كيف تناول الأدب العربي الحرب؟ وهل اِستطاع هذا الأدب أن يُقدم الحرب بالمستوى الّذي تكون فيه على أرض الواقع؟. بمعنى آخر هل أرض الرواية كانت أرضًا خصبة لتسرد أو لتقدم فجائع ومآسي الحرب بكلّ مخلفاتها وسياقاتها ونكباتها وخراباتها ودماراتها وبشاعاتها؟، طبعًا هناك الكثير من الأدب أو الروايات التي خاضت/وتخوض في الحروب العربيّة وأحداثها. كما أنّ موضوع الحرب ظلَّ دائمًا موضوعًا مُهمًا ومُلهمًا في تاريخ الأدب العربي، هذا التاريخ الّذي كان يعج بالحروب، لأنّ مناطقه الجغرافية كانت مَحَلَ اِحتلالٍ واغتصاب من طرف الكثير من دول الغرب. لكن هل يمكن حقًا القول أنّ هناك روايات أو أعمال أدبية عربيّة خاضت في حرب فلسطين وأنصفتها أدبيًا وسرديًا. أو قدمتها كما يجب. وما مدى مكانة وحضور الحرب في الأدب العربي، أو ما مدى وجود أدب الحرب في الثّقافة العربيّة؟، وهل -حقًا- كما قال الدكتور فيدوح، تسعى الرواية العربية إلى توثيق التجارب الشنيعة للحروب، بوصفها واحدة من أكبر التجارب التي تُؤثر في النّاس وتُغيّر حياتهم.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
* عبد الحميد بورايو
مَثّلَ أدب الحرب في الثّقافة العربيّة ظاهرة بارزة في مدوّناتها قديمًا وحديثًا
يقول الناقد والأكاديمي، الدكتور عبد الحميد بورايو حول موضوع «الأدب العربي والحرب» الّذي يطرحه «كراس الثقافة» في عدده لهذا الأسبوع،: «مَثّلَ أدب الحرب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ظاهرة بارزة في مدوّناتها قديمًا وحديثًا؛ سواء كان ذلك في الثّقافة الشعبيّة الشفويّة أو في الثّقافة الرسميّة المدوّنة. من أبرز هذه المدوّنات أشعار الفخر في الثّقافة المدوّنة القديمة وأدب الملاحم الشفويّة القديمة التي صوّرت الصدامات التي حصلت بين الأمة العربيّة الإسلاميّة والغُزاة الأجانب، وقد ظلّت هذه الملاحم مُتداولة لوقتٍ قريب في العصر الحديث، مثلما هو الحال بالنسبة لأدب المغازي الإسلاميّة الّذي اِنتشر في الجزائر أثناء الفترة الاِستعماريّة، وكان يُمثّل الشكل الشّعري الّذي يتصدّر الأداء في حلقات المدّاحين في الأسواق الجزائريّة طيلة الفترة المذكورة، وظلّ يُمثل جزءاً من المرويات الشفويّة في هذه الحلقات لعقدين من الزمن بعد تاريخ الاِستقلال».
وقد بيّنت البحوث المُتعلّقة بالأدب الجزائريّ -حسب المُتحدث- أنّ أصول هذا اللون من الأدب الملحميّ يضرب بجذوره في الأدب الأندلسيّ الشعبيّ الّذي عَبَّرَ عن الصراع الدمويّ بين المسلمين والمسيحيّين في شبه الجزيرة الإيبيريّة في القرون الوسطى؛ حمله الرواة المورسكيّون المهاجرون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين إلى شمال إفريقيا.
مُضيفاً في ذات المعطى: «كان لهذا الأدب الملحميّ أثره الواضح في ظهور شِعر المعارك الحربيّة الشعبيّ الجزائريّ إبّان العهدين العثماني والفرنسيّ. عَبَّرَ في العهد العثماني عن مقاومة الاِحتلال الإسباني في موانئ الجزائر (التي مثّلها شِعر سيدي الأخضر بن خلوف)، كما عَبَّرَ عن مقاومة الاِستعمار الفرنسي أثناء ثورات المقاومة؛ مثل ثورة الشيخ بوعمامة في الغرب الجزائري (التي مثلها شِعر محمّد بلخير)، وثورة الزعاطشة والبوازيد في الجنوب الشرقي (التي عَبَّرَ عنها شِعر محمّد بن قيطون)».
