الأمثال الشعبية مدونات اجتماعية و فلسفة الشعوب البسيطة
تعتبر الأمثال الشعبية بمثابة مدوّنات اجتماعية في تصوّرها للمجتمع فهي رسائل شفاهية تترجم سلوك الأفراد والعادات والتقاليد، و فلسفة الشعوب البسيطة والعفوية، وتمثل خلاصة فكر وتجارب و تراكمات في اللاوعي الجمعي، تعبّر عن عمق التجربة الإنسانية، كما أنّها قابلة للانفتاح الفكري والأيديولوجي، ولا تتطلّب ميكانيزمات أدبية معقّدة لأنها لا تخضع لميزان اللغة الفصحى، والعولمة التي شكّلت العالم كقرية واحدة قد تؤدي إلى ضياع الهويات والثقافات، لذا يرى باحثون بأنه من الواجب جمع هذا الموروث الثقافي وتدوينه ودراسته للحفاظ عليه وحمايته في زمن الثقافات السائلة.
إسلام قيدوم
* أستاذة النقد الأدبي بجامعة قسنطينة 1 نعيمة بولكعيبات
خلاصة فكر و تجارب تراكمت في اللاوعي الجمعي
ترى نعيمة بولكعيبات، أستاذة النقد الأدبي الحديث والمعاصر، بكلية الآداب واللغات بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، أنّ الأمثال الشعبية هي فلسفة الشعوب البسيطة والعفوية، ثقافة اليسار حسب مفهوم الناقد والمنظر البريطاني «تيري إنجلتون»، عرفت التهميش لوقت طويل، رغم أنها خطابات ثقافية تعبّر عن آمال الطبقة البسيطة، وتمثل خلاصة فكر وتجارب تراكمت في اللاوعي الجمعي، لتصبح اللّسان المعبّر عن الواقع لطبقات المجتمع المختلفة.
وقالت الأستاذة، إنّ الأمثال بعفويتها تعبّر عن عمق التجربة الإنسانية بكل تنوّعاتها ومستوياتها الثقافية والاجتماعية، انطلقت من أفواه فردية مجهولة لتنتشر عبر المشافهة والتواتر والاستعمال، اتجاه مواضيع مشتركة تمس الذات الإنسانية، وتستخدمها كلما تطلّبتها الحاجات النفسية وحتى الفكرية.
والأمثال الجزائرية حسبها، موروث غير مادي مهم استطاع بعفويته الحفاظ على مقوّمات الأمة وحماية تراثها وهويتها، فهي حكمة طبقات المجتمع التي تشكّلت نتيجة تجربة طويلة ومتوارثة، جمعت بين طياتها آمال المجتمع ومخاوفه في آن، ويمكن من خلالها معرفة المشترك والثابت في تفكير المجتمع، إذ أنّها تتجاوز الذات والجماعة الواحدة لتكون نتاجا تاريخيا اجتماعيا وثقافيا ممتدا.
وتعدّ الأمثال الشعبية اللسان المعبّر عن ثقافة المجتمع بكل فئاته كما أضافت، وقد ساهمت في تكوين العقل الثقافي الجزائري وتشكيل الوعي الباطني، الذي يتحرك من خلاله المجتمع ويعبّر عن عاداته وثقافته وهمومه وانشغالاته، وتميّزت بالتنوّع ومسايرتها لكل أحداثه، بحيث توجد أمثال تجلّت فيها روح المقاومة والجهاد وساندت الثورة التحريرية، فكانت وسيلة شعبية للمقاومة تنشر المبادئ، كما بلورت الفكر الثوري الذي عمل على نشر مفهوم المقاومة والصمود والكبرياء، حيث استخدمت ورغم بساطتها كفعل مقاوم ضد جبروت المحتل، على سبيل المثال «وطني وطني ولا فراش القطني»، وهو مثل يحمل دلالة على حب الوطن قبل التنعّم بالحياة، وكذلك عبارة «أرضك عرضك» وهنا لا يوجد أبلغ من هذا التشبيه في حب الوطن حسب بولكعيبات لأنه بربط حب الولد والجهاد في المخيال الشعبي بحب الوطن والتضحية لأجله.
ولا يمكن للمشافهة وحدها أن تحفظ هذا الموروث الثقافي المهم، فيجب القيام بجمعه وتدوينه ودراسته كما شددت، فالعولمة جعلت من العالم قرية واحدة وهو ما يهدد بضياع الثقافات والهويات، والمجتمع الذي لا يحافظ على تاريخه وثقافته مآله الضياع والسرقة، و حسب الدكتورة بولكعيبات فإن الحفاظ على الموروث أصبح ضرورة ملحّة في زمن الثقافات السائلة التي فقدت صلابتها بمفهوم «زيجمونت باومان»، لأن بإمكانها الانصهار في الثقافات الأخرى جراء ما تتعرّض له من عوامل خارجية، وعليه فالحفاظ على موروثنا المادي وغير المادي تضيف محدثتنا، يساعد على مواجهة هذه العوامل، والمحافظة على صلابة ثقافتنا وهويتنا أزمنة طويلة.
