الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

"مرثـيــة الأبطــال الخارقيـن".. أغنيات عن الأوقات المظلمة

بدايةً، سأستعينُ بكلمة الناشر على ظهر الغلاف، لأضيء عمّا جاء في الكِتاب: «هنا الجزائر! هنا الحي الّذي نمشي بشوارعه! ثمة أصوات وهتافات وتنهدات، تظهر تارةً وأخرى تغيب، كمن يبحثُ عن أغنية في راديو قديم، وما الأغنية إلاّ قصائد الشاعر الجزائري خالد بن صالح في هذا الكتاب، وقد اِتسق فيها كلّ شيء، ولم يعد بالإمكان الاِبتعاد عنها متراً واحداً، وهي تأخذنا رفقة أبطال باتوا خارقين لكثرة ما هم حقيقيون وثوريون، وقد حلّ بالذاكرة عطل رومانسي، بدا أشبه بلقاء امرأة تمشي فوق الماء، وغيوم من أنفاس هذا العالم».

 خالد بن صالح

أي محاولة لكتابة جديدة هي حيرة وقلق دائمان، واستنزاف للذاكرة المنهكة، وعلى نحوٍ ما هنا، يُلفَتُ الاِنتباه إلى أنّ قصائد الكِتاب الإحدى عشرة الطويلة نسبياً مستمدَّة، في جلّها، من حياتي، من تجاربي، ومن ملاحظات ومقاطع تتراكمُ في دفاتر، كتبتها بخط يدي على مدار سنوات، فكلُّ كتابٍ هو مشروع لامتناهي من الشطب والخربشة والحذف. نوعٌ من المونتاج القاسي، توليد مستمرٌّ للأصوات المنسية، وزعزعة لليقين في الكتابة. تبدأ القصائدُ كمسوّدات أكتبها في الغالب بقلم أسود جاف عن كلّ شيء وعن اللاشيء، قبل أن تنتقل إلى صفحة الكتابة لتبدو في فراغها الأبيض المخيف أكثر نقاءً وهشاشةً. منها ما يكتمل في حينهِ ومنها ما يظل معلقاً كثيابٍ متروكة على حبل غسيل تمرُّ عليه فصول ولا تطاله يدي، وهناك ما يجفّ بفعلِ عوامل داخلية لا علاقة لها بالطقسِ وتقلباته.
أستهل مجموعتي الشعرية الخامسة «مرثية الأبطال الخارقين» الصادرة أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر في أونتاريو، بعبارة للروائي والكاتب السوري زياد عبدالله، اقتبستُها من إحدى استراقاته الشّعرية في مجلة
أوكسجين:
حزينٌ كمئذنةٍ أو كمنفضة لا فرق
أنطفئُ خمسَ مرَّات أو إلى ما لا نهاية لا فرق
التكرارُ متاهةُ الحزين.
كجزائري أنطلق من ذاتي، بطموح الوصول إلى ما هو مشترك وإنساني بشكلٍ أساسي، وإن جاء هذه المرّة في صيغةِ مرثيةٍ شعرية لي ولأبطالي الخارقين الذين هم رفاق دربٍ في القراءة والمساءلة والانتماء إلى هذه التراجيديا التي تستحيل في الكثير من الأحيان إلى كوميديا سوداء، فالمأساة تاريخياً تنتهي إلى ملهاة، وما هذا التكرار إلا متاهة للحزين. الحزين الذي هو أنا بالدرجة الأولى، ومن ثمَّ يأتي القارئ الذي يستشف أرواحاً وإشاراتٍ حسّية قد تشبهه، يتقبّلها أو يعارضها، يخلق معها حواراً فنياً وإنسانياً رفيعاً، أو يدخلُ معها في جدالٍ عقيم، الأمر عندي سيّان طالما أن سقف الحرية لا حدّ له، بل طموحي هو تحطيم كل سقف مهما كان بعيداً أو مريحاً.
مجموعة شعرية تبدأ بنشرة الثامنة وتنتهي بالتسكع في أرجاء النشرة ذاتها كبلادٍ لا تعني أحداً غير قاطنيها، كأن الحياة تمرين بين نشرتين لا تخبران شيئاً، بينما تعبرها شوارع ومدن وأجساد محلية الصنع ومقاطع نثرية من مجلات وأغنيات للطبقات الكادحة وثقب في ميكروفون يتسلل منه حلم ليلة صيف، كلها قصاصات أتركها في طريق القارئ ليلتقطها كلافتات تساعده على تجاوز تعرجات الطريق والنهايات المفاجئة.
في «مرثية الأبطال الخارقين» استعادة تاريخية لما يسمّى «فن الشهادة»، لجيلٍ انكسرَ بما لا يمكن إصلاحه، أتكئ فيها على أحداث ومشاهدات ماضية وحاضرة لأعيد بناء ذاكرةٍ فردية وجماعية، تخصّني أولاً، حول الوطن والصدمات النفسية والاضطهاد السياسي والظلم الاجتماعي، وما عاشته الجزائر من تحوّلات قاسية خلال عشرياتٍ متتالية منذ أن وعى ذلك الفتى على مأساته في مطلع التسعينيات. هناك نوع من «التروما» العامّة يجعلها الشعر مرئيةً، مقروءةً، دون محاكمة أو تصفية حسابات. هناك اقتباسات شعرية ومقاطع نثرية وأسماء وأغنيات، تشكّل في حضورها المختلف أسلوبَ كتابةٍ، وطريقة في قول الأشياء دون مواربة أو غموض. خيط رفيعٌ أحرص على متانتهِ يربطها بكل ما هو شعري وقابل للتأويل، قد تكون حمّالة أوجه ووجهُها الوحيد الذي يقابلني في المرآة كل يوم هو وجهي بتجاعيده وندوبه، بعينيه الضيقتين، وابتسامته الخفيفة؛ وروح صاحبهِ الممزّقة التي تطفو في كل نص.

