لا زال الحديث مُبكراً عن سقف التلقي العربي للدراسات الثّقافيّة
يعتقد الناقد والكاتب قلولي بن ساعد، أنّه من الطبيعي أن يكون النقد الّذي تُمارسه الدراسات الثّقافيّة هو نوع من النقد الثّقافي، ونظراً لأنّ حقل الدراسات الثّقافيّة أوسع من النقد الثقافي فإنّ الدراسات الثّقافيّة مهمتها تتجاوز النقد الثّقافي المكرس لدراسة النصوص الإبداعية والكشف عن الأنساق الثّقافيّة المهيمنة فيها لتطال حقولاً ثقافيّة أخرى كالخطاب الإعلامي والخطاب التاريخي والخطاب الديني والخطاب السياسي وغيرها.
حوار/ نـوّارة لـحـرش
كما تطرق في حديثه للنصر عن بعض التقاطعات والقواسم المُشتركة بينهما (أي بين الدراسات الثّقافية والنقد الثّقافي). إلى جانب مسألة أخرى تتعلق بالنص الإبداعي العربي، الّذي يرى أنّه -لا زال- بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثّقافي، وأنّ هذا الأخير يعمل للإعلاء من شأن نصوص الهامش أو النصوص الغير مؤسساتية للكشف عن القيم الفنية التي تحملها أو تُبشر بها.
قلولي بن ساعد، كاتب وناقد جزائري له مساهماته واشتغالاته وأبحاثه المهمة في حقل النقد الأدبي والثّقافي. كما له مجموعة من الإصدارات النقدية والقصصية. ففي النقد على سبيل المثال: "مقالات في حداثة النص الجزائري" منشورات اِتحاد الكُتّاب الجزائريين، 2005. "اِستراتيجيات القراءة/المتخيّل، الهويّة والاِختلاف في الإبداع والنقد" منشورات دار الهدى، 2012. "أسئلة النص وأسئلة الثقافة: القراءة النصيّة والقراءة الثقافيّة" عن منشورات الوطن اليوم 2020. وفي القصة: "سلطانة والعاصفة" منشورات أرتستيك 2009، و"صدر الحكاية" منشورات دار الكلمة 2016.
من المعروف أنّ الدّراسات الثّقافية تختلف عن التخصصات الأخرى كالأنثروبولوجيا الثّقافية مثلاً، لكنّها تحيط بهذا المجال وتُساهم فيه بشكلٍ لافت. ما رأيك؟
- قلولي بن ساعد: بالفعل حقل الدراسات الثّقافية يختلف عن التخصصات الأخرى كالأنثروبولوجيا الثّقافية، لكن في ظل اِنبثاق ما أصبح يُسمى بالدراسات البينية العابرة لآفاق التخصص والخطابات البينية لم تعد هذه التخصصات في معزل عن بعضها البعض، والدليل على ذلك أنّ أحد مداخل النقد الثّقافي وهو مدرسة التاريخانية الجديدة التي أسسها بجامعة بريكلي بالولايات المتحدة الأمريكية الناقد الثقافي الأمريكي ستيفن غرينبلات تُشكل الأنتروبولوجيا الثّقافية ركنًا مُهمًا من أركان نظريته في الشِّعريّة الثّقافية التي تتكئ على عدد من المفاهيم والأدوات الإجرائية السائدة كثيراً في حقل الأنتروبولوجيا الثّقافية في نسختها الأمريكية، ويأتي على رأس هذه المفاهيم، مفهوم (التوصيف الكثيف) الّذي اِستعاره ستيفن غرينبلات من أبحاث الأنتروبولوجي الأمريكي كليفوردغيرتز في كتابه (تأويل الثقافات).
وفي عالمنا العربي لم يتردّد أبداً صاحب كِتاب (الأنتروبولوجيا والسيمياء: مقاربات أنتروبولوجية تأويلية في ثلاث نصوص ثقافيّة اِجتماعيّة) وهو الباحث سعد سرحت في أن يجمع بين الأنتروبولوجيا الثّقافيّة والسيمياء ليقدم في الأخير تركيبة نقدية تجمع بين عِلم السيمياء والأنتروبولوجيا والثقافة، تركيبة هي التي تشكل فيما بعد منهجًا هو المنهج الثقافي الكفيل بتطبيقه على ثلاث نصوص ثقافية واِجتماعية في مزيجٍ آخر بين الثّقافة والمجتمع.
هذان مثالان بسيطان وقد تعمدتُ أن يكون أحدهما من الفضاء الإبستيمي الغربي المُنتِج للنظرية النقديّة والثاني من الفضاء العربي، الفضاء الّذي لا نريد أن يقع عليه ما حذّر منه إدوارد سعيد حين نبّهَ إلى عدم (إقصاء التابع أو اللاحق) وهناك أمثلة أخرى كثيرة كلها تُؤكدُ بأنّ حقل الأنتروبولوجيا الثّقافية يتقاطع كثيراً مع أدبيات النقد والدراسات الثّقافية، بل يحيطُ بهذا المجال ويُساهم فيه بشكلٍ لافت كما ذكرتِ في نص السؤال، وليس هذان المثالان سوى بعض اِرتباط بين الأنتروبولوجيا الثّقافيّة والدراسات الثّقافيّة.