خطابات مؤدلجة منتشرة في المجتمع
ويجب حسبها، الإشارة إلى أنّ الأمثال الشعبية هي خطابات تنشر أيديولوجيات مضمرة وغير معلن عن مصادرها، بل توارثتها الأجيال وتقبلتها على أنها عادات وتقاليد، ولهذا قد نجد ضمنها أيديولوجيات غير صحيحة وغير مقبولة أخلاقيا واجتماعيا، إلا أنّ القبول الاجتماعي دون نقد أو تمحيص والتداول المستمر جعلها من المسلمات، على غرار ما ارتبط برأي المجتمع اتجاه المرأة ، مثل عبارة «لي عندو لبنات عندو لفعات»، «دلل ابنك يغنيك ودلل بنتك تخزيك»، وعليه فدراسة الأمثال الشعبية كما أوضحت، تسهم في معرفة الأنساق المضمرة التي تمرر إلى الوعي الجمعي، لأنها هي خطابات مؤدلجة منتشرة في المجتمع، تغلغلت إليه بفعل عوامل تاريخية وثقافية، ودور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والثقافية هو الحفاظ على هذا الموروث، ليس بتدوينه فقط بل بالدراسة والبحث.
وتقول أستاذة الأدب واللغة، إنّ الأمثال الشعبية نصوص لغوية مكثفة الدلالة ومختصرة العبارات، تتميّز بأسلوب المفارقة والسخرية التي تجلب الدهشة والإعجاب من جهة ونقد الواقع الاجتماعي من ناحية أخرى، وهذه السمة البلاغية الموجزة والمكلفة حسبها، ساعدتها على الانتشار والتداول والحفظ، والملاحظ في الأمثال الشعبية الجزائرية استخدامها للمحسنات اللفظية كالسجع والجناس والطباق وغيرها.
والأكيد على حدّ تعبيرها، أنّ قائل هذه الأمثال الأول، لم يستخدم المحسنات لأجل ذاتها وإنما بغية التأثير على المتلقي وتسهيل عملية التداول، فالجانب الحجاجي فيها يساعد على إثارة الإعجاب بها من ناحية و يقدم الحجج والبراهين على صدقها، وقد تعرّض إلى هذه المسألة الدرس النقدي العربي القديم، بحيث أكّد ابن جني، في كتابه الخصائص أنّ «المثل إذا كان مسجوعا لذّا سامعه فحفظه، فإذا حفظه كان جديرا باستعماله، ولو لم يكن مسجوعا لم تأنس النفس به، ولا أنقت لمستعمله وإذا كان كذلك لم تحفظه»، ولقد أدرك العقل اللغوي السليم في المجتمعات الجزائرية هذه الحقيقة، فأبدع في تشكيل توليفات لغوية مسجوعة ومتناسقة كان لها بالغ الأثر على أذن المتلقي.
وتعدّ الأمثال الشعبية جزءا مهما من الثقافة الشعبية، تعبّر عن هوية الأمم والمجتمعات، وتشترك فيها الأمم التي تحمل الهوية الواحدة والمقوّمات المشتركة، وهو ما يجعل البعض منها عابرا للحدود الجغرافية لأنها تتجاوزها، إذ هي خلاصة تجارب ذات مضمون واحد بطرق لغوية ولهجة مختلفة لمجتمعات عربية، وهي نتاج تجارب وتراكمات تاريخية وشعبية طويلة، عاشتها المجتمعات العربية وعكست مشاعرها وأفكارها وعاداتها، وما كان بينها من تاريخ ومقوّمات مشتركة تقاسمتها هذه الشعوب، على فترات زمنية طويلة وتاريخ ممتد يتجاوز كل الحدود الجغرافية.
* أستاذة الأدب العربي بجامعة خنشلة كريمة حجازي
تعابير مرنة متجددة و صالحة لكل الأزمنة
تَعتبر أستاذة الأدب العربي بجامعة عباس لغرور بخنشلة كريمة حجازي أنّ الأمثال الشعبية عبارة عن أقوال لها مضرب ومورد، فتعريفها يحيل إلى أنّها عبارة شديدة الإيجاز قيلت في موقف معيّن أو حادثة مشهورة وانتشرت بين الناس، فلكل مثل مورد ومناسبة أولى قيل فيها، كما أنّ المضرب هو الحالة التي تشبه المناسبة الأولى، وينطبق عليها المثل.
