الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 الموافق لـ 1 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

عن أدب المقاومة في زمن الميديا

اِرتبطت الحروب وقضايا التحرّر في العالم ككلّ، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، بِمّا يُسمى «أدب المقاومة»، فهل -حقاً- يوجد في عالمنا العربي أدب مقاومة حقيقي وفاعل وله صوته وصيته وقوّة تأثيرية؟ وإلى أي حد خدم هذا النوع من الأدب القضايا العربية المصيرية، وعلى وجه التحديد قضية فلسطين «القضية المركزية والجوهرية»؟ ومن جهة أخرى ما الّذي يمكن أن يقدمه أدب المقاومة في عصر الصورة والميديا، للقضايا المصيرية، قضايا التحرّر والعدالة والاِستقلال والأوطان والشعوب.

أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش

أيضاً هل يجب إعادة صياغة مفهوم المُقاومة وخطابها في الكتابة والأدب كما يقول الدكتور عبد الله العشي، بحيث يتناسب مع القضايا الكُبرى التي ينبغي أن يتبناها ويناضل من أجلها الأدباء والكُتّاب.  حول هذا الموضوع «أدب المُقاومة في عصر الميديا»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، وفيه قراءات وآراء متنوعة، مع مجموعة من النُقاد والدكاترة الأكاديميين المختصين في شؤون الأدب والنقد، من مختلف جامعات الوطن، وهي قراءات وآراء تلتقي في معظمها وتتقاطع في كثير من التفاصيل.

* مخلوف عامر
 المقاومة لدى الشعوب اِتخذت أشكالاً مختلفة من الثقافة والأدب
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور مخلوف عامر: «لا يمكن لعاقل أنْ يُنكر علاقة الأدب بالمُجتمع وتأثيره في الحياة. فتاريخ الأدب العربي يُحدِّثنا عن اِرتباط الشاعر بقبيلته حدّ الذوبان فهو الناطق باِسمها والمُنافح عنها، ومع هذا وفي صدر الإسلام وُجد من ينظر إلى الشِّعر بعيْن الدونية والاِستخفاف فوُصف بأنه رغاءٌ كرغاء البعير. إلاّ أنّ الدعوة الإسلامية لم تستغْنِ عن دوره وأصبح اِسم (حسان بن ثابت) مقروناً بالدعوة. ثمّ لمّا جاء العصر الأموي وتعدّدت الفِرق كان للبلاط شعراؤه كما للشيعة والخوارج وغيرهم والشواهد كثيرة في كلّ عصر ولا تخصّ أمة دون سواها».
وفي ذات السياق أضاف قائلاً: «الموجات الاِستعمارية بدورها لم تكن محصورة في الجيوش المسلَّحة، بل كانت دوماً مصحوبة بجيوش من المثقفين فاتخذت المقاومة لدى الشعوب أشكالاً مختلفة من الثقافة والأدب. ففي الجزائر كان النّاس يتحلَّقون حول المداح وهو يستحضر في حكاياته نماذج من البطولات لتُحتذى».
فالأشكال الأدبيّة -كما يقول- تحضر سنداً للمُقاومة، منها أشكال ذات نبرة مُباشرة قد تُمهِّد وتُواكب كما هي حال الخُطب والمقالات والمسرحيات، وأخرى تستوجب فترة من الاِختمار كالرواية. لكنّها دائماً تؤدي وظيفتها المميَّزة. ففي أوج الثورة الجزائرية -يضيف- «كان ضرورياً وجود أمثال: (رضا حوحو ومفدي زكرياء) والذين كتبوا بالفرنسيّة أيْضاً. من هنا ظهرت مؤلَّفات عن الاِغتيالات وأدب السجون وغيرها مِمَا يُؤرِّخ لدور الكلمة النافذ كالسيف أو الرصاصة وقد لخَصها النازي (جوزيف غوبلز) بقوله: (كلما سمعتُ كلمة ثقافة تحسَّستُ مُسدَّسي)».