بورايو، وفي ذات الشأن، تحدث عن شِعر الصدام الفلسطيني الصهيوني، وهنا، واصل فكرته قائلاً: «شكّلت الحروب التي خاضها العرب من قبل، وما يقوم به الفلسطينيون اليوم ضدّ الاِحتلال الإسرائيليّ أبرز الوقائع التّاريخيّة في التاريخ العربيّ الحديث، وقد رافقها إبداع أدبيّ شكّل بدوره ظاهرة بارزة تصدّرت المشهد الأدبيّ العربيّ».
بورايو، اِكتفى بِمَّا يخص الظاهرة الشّعريّة، وهذا ما جاء في معرض حديثه، وخلاصة مؤداه: «سأكتفي بمّا يخص الظاهرة الشّعرية، مراعاةً للظرف الحالي الّذي يعيشه المجتمع العربيّ وظروف الحرب الظالمة المفروضة على غزّة من طرف الكيان الصهيونيّ وحلفائه من الأمريكان والأوروبيّين الغربيّين، ولو اِرتأينا أن نستشهد ببعض الأمثلة الشِّعريّة التي تحضّ على محاربة الكيان الصهيوني في العقدين الأخيرين من هذه الألفيّة، والتي تُعدّ مُواصلة للأدب الملحمي العربيّ، فسنجد الكثير مِمَّا يمكن أن نستشهد به. من بينها رسالة جامعيّة تُؤرّخ للشِّعر الفلسطيني في غزة والضفة الغربيّة في العقدين الأولين من هذا القرن (الشِّعر الفلسطيني المُقاوم في القرن الواحد والعشرين (2000-2015)، دراسة تحليليّة، رسالة جامعيّة من إعداد الباحثة تهاني سالم أبو صلاح».
* عبد الحفيظ بن جلولي
لا يمكن أن تعكس الرّواية حقيقة الحرب الدائرة على أرض الواقع
يقول الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي: «يجب أن نعترف بأنّ الأدب صنيعة اللّغة، ومهما بلغت اللّغة من البراعة فإنّها لا تستطيع أنّ تنقل الحدث الواقعي، إضافةً إلى أنّ مَهمّة الرّواية ليس نقل الواقع بل التعبير عنه في مستوى اللّغة، ولهذا لا يمكن أن تعكس الرّواية حقيقة الحرب الدائرة على أرض الواقع، ويبدو لي أنّه لهذا السبب نجد روايات الحرب أو معظمها تتحوّل إلى السّينما لأنّ الصّورة أقدر على إتاحة الفرصة للحرب الدائرة بواسطة الكلمة أن تكون وفيّة للحركة بواسطة الشاشة».
مُضيفاً أنّه وفي عموم الرّواية العربية، لا يكون الموضوع الغالب هو الحرب، فهناك مناحي حدثية تتدخل لتصنع المسار السردي في الرّواية كالحب والصّراع والموت والعرس كما هو الحال في رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي.
وفي ذات السياق، واصل قائلاً: «ربّما الرواية الغربية قد برعت في هذا الجانب، وكلّ روايات الحرب العالمية الثانية تُمثل ذلك، ولكن كما أسلفت، السّينما هي التي تنقل الحدث الحربي من برودة اللّغة إلى حرارة الحركة. فالتّصوير في اللّغة يمكن أن ينقل بعض المشاعر والمشاهد التي تعكس المأساة والخراب والدمار، ولكنّها تبقى على المستوى التّخييلي».