واستدلت المتحدثة بمثالين، الأول المثل القائل «كأنّ على رؤوسهم الطير»، ومورده أنّ عادة الصيد من الهوايات المحبّبة عند العرب، فهي متعة للأغنياء ومصدر رزق للفقراء، تتطلب الصمت والهدوء لكي لا تشعر الطيور بذلك فتهرب، و تردد العبارة لحالة الجماعة من الناس وهم في صمت وسكون كأنهم صيادون يترقبون الطيور، وكذلك مقولة «عاد بخفي حنين» التي تستخدم للتعبير عن من يرجع من مهمته بالفشل والخيبة، وتعود لاختلاف أعرابي مع صانع أحذية يدعى حنين على ثمن الحذاء، فغضب صانع الأحذية وأراد الكيد له، فأخذ فردة ألقى بها في طريق الأعرابي وألقى بالأخرى بعيدا عنها، واختبأ حتى جاء الأعرابي فوجد الأولى فقال: لو كانت معها الثانية لأخذتهما ثم استمر في طريقه حتى وجد الثانية، فترك الناقة ورجع مسرعا لأخذ الفردة الأولى، فأخذ حنين الناقة وهرب ورجع الأعرابي بخفي حنين. وأضافت الأستاذة، بأن الغاية التعبيرية مرنة و مناسبة لكل الأماكن والأزمنة وذلك فإنّها قابلة للانفتاح الفكري والتغيّر اليديولوجي، لكونها مرنة مرونة لسان الإنسان ولأنها مواكبة للعصر والحياة، كما أنّها وليدة الأحداث الجديدة، إذ أنّ أي حدث يمثل تجربة جديدة قد يترجم في عبارة أو مثل، بالإضافة إلى قابليتها لاستقبال المتغيّر في حياة النّاس، إمّا من ناحية المسايرة والتّطوير لمجموع السلوكيات والتّصرّفات، أو البحث في روح الأصالة في سياق المتعارف والمتداول، لذلك لا تزال الأمثال الشعبية حسبها،متداولة لكونها لصيقة بحياة الشعب، تعبّر عن مواقف وسلوكات مشابهة لما سبق لأجل التعليق أو النّصح والإرشاد.
صمدت بفضل البساطة والتحرر من قيود الصرف
وتعبّر الأمثال الشّعبية عن صورة المجتمع، بما تضمه من تصوّر لواقع الناس، تحمل وتنقل هموم الأفراد ومخاوفهم في جميع التجليات النفسية والاجتماعية والمعيشية والدينية والعملية والاقتصادية والقومية والإنسانية، إذ إنّها جزء لا يتجزّأ من حياة الفرد والمجتمع، كما يمكن اعتبارها مدوّنات اجتماعية، لكونها عبارة عن آليات موثّقة للحدث الاجتماعي، فهي وثائق شفاهية تترجم سلوك الأفراد وعادات وتقاليد المجتمعات، بحيث ترتبط بالسلوك الإنساني وفق مستويات الحياة، بمعنى الجوانب الاجتماعية و الدينية و الاقتصادية و السياسية و الوجودية وغيرها، كما تكشف الحقائق وتحاول علاج بعض المشاكل، وتعمل حتى على ترسيخ مختلف القيم بما فيها العقائدية الدينية.
وتتميّز الأمثال الشّعبية بالبساطة والعفويّة في الإلقاء، وهو سر نجاحها في الصمود رغم مرور السنين، فهي لا تزال تُتداول إلى اليوم، كونها لا تتطلّب ميكانيزمات أدبية معقّدة، أي أنها لا تخضع لميزان اللغة الفصحى، بل تترجم أغلبها باللهجة الدارجة أو اللغة الأم حسب كل منطقة وناحية، فلغة الأمثال كما قالت المتحدثة، هي العامية أو لغة الشعب التي تتخلص من قواعد الإعراب، و هي مفردات بسيطة بساطة الحياة التي يعيشها هؤلاء رغم بلاغة دلالات ألفاظها، كما تقوم أيضا عملية إنتاج هذه الدلالات اللغوية على الخبرة والتّجربة المولّدة للحكمة والبديهة، لذلك تعد جزءا لا يتجزّأ من «الحياة القولية للفرد».
وقد مكّنت الخصائص التي يتمتع بها المثل الشعبي حسب الأستاذة حجازي، من الإيجاز في اللفظ والبساطة في التعبير والبلاغة في المعنى، ليكون المثل سهل التداول بين كافة أفراد المجتمع، فيستنجد به المرء في كل حديث جاد ومفيد لدعم رأيه وإقناع خصومه، باعتباره العرف الذي اتّفق عليه غالبية أفراد المجتمع، حتى أصبح بمثابة الضابط الاجتماعي الذي يوجّه سلوك الشخص مع نفسه ومع الناس في المجتمع، الذي ينتمي إليه ثقافيا.
وقالت، إنّ للأمثال الشعبية أبعادا مختلفة، منها البعد الاجتماعي و الديني و ما يتعلّق بالعقائد، إلى جانب أبعاد تربوية و سياسية، وهذه الأخيرة لا تعني حسبها أدقّ تفاصيلها، لكنّها تناولت وتحدّثت عن شروط سيادة الحكم على سبيل المثال، فضلا عن ارتباطها بالجوانب الاقتصادية والتاريخية فيما يخصّ ماضي الإنسان وكيف كان.
ولا يمكن القول إنّ المجتمع يعيش من غير حدود تضيف المتحدّثة، فهي ضوابط متعارف عليها بما ينص على الحرمات المجتمعية، كما أنّه لكل مجتمع حدوده بالأخص من الناحية الدينية، ومن جانب العرف فضلا عن طبيعة الجنس، والأمثال الشعبية وإن لم تتجاوز تلك الحدود فإنّها تقف عندها بنظرات ثاقبة تفيد الفرد في المجتمع الذي ينتمي إليه.