قد يعلو هدير الرصاص -حسب ذات المُتحدث- على الكلمة فيكون الواقع –حينئذ- أقوى من المُتخيَّل. فالمشاهد المروِّعة والإبادة الجماعية التي يُمارسها الصهاينة ضد الأبرياء أطفالاً ونساءً وشيوخاً، من شأنها أن تُؤجِّل الكتابة الأدبية ويتراجع الإقبال عليها وإنْ وُجدت، لأنّ الإعلام المُباشر هو الّذي يحتلّ الصدارة ولو أنّ الحقيقة الوحيدة التي تغيب في الحرب هي الحقيقة ذاتُها.
صاحب «ألوانٌ من الحكي»، أضاف مستدركاً: «لكن فلسطين أرضٌ ولود. وقد أنجبت خيرة الكُتَّاب والفنانين ومنهم من شكَّلوا خطورة على العدو فلم يجد طريقاً للتخلُّص منهم إلاّ بالاِغتيالات كما حدث مع (غسّان كنفاني وناجي العلي) وغيرهما من الشهداء. ولم يكتفِ (محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة) بالحفاظ على بريق الثورة حاضراً في وجدان النّاس، بل أعطوا الشِّعر بُعداً فنّياً مُمتعاً يلحُ على ضرورة المُقاومة والتمسّك بالأرض والقيم الإنسانية معاً».
وفي الأخير خلص إلى القول: «منذ ذلك الوقت ظلّ الأديب العربي مشدوداً إلى الجرح الفلسطيني مهموماً به. فقد يشرّح الواقع العربي من خلال المتخيَّل كما في (مُدن المِلح) لـعبد الرحمن منيف أو (العربي الأخير) لـواسيني الأعرج، وأحياناً ينتفض الشاعر ساخطاً غاضبًا مثل: (مظفّر النواب) أو يرى أنّ عروبة اليوم لا تُشبه عروبة الأمس، كما يقول البردوني. في كلّ الأحوال، ليست وظيفة الأدب أن يرسم خطة لمصير قضية ما، وإنّما يكفيه أن يكون شاهداً مُؤرِّخاً بطريقته، يشحذ الوعي ويزرع الأمل».

* عابد لزرق
 صفة المقاومة لصيقة بالوعي الجمعي للشعوب
أمّا الناقد والأكاديمي عابد لزرق، فيرى أنّ الحديث عمّا يُطلق عليه بأدب المقاومة، بوصفه نوعاً من أنواع الأدب السياسي المُلتزم، يقودنا إلى الحديث حول إشكالية وظيفة الأدب ووظيفة الفنّ عمومًا، أهي نفعية أم إبداعية محضة، ومدى مقدار حضور صفة الاِلتزام في كليهما، سواء كان هذا الأدب قصيدة أو قصة أو رواية، أو أدبًا شعبيًا، أو فنّا بمختلف أشكاله. فلطالما رافق الأدب والفن أحداثًا تاريخية سياسية بارزة (حروبًا، وثورات، ونكبات...إلخ)، والمنتصرون لفكرة الأدب المُلتزم والفنّ للمُنفعة على حساب فكرة الفنّ للمتعة يرون الأدب غير المُلتزم ترفًا فكريًا لا فائدة اِجتماعيّة منه ولا إنسانيّة.
وهنا أشار إلى أنّه وعلى مستوى الخطاب يكون الحضور في أدب المقاومة للجمع على حساب الفرد، وينصهر هذا المفرد في بوتقة الجماعة، لأنّ صفة المقاومة لصيقة بالوعي الجمعي للشعوب، ويكون اِستحضار الرمز المُقاوم في عُمقه اِستحضاراً لفكرة الجماعة المُقاومة التي ينتمي إليها ويُدافع عن قضاياها.
أمّا على مستوى القيمة، فهذا الأدب -حسب المُتحدث- يُعلي من قيم الإنسانيّة على حساب باقي القيم، إذ يتجاوز أدب المُقاومة الحيز الجغرافي الّذي نشأ فيه أو الّذي كُتِب عنه ليُخاطب الذات الإنسانيّة عامة طالما كانت قضاياه عادلة تدفع المُتلقين إلى التماهي معها على اِختلاف توجهاتهم واختلافاتهم العرقية والسياسيّة والدينيّة.
وقد رافق الأدب بشِعره ونثره -كما يُضيف- ثورات مختلفة من العالم، ولعل حضور الشِّعر في التغني بأمجاد وبطولات ثورتنا التحريرية الكُبرى أمرٌ يعلمُه الجميع، دون نسيان مرافقة الرواية المكتوبة بالفرنسية، والتي لها السبق الزمني مقارنةً بالرواية المكتوبة بالعربية، لهذه الثورة واستلهامها من موضوعاتها وأحداثها.