صاحب «الهامش والصدى»، يرى أنّ الرّواية -على العموم- التي تقدّم موضوعة الحرب، قد تجعل الإطار هو الحرب، ولكن الحدث قد يتعدّد ويتنوّع ويقدّم اِهتمامات أخرى تقع ضمن حالة الحرب، فعندما مثلاً نذكر غسان كنفاني، مباشرةً يتبادر إلى ذهننا الموضوع الفلسطيني بكلّ مأساته الاِستعمارية، وبالتالي، فإنّ ما يُشكل وعي القراءة أو المُتلقي هو الحرب لكن موضوع الرّواية يتعدّد في مستوياته، كما نجد مثلاً في «رجال حول الشّمس»، الموضوع هو الموت الفلسطيني وضرورة الخروج منه، لكن القارئ يُتابع الحدث داخل الفضاء الفلسطيني المُحتل والمُقاوم.
المُتحدث اِستشهد أيضاً برواية «أعراس آمنة» لإبراهيم نصر الله، وقال بأنّها هي كتابة الواقع الفلسطيني الدائر بين الفرح والحزن، العرس والجنازة، إنّها رواية الموت والشّهادة وكلها مسارات تُحيلُ إلى الحرب لكن في مُتخيّل القارئ الّذي لا يفصل الحدث الفلسطيني عن الثورة.
كما اِعتبر «عائد إلى حيفا»، أيضًا تُحيل إلى موضوعة الوطن والعلاقة معه في إطار العودة إليه، هي عودة إلى «حيفا»، وتدور أحداثها في الطريق إلى «حيفا»، ومن هنا نستطيع -يضيف بن جلولي- أن نقول أنّ الرّواية والحرب موضوعتان لا يجب أن نحصرهما في إطار حركة الحرب، أي يجب بالضرورة إذا قلنا إنّ هذه رواية حربية، فهي تعبّر عن الرصاص والخنادق والجنود وما إلى ذلك، إنّ هذا التصوّر يخرج بالرّواية باِعتبارها ملحمة اللّغة إلى السّينما باِعتبارها مسار الصورة.
وهنا خلص إلى القول: «حتّى السؤال حول قدرة الرّواية العربية على وصف أجواء الحرب في فلسطين، يُعتبر اِبتداء مستعجلاً في حصر الحرب في جانب واحد وهو صورته في مسار السرد، لكن يمكن للرّواية أن تضع الحرب إطاراً للحدث التفصيلي الّذي يُحيلُ إلى الحرب لكن ليس بمنظورات الحركة والتفجير والخنادق والبنادق، ولعل رواية (الحريق) لمحمّد ديب تُؤكدُ هذا المنحى في الرّواية العربية، فهي رواية صراع اِجتماعي داخل حالة الحرب، هي نضال (لالا عيني) في معترك الحرب اليوميّة في مواجهة البُؤس الاِستعماري لكن بتصورات القارئ الّذي يضع الكتابة في سياقها التاريخي».
* منى صريفق
معادلة الحرب في أرض الواقع تتعالىعن أي وصف
أمّا الناقدة والباحثة الدكتورة منى صريفق، فتقول في ذات الشأن: «إنّ الأدب اِنطلاقًا من كونه ذلك الأسلوب الفني الّذي يُعبِّر عن الإنسان وكافة تجلياته الإنسانية في أشكال وتمظهرات مختلفة، اِستطاع أن يمنح نفسه خصوصية تنقل الواقع بكلّ أشكاله ومظاهره، وتتجاوزه كذلك نحو عوالم فانتازية لا يمكن أبداً أن تتطابق أوجهها عند كّل الكُتّاب. وحال نقل الوقائع التي تحدث حقيقةً في الحياة العامة والاِجتماعية والسياسيّة يتناسب وحال الأدب المُتعلق بالحرب، فنجد الكاتب ينبري على نفسه لنقل ووصف الأحداث والإشادة بطرف على حساب طرف آخر ليُمارس في هذه اللحظة تحديداً تجليه الإبداعي المُتعلق بـ(وعيه الكتابي)؛ هذا الوعي الّذي يتشكل لديه من تجربته الخاصة في معايشة الحرب أو من خلال متابعته المستمرة لأطراف الصراع ومدى تغير موازين القِوى بين زمنٍ وآخر، بين طرفٍ وآخر».
