في لحظة الكتابة كان عليّ أن أكتب أسطورتي المحلية التي تمّ إهمالها
* الكثير من الأمكنة التي نقرأ عنها هي وليدة ذاكرة كُتُب لا ذاكرة عين
يُؤكد الكاتب والروائي الخير شوار، بأنّه نشأ في بيئة «أسطوريّة» والكثير من المشاهد الأسطوريّة في كتاباته وعلى وجه الخصوص في روايته «حروف الضباب»، الصادرة منذ أيّام في طبعة ثانية، عن دار متون، تُعتبر في تلك البيئة حقائق واقعية. مُضيفاً أنّه يُعجب من القول أنّ الأساطير إغريقية وآشورية قديمة وأنّ ثقافتنا «لا أسطورية».
حاورته/ نـوّارة لـحـرش
صاحب «ثقوب زرقاء»، أكد من جانب آخر، أنّ التراكم مطلوب في الكتابة وفي كلّ الفنون والعلوم والمعارف، فلا يمكن أن نبدأ من العدم. لكن هذا -حسب رأيه- لا يعني أن نكتفي بترديد النصوص الأولى المُؤَسِسة لأي فن وإلاّ سقطنا في التكرار والببغائية. فالكاتب -كما يرى- مهما كانت قيمته له خصوصيته وبصمته التي لا تكون لغيره وهذا هو الفرق الجوهري بين الكاتب واللا كاتب.
صدرت منذ أيّام روايتك «حروف الضباب» في طبعة ثانية عن دار متون للنشر والترجمة. قبلها صدرت في طبعة أولى مشتركة (2008)، عن منشورات الاِختلاف (الجزائر)، والدار العربية للعلوم (بيروت)، وصدرت في طبعة بدبي. ما رأيك في هذا النشر المتعدّد والمُشترك، وهل تراهُ يخدم العمل أكثر وما الّذي يمكن أن تقوله عن هذه الرواية؟
الخير شوار: أنا سعيد بهذه «النهاية المفتوحة» للرواية التي عاشت معي طويلاً وتسببت لي في آلام نفسية كبيرة، فالنشر المُشترك بين ثلاث من أهم دور النشر في شمال إفريقيا والشام والخليج من شأنه إعطاء المتن الروائي فرصة أكبر للاِنتشار عربيًا وأخذ حقه من الاِهتمام إن كان القارئ يرى ذلك طبعاً. كما أنّ إعادة طبعه في طبعة ثانية بعد هذه السنوات، أمر جيد للعمل في حد ذاته.
وبخصوص الرواية فقد كانت بمثابة الكابوس الّذي لازمني منذ أن ولد بشكل مفاجئ في رأسي في أكتوبر 2000 ولم أتخلص منه إلاّ بعد أن أعدتُ كتابته بشكل نهائي في شهر أوت من سنة 2008، فقد كنتُ أنوي الاِنتهاء منها في بداية الألفية الجديدة غير أنّ الحظ لم يكن معي في الكثير من المناسبات وكأنّ الأقدار حينها كانت تخفي لي شيئًا آخر غير الّذي تصورته، وفي كلّ الحالات أنا الآن أشعر براحة نفسية كبيرة لأنّ أجواء أحداث الرواية لم أتخلص منها طيلة كلّ تلك السنين إلاّ مع إعادة الكتابة النهائية التي بدأتها قبل طبع العمل.
لماذا أعدتَ كتابة العمل؟، هل الكتابة الأولى لم تمتص -مثلاً- هواجسك وخلجات المتن بشكلٍ كاف؟
- لو اِمتص العمل في صيغته الأولى هواجسي وخلجاتي لما أعدتُ كتابته بكلّ ما يسبب ذلك من ألم ويحرك مواجع كنتُ في غنىً عنها.