وفي ذات المعطى، واصل فيما يشبه التأكيد: «إنّ قيمة أدب المُقاومة من قيمة الموضوعات والقضايا التي يطرحها، إذا كان سلاح المُناضل هو البندقية فسلاح الكاتب هو القلم الّذي ينظم به قصائده ويُدوّن نصوصه، يصدح به ليُحاكي بطولات المناضلين ويُوثقها توثيقًا فنيًا مُختلفًا عن توثيق المؤرخ، ذلك أنّ الأدب يضفي من الجماليات التعبيرية والطاقات الأسلوبية والمعجمية ما ينهض بالهِمم ويُخاطب العواطف والمشاعر ويُؤثر فيها».
وعليه فالحديث -كما يقول- عن حضور أدب المقاومة في العالم العربي أمر مشروع ومنطقي، فقد كان الوطن العربي مسرحًا لاِمتداد الاِستعمار الغربي في المنطقة، وكان الأدب دومًا حاضراً في فضح الكولونيالة الغربية وتأليب الشعوب على مستعمريها قصد الثورة عليهم ومقاومتهم.
أمّا عن حضور أدب المقاومة الفلسطينية في الكتابات العربية فقد كان ولا يزال –حسب ذات المتحدث- حضوراً بارزاً وطاغيا، إذ هي أم القضايا العادلة في هذا العالم، حيث شكلت القضية الفلسطينية تيمة مركزية دائمة الحضور في الشِّعر العربي الحديث والمعاصر، فمن النادر أن نجد شاعراً عربيًا كبيراً لم يكتب أبداً عن فلسطين وعن آلام الشعب الفلسطيني، وعن آماله ونكبته، وعن حُلم العودة وتحرير الأرض.
واختتم قائلاً: «عشرات الأسماء الأدبيّة من داخل فلسطين أمثال غسان الكنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم ومريد البرغوثي وإميل حبيبي وإبراهيم نصر الله... وآخرين، وأخرى من خارجها بشكلٍ لا يمكن حصره، كَتَبت عن هذه الموضوعات، فالمقاومة حدث إنساني يمنح للأدب موضوعاته، والأدب بدوره يسلط الضوء على هذه الموضوعات ويصوغها في قالب إبداعيّ فنيّ جميل وبخطاب إنسانيّ مُؤثر».

* وليد خالدي
 مدلول المقاومة داخل الشأن الثقافي العربي يُشكل حضوراً لافتًا
في حين، يقول الباحث والناقد الأكاديمي وليد خالدي: «مِمّا لا شك فيه، أنّ المُتتبع لمدلول المقاومة عبر السيرورة التّاريخية داخل الشأن الثقافي العربي؛ يجده يُشكل حضوراً لافتًا للنظر من خلال نصرة القضايا المصيرية المُتعلقة بالأمة العربية منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا، وهو مدلول -بالدرجة الأولى- يحمل في أحشائه ردة فِعل طافحة بكلّ معاني الرفض وعدم الرضا والقبول عن الأوضاع السائدة، والتي تُشكل في جوهرانيتها تهديداً أنطولوجيًا للكينونة. ومن الأهمية بمكان الإشارة، ها هنا، إلى أنّ هذه النصرة في أدبيات الخطاب العربي الإبداعي، تأتي في سياق مُسايرة ومُواكبة الأحداث على اِختلافها؛ مُتسلحةً بأدوات فنية نضالية ووسائل تعبيرية منتفضة».
وعلى هذا النحو، فإنّ هذه الصياغة الفنيّة والجماليّة -يُضيف المُتحدث- تشي بنبرة ثورية صارخة، بحيث تعكس ملامح المقاومة ومظاهر الصراع مع الآخر، وبالتالي، فإنّ هذا المسار الّذي تُنيره مصابيح اللّغة وقوّة الكلمة؛ يرمي في مشاريعه المُتطلعة إلى تعميق معاني الحرية وترسيخ مدلولات الهوية وتعزيز بوصلة الاِنتماء، والمحطة الفاصلة، تبرز بجلاء، من خلال التخلص من كلّ أشكال العبودية والاِستلاب والقهر والاِحتلال. ما يعني بصورة واضحة أنّ الحرب بمفهومها الواسع ضمن السياق الثقافي (تُشكلُ مصدراً للكتابة وموضوعًا للتأمل والاِعتبار، بقدر ما هي مُمارسة للعنف في حده الأقصى، أي حتى الموت الّذي هو حال من الأحوال القصوى للوضع البشري) بتعبير الكاتب والمفكر اللبناني علي حرب.