ما الذي يجعل الحرب متلفزة؟ وانهيار القيم الإنسانية عند عتبة الباب؟ والدمار الشامل يطالُ الأحلام الخضراء اليانعة؟ كيف أمست الحرية شتيمةً في وجه العالم؟ والإنسان عدماً يعادُ تدويره؟ أين الحب؟ ولماذا نعجز عن قول الحقيقة؟ أسئلة كثيرة تهجمُ عليَّ أثناء الكتابة، ولا مفرّ منها أمام هذا الكم الهائل من التجارب الإنسانية مما لم تفِهِ الكتابةُ حقه جزائرياً في هذه الحالة، والذي يحتّم على كل كاتبٍ حقيقي أن يكون المترجم القسري لصفحات كثيرة متآكلة من التاريخ؛ بما يربط الحاضر بالماضي والمستقبل.
لا أعتقد أن الشاعر يمكنه التواطؤ مع هذا الصمت المطبق. هناك للاشتغال والكتابة ما لا حد له من المواد والقطع البصرية الصغيرة والملاحظات الطارئة والأخبار العرضية والأحداث المنسية والمناشير والملصقات، والغضب والوعي الثوري والوضع الراهن في عالم غير عادل والجوهر العميق للأشياء وأخيراً
الغناء الذي حين سُئل عنه برتولت بريشت:
هل سيكونُ هناكَ غناءٌ في الأوقاتِ المظلِمَة؟
نعم، سيكونُ هناكَ غناءٌ عن الأوقاتِ المظلِمَة.
مرثيتي هي أغنيةٌ نثرية بلا لحن عن هذه الأوقات، عن هذا الظلام.

أخيراً أهديتُ الكتاب إلى عمٍّي محمد وهناك قصيدة عنه بعنوان «ملاحظاتٌ بقلم Bic أزرق على الحواف»، هو الذي قضى في سنٍّ مبكرة، الحالمُ الثائر كما شَعره وبما لم يكتب من شِعر كان يتمثّله في حياته القصيرة. عمّي الذي كان مدمناً على مطالعة مجلات الكوميكس وتحديداً قصة Blek le Roc وكان أصدقاؤه وأقرباؤه ينادونه ببطل السلسة «بلاك». عمي محمد هو أوّل أبطالي الخارقين.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com