كما أنّ عملية نقل الواقع -كما تضيف المتحدثة- قد تتجاوز عملية نقل الوقائع بشكلها اليومي فيختار لها الكاتب تخريجات مختلفة تُعبِر عن الأزمة والحال بشكلٍ أكثر عمقًا –على الرغم من أنّ معادلة الحرب في أرض الواقع تتعالى عن أي وصف يمكن للمبدع أن يُقدمه في كتاباته-.
وبهذا الخصوص تستذكر –المُتحدثة- رواية «قداس الكاردينال» لكاتبها الجزائري سليم بتقة، الّذي حاول من خلالها -حسب رأيها- أن يشتغل بشكلٍ مُوسع ودقيق -وغير قابل للتنازلات أو المزايدات- على أبشع المُمارسات التي كانت تُمارسها فرنسا في حق الجزائريين أثناء فترة اِستعمارها.
ثمَّ أردفت في ذات السياق: «إنّ فكرة نقل مآسي الحرب لم تكن يومًا مهمة إبداعية للكاتب فقط بل كانت معادلة حياة أو موت وجب عليه الخوض فيها ليثبت مؤازرته بالطُرق المشروعة والمُتاحة بين يديه. وهو بالفعل ما حدث عندما حاول الكاتب الفلسطيني الّذي عاش النكبات –ولا يزال يعيشها ليومنا هذا- أن يُعبِرَ عن كلّ ما تفعله الصهيونية بكلّ عنجهية وانعدام للرحمة في سلب الفلسطيني أرضه وهويته. وهذا ما يعني أنّ الكثير من الكُتّاب سواء أكانوا عربًا أم فلسطينيين فقد قاموا بالكتابة عن هذه القضية التي تجاوزت كونها قضية أرض محتلة فقط، بل أصبحت الآن سؤالاً يتعلق بمبادئ الحياة وضرورة تقرير المصير لشعوب تعيش البطش وانعدام الإنسانية في كلّ لحظة».
وأضافت بنوع من الاِستدراك: «لقد كان لحضور تيمة الحرب في الروايات العربية قيمة إنسانية مُضاعفة ومُضافة، ففكرة الكتابة عن الحرب سرديًا هي فكرة تخلد مآسي الإنسان مع أخيه الإنسان، تُركز على فكرة أساسية مفادها أنّ الحرب صراع دموي وحشي من أجل سلطة أكثر وحشيّة. وأنّ فكرة السلام فكرة نبيلة يصعب تحقيقها في الوقت الراهن مع كلّ هذه الكمية من المُعادلات التي تقوم في الأساس على المُزايدات والمنفعة المشروطة بخدمات تبادلية تخدم كلّ الأطراف».
إلاّ أنّه -وكما تؤكد المتحدثة- «وبالرغم من اِقتناعنا أنّ المأساة عصيّة عن النقل حتّى إبداعيًا، إلاّ أنّنا لا ننكر أهمية الروايات التي كتبت عن القضية الفلسطينية ومن أهمها رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) التي حاولت أن تنقل تلك الخسارة الفادحة في هوية الفلسطيني أثناء النكبة، بالإضافة إلى رواية إبراهيم نصر الله (أعراس آمنة) وباقي رواياته التي تُعَدُ مشروعاً ضخماً يُؤرخ وينقل وقائع زمن الحرب التي دارت رحاها في فلسطين في عِدة حِقب. أمّا من الجزائر، فنجد رواية واسيني الأعرج التي عالج من خلالها الحرب والقضية الفلسطينية من خلال تيمة الغربة والحنين في روايته (سوناتا لأشباح القدس)».
وخلصت في الأخير إلى القول: «لقد عاشت الشعوب العربية الويلات إلاّ أنّ ما تعيشه فلسطين اليوم على مرأى من عيوننا يزيد من تجذر عُمق الألم والحزن بداخلنا؛ وما يجعلنا نُؤكد أنّ الكتابات الإبداعية مهما اِستطاعت مقاربة مفهوم الحرب والمأساة والنكبة، لن تستطيع نقل ربع تلك المعاناة التي يعيشها الإنسان بسبب الآخر. إلاّ أنّ هذه البشاعة والوحشية التي نراها اليوم ستجعلنا نقرأ نصوصًا جديدة بكلّ تأكيد، فكلّ هذه الوقائع تحتاج إلى عين تحرسها وتنقلها بطريقة وأسلوب كلّ كاتب على حِدة».
