خطيئـــة الدفـــاع عـن قــــاييــن
أيها الفيلسوف؛
تناهى إلى علمنا ما جاء في رسالةٍ وقَّعتَ عليها - إلى جانب ثلةٍ من المفكرين الألمان – بشأن الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزة. وما أثار الانتباه، بل الاستغراب والغضب، هو انحيازك التام إلى إسرائيل معتبراً أنَّ ما يقوم به هذا الكيانُ الاستيطاني من فظاعات في قطاع غزة - ضدَّ المدنيين العزل والأطفال والنساء –ليس إلا دفاعا عن النفس ورداً مشروعا على المسكونين بـجنون «معاداة السامية». وهكذا، ككل مرة، يتمُّ اختزال النزاع الذي يعود إلى عقودٍ طويلة خلت في «معاداة السامية» ورغبة تدمير إسرائيل التي تمثل - في الوعي الغربيِّ بالطبع - الديمقراطية الوحيدة وسط محيط أسود من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية. وهنا نودُّ أن نقول شيئا – على سبيل الرد عليكم – بخصوص الموقف الذي عبَّرتم عنه والذي لا نرى فيه إلا وجها من أوجه التمركز الغربي وهو يرمي في خانة العوالم المنسية شعوبا وثقافات وذاكرة عذابات لا تكاد تنتهي. نودُّ، في كلمةٍ، أن نتذكر معكم قضية علاها الشحوبُ منذ مُدَّة غير قصيرة: نعني بذلك العدالة.
أحمد دلباني
أيها الفيلسوف؛
بداية، علينا أن نقر بأننا لا نملك ذاكرة مُشتركة. وربما هذا ما يجعل مواقفنا تتباين وتختلف. وهذا، أيضا، ما قد يخدشُ ادِّعاءَ الكونية والنزعة الإنسانية التي تمثلونها. كما قد يفضحُ نزوعكم الفلسفيَّ - النقدي منذ شرعتم في نقد العقل الذي ورث «الأنوار» وحاد عن مراميها التحررية النبيلة لكي لا يُنتج إلا الكارثة و تسييج الحياة الإنسانية بالاستبعاد والنبذ. إنَّ كوننا لا نملك ذاكرة مُشتركة أوقعكم في أسر عذاب الضمير وعقدة الذنب والدَّيْن الأبدي تجاه اليهود. ولكنَّ ذلك الأمر لا يمثل فصلا من فصول تاريخنا، نحن العربَ والمسلمين، لأننا لم نكن من مُخرجي ومُهندسي تراجيديا إبادة اليهود كأسلافك، وإنما ضحايا للاستعمار و العسف الذي كتب تاريخ تهجير الفلسطينيين وسرقة أرضهم باسم أساطير «الأرض الموعودة» ومزاعم الإيديولوجية الصهيونية العنصرية. إننا طرواديون أيها الفيلسوف. لا يزال الغزاة يحاصرون وجودنا ويتسللون بيننا ويعيثون فساداً في بيتنا ويسرقون أرضنا ولغتنا وذاكرتنا. فكيف يغيبُ هذا عن مجالكم المرئي؟ كيف تعشى أعينكم عن رؤية المأساة المبرمجة منذ أكثر من سبعين عاما؟هل معاناة اليهود - على أيدي أسلافك في الماضي - تُبيحُ لإسرائيل أن تنتهك كل القيم الإنسانية والأخلاقية وكل القوانين والأعراف الدولية دون إدانة أو لوم؟ هل من المعقول أن تطلق الضحية العنان لنفسها لتتحرَّر من التزامها الأخلاقي والقانوني أبديا؟ هل من المعقول أن يتقمص الجلاد الحالي دور الضحية إلى الدرجة التي يكون فيها قصف المدنيين وسحق الأطفال والنساء بوحشيةٍ وقطع المياه والكهرباء ومحاصرة المشافي ومنع الدواء عن المرضى دفاعا عن النفس؟ هذا ما يجعلنا نعتقدُ أيها الفيلسوف أنكم،بموقفكم المنحاز هذا، تواصلون كتابة عرائض الدفاع عن قايين القاتل مع أنظمة الهيمنة الراعية للجريمة التاريخية حماية لمصالحها. فهل ترضى أن تنحط إلى مرتبة الموظف أو «المُلحق الثقافي / الفلسفي» لدى مؤسَّسة الأطلسي الأمبريالية؟ أين استقلالية الفيلسوف وعذرية كلمته؟ أين التيه الجميل في حُمَّى البحث الأبدي عن قوة المعنى في عالم متلفع بمعنى القوة العمياء؟
نعود إلى قضية العدالة. ستدافعون عن موقفكم المبدئي الذي يرى أنه من النبل والعدالة أن تُحاربَ العنصرية والكراهية، وأن يتمَّ ضمانُ أمن إسرائيل بكافة الوسائل ضدَّ كل من تسول له نفسه تكرار أهوال المحرقة. فمن حق أكثر الشعوب تعرضا للتشرد والاضطهاد في التاريخ أن ينعمَ، أخيراً، بحقه في الأمن والحرية على «أرضه». هذه هي الطبعة الرسمية والمبتذلة للحكاية التي تتبنونها للتعبير عن مواقفكم من كل ما يدور في الشرق الأوسط. وهذا ما يُملي عليكم أيضا صرامة التعبير بكل حزم عن إدانتكم لكل أشكال العنف والإرهاب ضدَّ الآمنين والمدنيين.نتفهم، أيها الفيلسوف، هذا الأمر جيداً. ولكنكم بموقفكم هذا لا تبحثون إلا عن أمن الدولة العبرية على حساب العدالة الحقيقية. وهل يمكن أن يتحقق الأمن دون عدالة؟ نقصدُ بذلك العدالة التي تقتضي ضمان حرية وكرامة الشعب الفلسطيني وصون حقوقه التاريخية المشروعة على أرضه التاريخية السليبة. نقصدُ العدالة التي تقتضي زوال الاحتلال و العسف ونهب الأرض والقتل المجاني والاعتقال والحصار والتجويع والإذلال الذي لا ينتهي. نقصدُ العدالة التي تُعتق المستقبل من اليأس والقنوط وإمكان السقوط في جنون الانتقام الأعمى وهو ما تعيشه المنطقة الملتهبة منذ أسابيع. هل نحتاج إلى تذكيركم، مرة أخرى، بأنَّ الأمن يأتي بعد العدالة؟
إنَّ حركة المقاومة العربية - الفلسطينية كانت حركة تحررية من أجل استعادة الأرض والكرامة السليبة ولم تكن أبداً حركة عنصرية ضد اليهود. أقول هذا، هنا، كي لا يتمَّ تعمد الخلط بين المقاومة المشروعة للاحتلال وما تُسمُّونه «معاداة السامية». لقد ولد النضال العربيُّ المقاوم من رحم المشروع التحديثيِّ العربي يقودُه هاجسُ التحرر من الخارج الأمبريالي من جهة أولى، وبنيات التخلف الموروثة عن مؤسَّسة التاريخ الراكد من جهة أخرى. مشكلتنا، أيها الفيلسوف، ظلت دوما مع الإيديولوجية الصهيونية التي رأت النور في الغرب الحديث إبان ظهور الحركات والنزعات القومية المعروفة ولم تكن مع اليهود بوصفهم عرقا أو جنسا. ونحنُ نفهمُ، جيداً، الأسباب والدواعي التي جعلت الغرب الغارق في أزمة الضمير بعد الحرب الكونية الثانية يفكر في وطن قوميٍّ يجمعُ شتات الناجين من المحرقة بعد فشل حداثة العقل والدولة القومية والمواطنة الحديثة في استيعابهم والإبقاء على خصوصيتهم الثقافية والدينية ضمن الجسم الاجتماعيِّ – الثقافي – السياسي الغربي. نفهم عُنفَ العقل الحديث المُضمَر إزاء مسائل الاختلاف والتعدد والنظر إلى الآخر. نفهمُ كيف أنَّ اليهوديَّ ظل المنبوذ كحيوان أجرب في حظيرة أوروبا المزدهرة والمزهوة بقوتها وحداثتها الظافرة منذ «عصر الأنوار». ولكنني أردتُ التنبيه فقط، أيها الفيلسوف، إلى أنَّ «معاداة السامية» لم تكن نتاجا عربيا ولم تحبل بها حياتنا بالشكل الرَّهيب المُرعب الذي رأيناه في الغرب الحديث وهو يزيحُ الآلهة من المشهد التاريخيِّ ويستعيضُ عن العلو المُضمحل بالقبائل القومية الحديثة وعبادة الذات الجماعية حدَّ الهوس الفاشيِّ المعروف. ولا داعي للتذكير، هنا، أنَّ «شايلوك» لم يكن شخصية درامية عربية؛ كما لم تكن قضية «درايفوس» فضيحة عربية أيضا. والأهم من ذلك كله لم يفكر عربيٌّ واحدٌ في ذلك «الحل النهائي» على شاكلة النازيين إبان الحرب العالمية الثانية. إنَّ العربيَّ، أيها الفيلسوف، هو ذلك الشيخ الذي يحتفظ بمفتاح بيته القديم في المُخيَّم بعد تهجيره قسراً وإرهابا سنة 1948. العربيُّ هو مُحمَّد الدرة الذي لم يجد حماية، وهو الطفل الأعزل، من رصاص جنود الاحتلال الذين أنجزوا ويُنجزون، جيِّداً، مهمَّة تطهير التاريخ من حضور الأرض والإنسان العربيِّ الفلسطيني.
أيها الفيلسوف،
نعلم، جيِّداً، أنك لا تعدمُ وأمثالك حُججا كثيرة للدفاع عن الكيان الصهيوني وعن ديمقراطيته المزعومة وعن حقه في الأمن من خلال نقد «المقاومة» في شكلها المُسلح كما تقودها حركة حماس تحديدا. نعلم أنك لا تجدُ كبيرَ عناءٍ في إدانة «الإرهاب الأصولي» الذي تقودهُ رغبة جنونية في محو إسرائيل وإبادة اليهود. سيكون هذا الأمرُ معينا ثرا يرفدكم دائما بالمُبرِّرات الكافية للدفاع عن إسرائيل مهما اقترفت من فظاعات وجرائم. نعلمُ ذلك. ونحب، هنا، أن نعلنَ أننا لسنا من الذين يُبرِّرون الإرهاب على الآمنين والمدنيين أيا كانت الأهداف. فكل مدنيٍّ أعزل يُقتلُ في العالم هو هيروشيما كاملة التفاصيل والرعب. لسنا من الذين لا يُميِّزون بين اليهود باعتبارهم شعبا كباقي شعوب العالم من جهة، وإسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا عنصريا من جهة أخرى. اليهود هوية ثقافية وتاريخية بينما إسرائيل مُؤسَّسة وكيلة عن الغرب الاستعماريِّ في تلك المنطقة الغنية من الشرق الأوسط. أعتقدُ أنَّ المقاومة العربية، منذ فجرها، لم تكن مُوجهة ضدَّ اليهود كشعب، وإنما ضدَّ كيان سياسيٍّ زرعتهُ صفقة إجرامية منظمة بين الصهيونية وكبار العالم في أرضنا العربية الفلسطينية بعد تفكك السلطنة العثمانية وانحسار الهيمنة التقليدية عن بلداننا التي عانت من الانتداب والاستعمار والاستغلال. لقد دفعنا الثمن، أيها المُثقف، لقاء رضا الإله يهوه ولقائه بشعبه «المُختار» بمباركة من الأمبريالية العالمية وأوروبا المريضة بتأنيب الضمير من جرَّاء تكنولوجيا المحرقة.
