت كاتب ياسين الذي أثر و تأثر أيضا بالشخصيات الرمزية بينها شخصية «جحا» في رائعة «مسحوق الذكاء» و هو الاسم الذي أطلقه كاتب ياسين على هذه الشخصية الأسطورية التي استغلها في مسرحيته.
و لا يزال العرب و آخرون من أصول تركية و غيرهم يؤكدون مكانة شخصية جحا في المجتمع البربري، يضيف المتحدث موضحا بأنه إذا فكرنا في الأمر بشكل أعمق فسنربط الأمر بشكل أساسي بفكرة «أحمق القرية» التي لا يبدو أن أي ثقافة ستتجاهلها، و مع ذلك فإن الإطناب و التكرار الذي طال شخصية جحا عند كاتب ياسين كان يهدف إلى بناء نموذجي روائي و مسرحي بطريقة معينة على الرغم من انه يستمد العناصر المكونة له من الخيال الجماعي و الأسطورة.
و يشهد تراث كاتب ياسين الوثائقي و أرشيفه على اهتمامه المبكر و الخاص و المستمر بشخصية جحا التي كادت أن تستحوذ على المسرح الكاتبي و تحل محل نجمة لكنها لن تبلغ ذلك و تبقى مجرد امتداد منطقي لها.
و تطرق منصور مهني إلى النقد اللاذع و الأسلوب الهزلي الهادف عند كاتب ياسين عندما يستعمل الشخصيات الوهمية في مسرحيات الهواء الطلق حيث يحدث اللقاء الصادم و تتسارع المشاهد و تكثر الألغاز و المتناقضات.
و يقدم الباحث التونسي بعض مشاهد مسرحية «مسحوق الذكاء» لكاتب ياسين قائلا بأن كل هذا المجيء و الذهاب و كل هذه المعابر المتوترة في كثير من الأحيان ترسم في الواقع مسارات مصادفة أو مجتمعة للبحث عن البارود، عن الذكاء عندما تتلاعب ساحبة الدخان بذكاء السلطان و علمائه و رجال الفتوى لديه في مشهد الحمار الذي يمتلك الموهبة و القدرة على صنع الذهب بدلا من الروث.
و خلص منصور مهني إلى القول بأنه يمكننا التحدث مطولا عن أي شكل من أشكال التبادل أو اللقاء و نضع تفسيرا للخطاب المجزأ الذي يبني المحتوى دون الكثير من التفاصيل كما لو كانت مختارات من نكت جحا تتماشى مع سياقات ظهورها و فرص السيطرة على العالم كما يقتضيه منطق النص، و هناك تكون اللقاءات المزيد من اللقاءات و الأفكار و القيم و المشاعر التي تفرض نفسها كالفوضى التي تنبثق منها روح النص و ذكاؤه و وضوحه.