وهنا أضافَ مُؤكداً: «تعد (القضية الفلسطينية) في وقتنا الراهن من بين القضايا الرئيسة التي يعيشها العالم الإسلامي والعربي على حدٍ سواء، والحالة هذه، لا تتوقف عند عتبات الحروب والثورات المُشتعلة، بل تشمل حتّى المجالات السياسيّة والاِجتماعيّة والاِقتصاديّة والثّقافيّة والدينيّة، وبصورة ملموسة، هذا ما نستشفه تبعًا للكتابات التي ملأت الساحة الثّقافيّة على مستوى التجنيس أو اللون الفني، ويتعلق الأمر، بأدباء وكُتّاب وشُعراء المُقاومة الفلسطينية داخل الرقعة الجغرافية في عالمنا العربي. وبمفارقة تقول: ما لم يتمّ تحقيقه بالقوّة والمواجهة المادية من المُمكن تجسيده وتحقيقه بسلاح اللّغة وقوّة الكلمة المُقاومة في ساحة الحدث».
والشيء اللافت للنظر، -حسب الدكتور خالدي- أنّ مصطلح (أدب المُقاومة) في إطار المشهديّة العربيّة الإبداعيّة المُعاصرة، أدخلنا في حقل الأدب ضمن معادلات جديدة من حيث تناول ومعالجة موضوعة القضية الفلسطينية. والأمر ندرك أهميته القصوى من خلال اِستحضار (قصيدة الهايكو) بمظهرها التعبيري الحالي، والتي ما فتئت هي الأخرى تُؤكد عالميّتها في معالجة القضايا الإنسانية المتنوعة.
وهنا أضاف مُوضحاً: «نرصد رهانات هذا اللون الإبداعي من خلال التفاعل الدينامي الّذي يقف جنبًا إلى جنب مع القضيّة المركزيّة أو القضيّة الأم أو القضيّة الفلسطينية حسب تعدّد المُسميات، لهذا، فالشاعر العربي الهايكست بولوجه عوالم التجريب والمغامرة الفنية، يقف اليوم تحت مظلة (أدب المقاومة) مُتناولاً القضيّة الفلسطينيّة من زاوية إبداعيّة مُختلفة، كجنس شِعري حداثي ينضم إلى قائمة الأجناس الشِّعريّة المعروفة، خاصةً أنّ التجربة الإنسانية في اللحظة الراهنة، تعيش على مستوى الحقول الفنيّة اِنفتاحًا غير مسبوق، بمعنى، أنّ فواصل الثقافة الجغرافية اِنمحت فيها المسافة، لصالح الفضاء الحضاري المُشترك».

* محمّد الأمين لعلاونة
 ما يُسمى أدب المُقاومة يمثل سيرورة تُؤسس السياسة وتدفعها إلى الثورة
يقول من جهته الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين لعلاونة،: «إنّ الحديث عن أدب المقاومة وتعريفه بأنّه الأدب الّذي يُكتب وقت الحروب أو أثناء الصراعات؛ فالتسمية والتعريف الاِصطلاحي أعتبرهما خاطئين من وجهتين؛ أوّلاً الأدب الّذي يُكتب أثناء الحروب والصراعات يمكن أن نُسميه أدبًا اِستعجاليًا يُعايش اللحظة الراهنة فقط ثمّ يختفي بعد ذلك دون أن يترك أثراً بالإيجاب أو السلب في الكتابات اللاحقة له، أمّا الوجه الثاني فيكمن في ربط الأدب الّذي يُكتب مُسايرةً لأوضاع حربية معينة كالحرب بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني أيّامنا هذه فله عِدة أوجه من بينها الاِستعجال؛ والاِلتزام؛ والشو الإعلامي في جانبه السلبي».