لستُ من أنصار نظرية المُؤامرة حتّى أرى أنّ الأحكام السلبية على العمل هي من قبيل الغيرة
اُعتبرت الرواية (حين صدرت أوّل مرّة في 2008)، من طرف بعض النقاد أهم عمل روائي في أدب الجيل الجديد. ما رأيك في هذه الإشادة وإلى أي حد تُسعدك مثل هذه الآراء؟
- فعلاً مثلما تفضلتِ بالقول فإنّ البعض اِعتبر «حروف الضباب» أهم الأعمال الروائيّة للجيل الجديد حينها، وكنتُ في البداية أتصوّر هذا الحكم، لكن بالمُقابل هناك من اعتبرها كتابة سيئة ولا تستحق الاِهتمام وقد صدمتُ لهذا الحكم في البداية، لكنّي اِستوعبته بعد ذلك وأصبحتُ على قناعة راسخة بإحدى بديهيات العلاقات الإنسانية التي تقول: «إرضاء النّاس غاية لا تدرك»، ولستُ من أنصار نظرية المُؤامرة حتّى أرى أنّ الأحكام السلبية على العمل هي من قبيل الغيرة، والمُهم في كلّ الحالات أني سعيتُ إلى كتابة نص روائي كما تصورته وأعتقد أني نجحتُ إلى حدٍ بعيد رغم كلّ الظروف التي صاحبت الكتابة في كلّ مراحلها.
هل أنتَ الآن مفرغ من العمل أم في حالة اٍمتلاء به أكثـر رغم ما سببه لك من آلام؟
- حين صدر العمل في ـ2008، وفي طبعته الأولى، شعرتُ براحة نفسيّة كبيرة بعد إعادة الكتابة تلك التي أرهقتني نفسيًا بشكلٍ كبير، ولأوّل مرّة منذ سنين أشعر بهذا، ولا أدري ولم أسأل نفسي إن كنتُ ممتلئًا بالعمل أو مفرغاً منه، والمُهم أني أعطيته بعض الاِهتمام الّذي يستحقه وتخلصتُ منه ربّما إلى الأبد. فإن لم يستطع الدفاع عن نفسه بنفسه بعد الآن فالمشكلة فيه وليست فيّ.
إمّا أن أكتب ذاتي أو لا أكتب ولستُ من الذين يستنسخون تجارب الآخرين ببغائية
الزواوي بطل الرواية اسم شعبي والأحداث في بيئة شعبية مشبعة بكلّ المورثات الشعبية والتراثية، لماذا هذه الأجواء بالتحديد التي تأسرك وتحب التحرك فيها إبداعيًا؟ فعادةً تشتغل على الموروث الشعبي كثيراً، هل هذا راجع للبيئة، للمحيط، لقراءاتك الأولى، لماذا؟ وهل تجد راحتك ونفسيتك في هكذا أجواء؟
- قبل الكتابة قرأتُ الكثير من المتون الروائية شرقًا وغربًا وفي لحظة الكتابة الأولى وجدتني أنا القروي الّذي لم يمكث في المدينة إلاّ زائراً عابراً لا يمكن لي الكتابة عن أشياء لا أعرفها، فإمّا أن أكتب ذاتي أو لا أكتب ولستُ من أولائك الذين يستنسخون تجارب الآخرين ببغائية، فمن هنا جاءت الأجواء شعبية. أمّا عن التراث فإنّ أوّل نص قرأته خارج المُقررات المُملة والمُتخشبة هو «ألف ليلة وليلة»، فلا عجب إن جاء متني الأوّل في هذا السياق، لكني ورغم هذا لستُ أسير ذلك التراث الشعبي فأنا أزعم أني متعدّد ولي الكثير من التجارب المختلفة وما طريقة كتابة نصوص «زمن المكاء» إلاّ دليلاً على ذلك.
نشأتُ في بيئة «أسطورية» والكثير من المشاهد الأسطورية في «حروف الضباب» تعتبر حقائق واقعية
أيضاً تُوظف الأسطورة وأجواءها في متونك الأدبية، هل تصر على هكذا توظيفات أم هي تأتي تلقائيًا وحسب سياقاتها الإبداعية؟
نشأتُ في بيئة «أسطوريّة» والكثير من المشاهد الأسطوريّة في «حروف الضباب» تُعتبر في تلك البيئة حقائق واقعية، وكنتُ أعجب من القول أنّ الأساطير إغريقية وآشورية قديمة وأنّ ثقافتنا «لا أسطورية»، ولئن أخذتُ بقراءة أساطير الشعوب ففي لحظة الكتابة كان عليّ أن أكتب أسطورتي المحلية التي تمّ إهمالها وتكاد تنقرض مع ذهاب الجيل الّذي سبقنا، فمن غير المنطقي ألا نستثمر هذا التراث الكبير ونلجأ إلى اِستيراد أساليب الكتابة مثلما ألفنا اِستيراد كلّ شيء في الحاويات التي تمتلئ بها موانئنا.