لقد كان عليك أن تتساءل قليلا، أيها الفيلسوف، عن الأسباب والدوافع العميقة للمقاومة في شكلها المُسلح الحالي. كان عليك أن تبحث مُتحريا عن جينيالوجيا الجنون الحالي قبل أن تتحدث كصحفي أو كشاهد وقع ضحية لسلطة الإعلام المُوجَّه. كان عليك – قبل أن تلعنَ ثمرة شجرة الزقوم – أن تبحث عن الأرض التي طلعت فيها: أعني الجحيم. فلقد أدَّى غيابُ العدالة عن واقعنا الشامل إلى ما تراه اليوم. فماذا فعلتم، أنتم، من أجل الدفاع عن ضحايا الظلم التاريخيِّ من العرب والمُسلمين؟ لماذا تبنيتم خطاب المُنتصِر والمُؤسَّسة الغربية الرَّسمية مُشيحين بوجوهكم عن عذابات المقهورين؟ لماذا انحزتم إلى إنجازات الآلهة الجديدة وهي تبارك السِّلاحَ والقمع وتؤسسُ لمدنيَّة الغيتوهات الأبدية؟ كيف تريدون الأمن والسلام دون التفكير الجاد في العدالة واسترجاع الشعب الفلسطيني لحقه التاريخيِّ وكرامته السليبة؟ كيف لكم أن تتحدثوا عن السلام العادل والأمن والحقوق الإنسانية وإدانة الإرهاب وأنتم تسكتون عن الاستيطان وتنوبون بفكركم عن مراكز القرار الأمبريالي الذي لا يتورعُ أبداً عن نقض القرارات الأممية القاضية بانسحاب إسرائيل من الأرض العربية المُحتلة؟ لعلكم في هذه اللحظة، أيها الفيلسوف، تمثلون أفول الضمير والعقل وميلادَ حارس نوم الآلهة على الجماجم. لعلكم تمثلون تلك المُسوخ من الخنازير الصغيرة التي ترتعُ في حظائر سيرسه Circé الحديثة: أعني المُؤسَّسة الرسمية الغربية. لقد أردنا منكم أن تتجاوزوا النظر القاصر إلى مُشكلة الشرق الأوسط الأولى باعتبارها، أساسا، قضية حق تاريخيٍّ لشعبٍ يعيشُ مأساة التهجير والاحتلال منذ عشريات خلت، لا باعتبارها حربا بين إسرائيل وحماس، أو بين جيش نظامي وفصائل مسلحة تقصفُ المدنيين الإسرائيليين. علينا النظرُ إلى القضية ضمن منظور «المُدَّة الطويلة» كما يقول بعض المُؤرخين، بعيدًا عن كل نظر قاصر لا يرى فيها إلا مناوشات مُعتادة تتطلبُ تدخلا من «مجلس الأمن» الذي سيطلبُ، كالعادة، من الأطراف المُتنازعة ضبط النفس والتهدئة. ولكن هل يُمكنُ تأجيل ثورة البركان أبديا؟
أيها الفيلسوف؛
لقد حدَّد الكاتبُ الفرنسيُّ ألبير كامو – في خطابه الشهير يوم استلام جائزة نوبل للآداب سنة 1957 –مهام الكاتب والمثقف الحقيقي بالقول إنها تنحصرُ في الدفاع عن ضحايا التاريخ لا صانعيه. ولكننا نلاحظ أنكم، بموقفكم هذا، تنحازون صراحة إلى بعض صانعي تراجيديا العالم مُشيحين بوجوهكم عن ضحاياه الذين تحملوا أوزار حماقات إرادة القوة وفائض رغبة الهيمنة في منطقتنا العربية.
ختاما، نتذكرُ، هنا، صرخة تيودور أدورنو – وهو أحد أسلافك في مدرسة فرانكفورت النقدية – عندما قال إنَّ كتابة الشعر بعد محرقة أوشفيتز تُعدُّ عملا بربريا. أما نحنُ فنقول إنَّ كتابة الشعر بعد محرقة غزة ممكنة جداً إن لم تكن واجبة. إنها عمل ينقشُ هويتنا العصية على الطمس في جدران الكون. فنحن نعتقدُ أنَّ إرادة الحياة ستنتصرُ حتما بعد أن يأخذ الجلادون «حصَّتهم من دمنا» كما يُعبِّرُ محمود درويش. وسنشهدُ، دون أدنى شك، كيف «تقضمُ حشائشُ نيسان القلاع الصليبية بعد رحيل الجنود» كما يُعبِّرُ نفس الشاعر أيضا.