* لونيس بن علي
الحروب كانت دائماً مُصدراً للإلهام الأدبي
يقول الكاتب والناقد الأدبي، الدكتور لونيس بن علي: «سأستعيرُ كلام الناقدة العربية (يُمنى العيد) تتحدثُ فيه عن علاقة الكتابة بالحرب، حيثُ تقول: ((تبدو مشكلة الكتابة في زمن الحرب مشكلة شائكة، لأنّها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المُتخيّل).)).
واِستناداً إلى هذا القول النقدي، يُواصل: «يجبُ الاِنتباه إلى مسألة جوهرية، وهي أنّ الكتابة عن الحرب لابدّ أن تكون رهاناً فنيًا وجماليًا، لا مجرّد رصد تقريري لوقائع وقعت، وإلاّ لا فرق بين رواية وبين تقرير صحفي في جريدة يوميّة. يجبُ التذكير بأنّ الحروب كانت دائماً مُصدراً للإلهام الأدبي، ولعل إلياذة هوميروس تُمثل أكبر نموذج للنص الأدبي الناضج حول الحرب».
وهُنَا أردفَ قائلاً: «الكتابة عن الحرب هي الاِنتباه إلى تلك القصص التي لا تُروى إلاّ نادراً، أو تلك التي تموتُ بموت أصحابها الذين قضوا نحبهم في ساحات المعارك أو في الغارات العمياء على الأبرياء. وهُنَا يتدخل عمل المخيلة في اِستعادة هذه القصص، والأهم من ذلك، إعادة سردها ضمن شكل سردي يجعل القارئ يعيش المأساة. فالغرض ليس أن نكتب عن المطر، بل أنّ نشعر بأنّنا قد تبللنا بهذا المطر».
وتتعدّد أدوار الكتابة عن الحرب، -حسب بن علي-، فمنها ما يكون دعائيًا بالأساس، ومنها ما يكون فضحًا للاِنتهاكات المُمَارسة على البشر، ومنها من جهةٍ أخرى ما يكون رصداً للتجارب الإنسانية الفادحة التي تروي فداحة القتل.
صاحب «تفاحة البربري»، أضاف موضحاً في ذات السياق: «جزائريًا، كانت ثورة التحرير مصدراً لإلهام الكثير من كُتّاب الرواية، سواء أثناء الثورة أو بعد الاِستقلال، بل مازالت وقائع الحرب تتردّد في بعض الروايات المُعاصرة، نذكر منها (كولونيل الزبربر) للحبيب السائح، و(الحركي) لمحمّد بن جبار... ناهيك عن روايات المخضرمين من رواد الرواية عندنا. والمُلاحظ أنّ التوجه اليوم في الكتابة عن حرب التحرير تجاوز الإطار الدعائي الّذي مَيَزَ تياراً من الرواية بُعيدَ الاِستقلال، والتي كانت تُساير الصوت الأيديولوجي الحاكم، وأصبحت أكثر جرأة في طرح أسئلة تُحاول قراءة ما وقع برؤية أكثر نقدية».
أمّا عربيًا، فيقول: «شهدت الرواية العربية المُعاصرة نصوصًا روائية مُهمة كَتَبت عن الحرب سواء التي يكون العدو خارجيًا أو الحرب بين الإخوة في صورة حرب أهلية. يُمكن أن نستحضر رواية (عمّتِ صباحًا أيّتها الحرب) للروائية السورية (مها حسن) والتي كتبت عن الحرب الدائرة في بلدها سوريا والتي فرقت بين الأهل والأصدقاء، حيثُ العدو قد يكون هو جارك. لقد كتبت مها عن قصة عائلة سورية (كردية) شتتها الحرب، فالأم تقضي نحبها تحت القصف، أمّا أبناؤها فهاجروا وتشتت شملهم في بقاع عِدة من العالم».