الزواوي اِسم واحد يحمله أكثـر من ثلاثة أشخاص في الرواية، فما الّذي تريد قوله من خلال هذه الشخصيات المشتركة في الاِسم، المُتعدّدة والمُتغايرة في الذهنيات والخصوصيات؟
الخير شوار: في طفولتي الأولى كنتُ مسكوناً حد الرعب بمسألة «مصير الإنسان» وأفكر في الطفل الّذي يتحوّل إلى شيخ ثم يصبح «نسيًا منسيًا» وهذا الاِستمرار في الحياة بهذه الطريقة المُفجعة، وفي كلّ المراحل يبقى الإنسان هو الإنسان الّذي مازال يُعاني البؤس وحتّى الجوع في عالم يدّعي التقدم، ومسألة تكرر اِسم الزواوي في ظروف مختلفة هو تأكيد على تكرر المأساة مع أشخاص مختلفين كأنّهم شخصٌ واحد وما ينطبق على «الزواوي» وغربته المختلفة في كلّ عصر ينطبق على «الياقوت» التي كانت امرأة مستسلمة لقدرها المحتوم ثم تحوّلت إلى مكافحة في سبيل حبها لتستحيل طيفًا في النهاية، فهي المأساة التي تتكرر في كلّ عصر وهو الإنسان الواحد في تعدّده.
كنتُ مأخوذاً بشخصية الراوي منذ الطفولة
ينسحب الزواوي في حالة اِختفاء غامضة ليترك مكانه للراوي. فهل الراوي بطل بالنيابة، ثم الراوي في الروايات الحديثة شبه غائب، لأنّها لا تحتاجه ربمّا، أو لأنها اِستغنت عنه. ما رأيك؟
- كنتُ مأخوذاً بشخصية الراوي منذ الطفولة، منذ أن كنتُ أذهب إلى الأسواق الشعبية وأنظم إلى حلقة ذلك الشيخ الّذي يُغني ويعزف ويقوم بأعمال سحرية ويحكي قصص «سيد علي» و»وادي السيسبان» وغيرها، وأمّا عن حضور الراوي كشخصية في الرواية فكان لأسباب سردية بحتة، فقد تدخل في اللحظة المُناسبة وتولى دفة القول بحيادية تصل إلى درجة البرودة في نقل التفاصيل من مكان إلى آخر ومن عصر إلى آخر.
الرواية تُشيرُ إلى الأزمنة أكثـر مِمَّا تُشير إلى الأمكنة، فما الّذي يجمع الأزمنة المُختفلة لشخصيات الرواية بالمكان الواحد؟
- أعتقد أنّ تعدّد الأزمنة كان من تعدّد الأمكنة رغم أنّ محور السرد كان في قرية «عين المعقال»، ومع تعدّد الأمكنة كان التركيز على القرية ضروريًا حتّى تكتمل محنة البطل المُتعدّد الّذي عاش في مكان واحد لكن في أزمنة مُختلفة.
المكان مهما كان يحتاج إلى مُساءلة حتّى يكون العمل الأدبي أصيلاً
كسارد وكاتب ما الّذي يعنيه لك المكان، المكان في الحياة، المكان في الروايات، المكان في الأحلام، في الواقع.. كيف تعيش الحالة المكانية؟
-أنا معجب بمقولة عالم الاِجتماع المصري الراحل جمال حمدان التي صاغها في كتابه الشهير «دراسة في عبقرية المكان»، فالمكان مهما كان يحتاج إلى مُساءلة حتّى يكون العمل الأدبي أصيلاً، وإلاّ أصبح مجرّد ترديد ببغائي لأعمال قرأها، وللأسف فإنّ الكثير من الأمكنة التي نقرأ عنها هي وليدة ذاكرة كُتُب لا ذاكرة عين، ومن هنا وجدتُ من الصعب الكتابة عن مدينة الجزائر العاصمة من الداخل، فإن كتبتُ عنها لن أتمكن من الغوص في تفاصيلها الدفينة وأكتفي بالقراءة الظاهرية على عكس القرية التي أزعم أني أعرف تفاصيلها فهو مكان الكتابة ومكان الحلم وحتّى الكابوس.