وفي ذات السياق، واصل مُوضحاً فكرته: «ذلك أنّ ما يُسمى أدب المُقاومة في حقيقة الأمر وكما أتمثله، هو أدب يمثل سيرورة تُؤسس السياسة وتدفعها إلى ما نسميه الثورة أو الكفاح أو الدفاع عن ثوابت الأمة، فالأدب إرهاصٌ للتحرّر، وهذا ما نجده مثلاً في ثورتنا التحريرية المُباركة التي سبقتها عديد الكتابات -الآراء والمقالات- التي خمرت فكرة الكفاح المُسلح كنتيجة لسنوات طوال من نشر الوعي والذود عن مقدسات الأمة وثوابتها».
لذلكَ الحديث اليوم عن أدب للمقاومة -كما يُضيف- «أصبح حديثًا عن أمور من سقط المتاع، فحتّى فِكرة الاِلتزام لم تعد كما عهدناها سابقًا، بل أصبح الاِلتزام رهينًا بالإيديولوجيا، إذا ليس كلّ من يكتب مناصرة لقضايا أمته أديب ملتزم، ذلك أنّ اِلتزامه ذاك قد يضمر عديد الضديات الأيديولوجية كفكرة التعايش السلمي وقبول الآخر وغيرها من التيمات التي أصبحنا نراها فيما يُسمى أدب القضية أو أدب المقاومة». معتبراً الكتابة عن فلسطين مثلاً وما تُعانيه أصبحت موضة بين الروائيين؛ هناك من يتخذها وسيلة للاِرتماء في أحضان لوبيات الدفع الغربية خاصةً حين يتحدث عن إسرائيل/ تطبيع أدبي أو يتحدث عن إنسانية الآخر اليهودي وهناك من يجعلها غاية في حد ذاتها وهذا الأدب يمتاز بسيرورته التي لا تعرف الاِنقطاع ولا تنتظر الحروب لتظهر».
وكنهاية لكلّ ما يريد قوله، خلص إلى أنّه: يجب على الأديب أن يحفز السياسي المُقاوم ويجب على المُقاوم أن يرسم في معركته الطوباوية الوجودية التي يسعى الأديب للوصول إليها عن طريق التضحية لأجل تحقيق الحرية.

* عبد الله العشي
 يُقاوم الأدب مُستعينًا بِمَا جاوره من أنشطة إنسانية
يقول الشاعر والناقد الدكتور عبد الله العشي: «نشأ الأدب العربي الحديث في سياق تاريخي مُرتبط أساساً بمسألة الذات والتاريخ، وكان الاِنشغال المركزي فيه يتعلق بمسائل الهوية ومُواجهة التخلف والاِستعمار بأنواعه، حتّى أنّه ليمكن تعريف الحداثة العربيّة الأولى بأنّها حداثة مُقاومة، وما النهضة العربيّة في القرن التاسع عشر وما بعده إلاّ شكلٌ من أشكال المُقاومة وتجديد الذات، وقد تناغم الخطاب الأدبي مع تاريخه تناغماً كبيراً، فجسد تحوّلاته ورسم طموحاته وتماهى مع مشاريعه».
ثمّ أردف في ذات المعطى: «كان الأدب حالة اِجتماعية وفكرية وسياسية مع تنوع أشكاله واختلاف مدارسه وتشعب حقوله، كان فِعلاً مُنخرطاً في النشاط الإنساني والاِجتماعي العام، ومُرافقاً للأفكار الكُبرى في العالم العربي، الإسلامية والقومية واليسارية والوطنية، وازداد اِرتباطاً واتساقاً معها بظهور بعض النظريات الأدبية الجديدة في الماركسية والوجودية والواقعية. كان للأدب حينها صوته وكان للأديب تأثيره، فالمُقاومة كلٌ لا يتجزأ، مقاومة في الأدب ومن خلاله ومقاومة خارج الأدب أيضًا، في الفكر والمعرفة».