جاءت الرواية -بحسب بن علي- «لتطرح أسئلة عديدة، لا تتعلق بالحرب فقط، بل بآثارها على السوريين، وبعلاقتها بالكتابة. وزعت الروائية سردها على عدة أصوات: الساردة مها التي هاجرت إلى أوروبا واستقرت بباريس وهي كاتبة روائية قررت كتابة سيرة عائلتها. حُسام أخوها الّذي اِستقر في السويد، بعد أن عاش تجربة سقوط الأوهام التي حملتها رياح الربيع العربي، قبل أن يتحوّل إلى حرب عمياء، يتقاتل فيها الجميع ضدّ الجميع. ثمّ شخصية الأم، التي نعتبرها أهم شخصية في هذه الرواية، والتي عادت إلى الحياة بفضل الكتابة».
كما اِستحضر -بن علي-، رواية (الطابق99) لجنى فوّاز الحسن؛ وشخصية «مجد»، بطل الرواية، فلسطيني مُقيم في أمريكا، بعد أن هاجر مخيمه رفقة والده المُحارب على إثر مجزرة صبرا وشاتيلا التي اِرتكبها الجيش الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين اللاجئين في بيروت عام 1982 بتواطؤ من بعض الكتائب اللبنانية. سيفقد مجد والدته الحامل في هذه المجزرة، وسيُصاب في رجله ووجهه، سيقع مجد في حب هيلدا اللبنانية المسيحية، التي هاجرت هي الأخرى إلى أمريكا لتحقّق حلمها في أن تصير راقصة عروض فنية وعارضة أزياء، كانت هي الأخرى ضحية من ضحايا هذه الحرب، ولكن من جهة الكتائب التي تواطأت مع العدو الإسرائيلي، والتي كانت تكن كراهية خاصة للفلسطينيين. ستضعنا الرواية أمام علاقة جد مُعقدة ومُلغمة في الوقت نفسه بين مجد الفلسطيني وهيلدا اللبنانية المسيحية.
* عبد القادر فيدوح
لم يكن أثر الحروب بمعزل عن الأدب والوعي الثّقافي
يعتقد الأكاديمي والناقد الدكتور عبد القادر فيدوح، أنّ الأدب لم يكن على مر العصور بجميع أجناسه بعيداً عن الواقع في مواقف الحياد، أو عدم مشاركة الكلمة بالنضال، سواء عبر الاِنقياد بالمواجهة، أو الجمع والحشد من جهةٍ أخرى.
مُضيفاً: «ليس من السهل حصر ما ورد على لسان الأدباء والمثقفين الذين تناولوا الحروب بشتّى أنواعها، ومناهضتهم الظُلم الناجم عن الحروب العَسِفَة في حق الشعوب المستضعفة، بخاصة مع الحروب التي تُمَارس فيها أبشع المجازر والتدمير المنهجي والمُتعمد، كليًا أو جزئيًا، فضلاً عن اِنتهاكات القوانين الدولية باِرتكاب جرائم حرب، أو ما يُعرف بعمليات الإبادة الجماعيّة، على نحو ما يقع في فلسطين، وقبلها ما وقع في مجازر 8 ماي1945 باِرتكاب حرب إبادة مُبرمجة ضدّ الشعب الجزائري الأعزل، وغير ذلك كثير من صدمات الحروب التي مازالت محفورة في ذاكرة الشعوب المُناهضة للحروب».
وعلى هدي ذلك، -يُضيف المُتحدث- «لم يكن أثر الحروب بمعزل عن الأدب والوعي الثّقافي، الأمر الّذي من شأنه أن أسهم في سرد أحداث الحروب الشائنة منذ ملحمتي الإلياذة والأوديسا لهوميروس. والأعمال الأدبية في هذا الشأن على مر العصور كثيرة، بخاصة في علاقتهما العميقة في التاريخ الحديث؛ إذ تسعى الرواية إلى توثيق التجارب الشنيعة للحروب، بوصفها واحدة من أكبر التجارب التي تُؤثر في النّاس وتُغيّر حياتهم».