الأساليب النمطية في الكتابة السردية علتها الأساسية في الاِنطلاق من النصوص المكتوبة لا من التجارب الشخصية
قلتَ بأنك اِبتعدت عن الأساليب المكررة في كتابة الرواية النمطية. برأيك ما الّذي يجعل رواية ما نمطية وما الّذي يجعلها مُغايرة وبعيدة عن كلّ نمطية؟
- تعجبني مقولة لأحد الشعراء المشهورين مفادها أنّ الّذي يسير في إثر شخص غيره فهو بالضرورة سيصل إلى بيت ذلك الشخص الّذي يقتفي أثره ولن يتمكن من الوصول إلى بيته في كلّ الحالات، والأساليب النمطية في الكتابة السردية وحتّى المحسوبة على الشِّعر علتها الأساسية في الاِنطلاق من النصوص المكتوبة لا من التجارب الشخصية، فمهما كانت تجربة الإنسان صغيرة فلو كتبها بصدق فسيصل حتمًا إلى كتابة نص مُختلف تحترمه مهما اِختلفتَ معه.
التراكم مطلوب في الكتابة وفي كلّ الفنون والعلوم والمعارف فلا يمكن أن نبدأ من العدم
لكن هناك من يقول أنّ النص لا يأتي إلاّ من نص آخر. إلى أي حد ترى هذه المقولة صائبة؟
- طبعًا التراكم مطلوب في الكتابة وفي كلّ الفنون والعلوم والمعارف فلا يمكن أن نبدأ من العدم، لكن هذا لا يعني أنّنا نكتفي بترديد النصوص الأولى المُؤَسِسة لأي فن وإلاّ سقطنا في التكرار والببغائية، فالكاتب مهما كانت قيمته له خصوصيته وبصمته التي لا تكون لغيره وهذا هو الفرق الجوهري بين الكاتب واللا كاتب.
هل يمكن اِعتبار روايتك رواية الحكايات المتشعبة والأصوات المُتعدّدة؟
- لم أكن أقصد ذلك، فقد تعمدتُ الكتابة عن ذاتي، فالاِنطلاق من حادثة اِختفاء الزواوي المعاصر الّذي يشبهني حد التطابق في فترة مراهقتي الأولى كان يمكن أن أكتبها بطريقة ذاتية، لكن الأحداث التي تتابعت بعد ذلك فرضت ذلك النمط الّذي يُشبه طريقة ألف ليلة وليلة بالدوائر الصغيرة التي تُحيلُ في النهاية إلى دائرة كلية كبيرة. وبالمُناسبة، فجدي الأوّل كان يسكن بالضبط في المكان الّذي يحتوي ضريح ومقبرة «سيدي الخير» بمنطقة سطيف قبل أن يتجه قليلاً نحو الجنوب، وجدي الأقرب هو من سمّاني الخير تبركًا باِسمه، فكان يمكن أن يكون اِسم البطل «الخير» لكني اِعتمدت اِسم الزواوي وهو اِسم ولي لا يبعد ضريحه عن ضريح سيدي الخير إلاّ ببضع العشرات من الأمتار، فما تُمسينهُ التشعب وتعدّد الأصوات جاء بشكل تلقائي دون أي تخطيط مُسبق.
الكتابة منحتني شيئًا من التطهر
ماذا أعطتك الرواية/ الكتابة؟
- ماذا أعطتني الكتابة؟.. منحتني شيئًا من التطهر، كنتُ أعيش غربة كبيرة وكنتُ على حافة الجنون (تماماً مثل الزواوي)، لكني الآن أصبحتُ أكثر اِطمئنانًا، لكني مازالتُ أحس بأني لم أقل شيئًا، وما يجب أن أكتبه.. لم أكتبه بعد.
وهل تدفع الكتابة أحيانًا إلى الجنون، وهل هي حقا نوع من التطهر؟
- لا أعتقد أنّ الكتابة تدفع إلى الجنون، فالتطهر هو التخلص من الأسباب التي تؤدي إلى الجنون، فإن جنّ كاتب فأعتقد أنّ الأسباب المؤدية إلى ذلك هي خارج الكتابة.