كما يرى من زاوية أخرى، أنّ الأدب يُقاوم مُستعينًا بِمَا جاوره من أنشطة إنسانية، فالمُقاومة حالة شاملة، وحالة قبلية، وما المقاومة في الأدب إلاّ صيغة أدبية لهذا المفهوم القبلي الشامل. هكذا رافق الخطاب الأدبي تاريخه. الأدب، في النهاية، محصلة واقع، وصيرورته مرتبطة بتاريخه، ففي حالات المجد الحضاري يصبح الأدب ملحمة، وفي حالات الاِنحدار لا يعدو أن يكون مجرّد نصوص هشة مُترهلة.
وهنا أضافَ مُؤكداً: «كان ينبغي أن تستمر المُقاومة، وعيًا وخطاباً ومُمارسة، غير أنّ رومانسية الاِستقلالات المحلية الشكلية خلقت كثيراً من الأوهام، فلم تُواصل المقاومة لتحرير العقل والتاريخ والثقافة. بل ربّما اِنخرط البعض في اِستعمار جديد دونما وعي، إنّ (الحداثة)، كما وصلتنا وكما تمّ تأويلها عربيًا بفروعها وتنوعاتها، وسعت المسافة بين الكاتب ومجتمعه، وفصلته عن قضاياه الكُبرى فحشرته في أشباه القضايا أو القضايا المزيفة، وفككت العلاقة التّاريخية والضرورية بين الأدب والإنسان والحياة، وأعادت النظر في هوية الخطاب الأدبي ووظيفته وبنيته، فجردته من حمولته الفكرية والاِجتماعية وراهنت على شكلانية مجرّدة مُتعالية محصورة في لعبة لغوية ومنطقية سريالية، وعمّمت الشك والنسيان والنسبي والعابر والمُؤجل والهامش، وبنت منها بيئة بديلة مفروضة حيثُ لا يمكن للمُقاومة أن تولد أو تعيش».
لأنّ المُقاومة -حسب رأيه دائماً- «مرتبطة بالحقيقة، والحقيقة قد تمّ إدراجها ضمن بيئة الهامش والمُمكن والنسيان، وبالتالي حيدت مفهوم المقاومة، نصاً وفعلاً، بفعل هذا السيل من الأفكار الجديدة البديلة التي سوقتها العولمة والتفكيك والسيولة وما بعد الحداثة، إنّ ما صوب إلى المقاومة وإلى أشباهها من المفاهيم الإنسانية من تتفيه وتسخيف واستهجان واسترذال، بل وتوصيف بالإرهاب، صيرها حالة مستكرهة خجولة معزولة، وهكذا يتم إسقاط كلّ ما هو إنساني في حياتنا المعاصرة، ومن ثم إسقاط منظومة متكاملة من القيم الإنسانية، في الأدب وخارج الأدب، فحين تعم (التفاهة) يسقط كلّ شيء جميل».
بعدها أردف متسائلاً: «في هذه الحالة التّاريخية التي نعيشها، هل يمكننا أن نستعيد أدب المقاومة وما جاوره من مفاهيم كالقيمة والمعنى والحقيقة والوضوح؟ ينبغي أوّلاً أن نستعيد معنى المقاومة، وحالة المقاومة، بمعنى أعمق لابدّ من أن يستعيد الإنسان (رفرفة الحياة من جديد) في ذاته وفي الحياة من حوله. لا بدّ أن يُعيد صياغة مفهوم المقاومة وخطابها بحيثُ يتناسب مع القضايا الكُبرى التي ينبغي أن يتبناها ويناضل من أجلها».
واختتم بقوله: «خطاب المُقاومة كما صاغته الأدبيات الماركسية والقومية في القرن العشرين لا يبدو اليوم مُنسجمًا مع إكراهات الحاضر، فالعالم يتغير، وتُعاد صياغته كلّ حين، حتّى أصبح عالمًا مُعقداً غامضاً، يحتاج إلى متابعة دائمة لتحوّلاته وإلى معرفة بحقيقة الأنظمة المُضمرة التي توجهه. وعليه فإنّ أسئلتنا الكُبرى اليوم ليست هي أسئلتنا قبل قرن مثلاً، هذه حالة صعبة ومُركبة، لكن المُشكل هل نعرف فعلاً مشكلاتنا، وهل نملك فعلاً إمكانية تحديدها، بل هل نملك حقاً إرادة ذلك، فمن لا يملك ذاته لا يملك إمكانية تحديد مشكلاته، فالتيه الّذي نحن فيه يصعب علينا تحديد أسئلتنا».

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com