وأردفَ مُواصلاً: «وفي ضوء ذلك يمكن للكُتّاب اِستخدام الرواية لتسليط الضوء على تأثيرات الحروب على الأفراد والمجتمعات والقضايا المُتعلقة بالحرب والسلام، ناهيكَ عمّا تُخلفه من تأثيرات نفسية كبيرة على الأفراد، والحال هذه يمكن للرواية أن تُسلط الضوء على هذه التأثيرات وتُساعد في فهم الصراعات النفسية بالشعور الدرامي الّذي ينجمُ عن الحروب. وإذاَ كانت الرواية –على وجه الخصوص- تستخدم رسم الصور الحية والواقعية لأحداث الحرب، والأماكن والأشخاص المتورطين فيها، فإنّها تُمكِّن المجتمع من التفكير والنقاش حول قضايا الحروب بطُرق مُختلفة، وتُسهم في تعميق الفهم، وتحليل الأسباب والنتائج والعواقب المحتملة».
وفي ذات السياق، أشار إلى أنّه وعلى مر العقود، كَتَبَ العديد من الروائيين عن الحروب الكُبرى، والنزاعات المُسلحة، والصراعات الإقليمية، والنضالات، من خلال رواياتهم التي تُعدُ أدواتٍ مُهمةً لفهم تأثيرات الحروب على الإنسانية والمجتمعات، وتُساعد في توثيق الأحداث، ونقل تجارب الحرب القمعية بشكل غير إنساني. وهنا أضاف مُستشهداً ببعض الأعمال الروائية التي تناولت تيمة الحرب: «هناك العديد من الروائيين العرب الذين تناولوا موضوع الحروب في أعمالهم الروائيّة، بِمَّا في ذلك الحروب العربيّة الإسرائيليّة، والنزاعات الإقليميّة الأخرى. وهذه أمثلة من بعض الروائيين العرب الذين صوروا بشاعة الحرب في أعمالهم: على نحو ما كتبه مصطفى صادق الرافعي: في رواية بعنوان (الجريمة) التي تناولت النكبة الفلسطينية وتأثيرها على الأفراد والمجتمع، وكذلك غسان كنفاني الّذي كَتَبَ رواية (رجال في الشمس)، وهي تروي قصة ثلاثة فلسطينيين يحاولون الهرب عبر الحدود خلال النكبة الفلسطينية. كما أنّ هناك العديد من الروايات العربية التي تتناول حروب 1967 و1973 بين الجيوش العربية وإسرائيل. من مثل (القدس لن تذهب) لغسان كنفاني، والتي تُعتبر واحدة من أهم الأعمال الأدبيّة التي تناولت حرب1967، وهي تروي قصة فلسطينيين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، وتأثير الحرب على حياتهم وهويتهم، وفي المقابل نجد رواية (العائدون) للروائي إبراهيم نصر الله، التي تدور أحداثها حول اللاجئين الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى قُراهم في فلسطين بعد حرب 1967، وكيف اِرتكست حياتهم وأحلامهم. كما كتب يوسف القعيد (الحداد) التي كانت بكائية على أحداث 1967 حيث تناول فيها تأثير حرب 1973 على الضفة الغربية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال سرد حياة شخصيات مختلفة».وتُسلط مثل هذه الأعمال الروائية -حسب الدكتور فيدوح- الضوء على تأثيرات الحروب على الأفراد والمجتمعات في الشرق الأوسط، وتُقدم رؤى أدبية عميقة حول الصراعات والنزاعات التي شهدتها المنطقة حتّى يومنا هذا، بخاصة ما ترتكبه إسرائيل من أعمال وحشية تحت غطاء الدفاع عن النفس.
واختتم قائلاً: «هناك الكثير من الأمثلة لدى الروائيين العرب الذين اِستخدموا الرواية لاِستكشاف القوّة الطاغية، وتوثيق تأثيرات الحروب والصراعات على الأفراد والمُجتمعات. وقد قام هؤلاء الكُتّاب بإنشاء مجموعة أعمال أدبية تُعَزِّزُ فَهْم القضايا السّياسيّة والاِجتماعيّة والإنسانيّة المُرتبطة بالحروب في العالم العربي».