النقد الأدبي النصوصي ركَزَ كلّ جهوده على النص الإبداعي المؤسساتي
هل يمكن الحديث عن دراسات ثقافيّة يتكئ عليها النقد الأدبي/والنقد الثّقافي؟
- لا ينبغي أن ينسى القارئ بأنّ حقل النقد الثّقافي لم ينبثق من فراغ، بل اِنبثق عن تيار أوسع، هو حقل الدراسات الثّقافيّة الّذي تأسس في بريطانيا من داخل مركز الدراسات الثّقافية برانغهام سنة 1964 بزعامة الناقد الثّقافي البريطاني رايموند وليامز عندما اِنفتح على أسئلة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وغيرها من أشكال السيرورات المُتتالية التي جاءت بها الخطابات البعدية بوصفها الحاضنة المعرفية التي اِتكأ عليها مؤسسو حقل الدراسات الثّقافيّة، وهي توجهاتٌ كلها تصب في مصلحة المعقولية التي تحفظ للتعدّدية الثّقافيّة بأن تُدشِّنَ بعض أهدافها بِمَّا في ذلك ثقافة الهوامش والأطراف، خاصةً في العالم الثالث (النساء/السود/الأفارقة/الأسيويين) والنصوص المُجاورة لها على غرار السينما والمسرح والفنون التشكيلية كروافد ثقافيّة لم تكن محل عنايةٍ من طرف النقد الأدبي النصوصي الّذي ركَزَ كلّ جهوده على النص الإبداعي المؤسساتي وعلى نصوص (الحداثة الرفيعة) بتعبير ماري تيريز عبد المسيح بأثر مِمَّا يضمن للقراءة النصية اِمتثالها لفوقية المركزية الغربية التي تلقى بعض مناهجها النُقاد العرب بنوع من الميكانيكية والشكلانية حتّى لا أقول التبعية المُذلة، ومن هنا تنبع أهمية نقد الأنساق الثّقافيّة المُهيمنة التي خصص لها الدكتور عبد الله الغذامي كتابًا مُهمًا هو (النقد الثّقافي قراءة في الأنساق الثّقافيّة العربية) للإعلاء من شأن نصوص الهامش أو النصوص الغير مؤسساتية.
ما هي القواسم المُشتركة بين النقد الثّقافي والدّراسات الثّقافيّة؟ وهل النقد الّذي تُمارسه الدراسات الثّقافيّة هو نوعٌ من النقد الثّقافي؟
- من الطبيعي أن يكون النقد الّذي تُمارسه الدراسات الثّقافيّة هو نوع من النقد الثّقافي، ونظراً لأنّ حقل الدراسات الثّقافيّة أوسع من النقد الثقافي فإنّ الدراسات الثّقافيّة مهمتها تتجاوز النقد الثّقافي المكرس لدراسة النصوص الإبداعية والكشف عن الأنساق الثّقافيّة المهيمنة فيها لتطال حقولاً ثقافيّة أخرى كالخطاب الإعلامي والخطاب التاريخي والخطاب الديني والخطاب السياسي وغيرها.. بينما النقد الثقافي لا يتجاوز عمله دراسة النص والنصوص الإبداعية والثّقافيّة حتّى ولو كانا يستخدمان نفس الجهاز المفاهيمي والأدوات الإجرائية المُستخدمة كثيراً في سرديات الدراسات الثّقافيّة والدراسات ما بعد الكولونيالية.
هل يمكن القول أنّ الدّراسات الثّقافيّة تُمارس حقاً التحليل النقدي الكافي للمشهد الثّقافي، كما يجب؟
- قلولي بن ساعد : لا لم يحن الوقت بعد للقول بأنّ الدراسات الثّقافيّة تُمارس حقًا التحليل النقدي الكافي للمشهد الثقافي كما يجب، فأمام النُّخب الجامعية والثّقافية المعنية بمستقبل الدراسات الثّقافية في الفضاء الثقافي الجزائري والعربي عملٌ كبير يبدأ أوّلاً من (تبيئة) حقل الدارسات الثّقافيّة في الفضاء الجامعي والثّقافي العربي، وخلق فرص للتكوين والتربص لربط الدراسات الثّقافية عمومًا بالأدب المقارن لتحرير تخصص الأدب المقارن من الهيمنة النّصيّة لنصوص المركز في علاقاتها بنصوص الهامش وهذه (التبيئة) بمفهوم محمّد عابد الجابري لا يمكن أن تتم بسهولة، بل ينبغي أن تتم بنوع من (التعديل) بمفهوم الناقدة الهندية ما بعد الكولونيالية غاياتري سبيفاك بِمَا ينسجم والخصوصيات الثّقافية العربية التي تتطلب منهجًا مرنًا لا يفرض عنفه الإبستمولوجي المتواطئ مع العنف الإمبريالي على النص الثّقافي العربي أو النص الثّقافي العالم ثالثي.
الرهان داخل الدّراسات الثّقافيّة يفتح أيضًا، الكثير من الأسئلة الهامة والمُربكة في هذا الحقل. كيف تقرأ إشكالات الإرث النظري للدّراسات الثّقافية؟
- لا يمكن قراءة إشكالات الإرث النظري للدراسات الثّقافيّة في مقال أو لحظة نقدية طالما أنّ هذا الإرث متنوع ومتعدّد المشارب، ويتوزع على أكثر من مذهب في بريطانيا وأمريكا وفي حلقة مدرسة دراسات التابع في الهند في حقبة ما بعد الاِستعمار البريطاني للهند، فلكلّ مذهب من مذاهب الدراسات الثّقافيّة خصوصياته الثّقافية وإشكالياته النظرية المُتحوِّلة بحسب السياق الثقافي والمُمارسة النقديّة، فمذهب المادية الثّقافيّة الّذي أسسه رايمود وليامز في بريطانيا لا تتطابق إشكالياته النظرية تطابقًا كليًا مع الإشكاليات النظرية التي تختزنها مدرسة دراسات التابع في الهند التي أسسها المُؤرخ الهندي أناجيت جوها وعمل فيها معه هومي بابا وغاياتري سبيفاك وديبيش شاكابراتي.. وغيرهم. وهو أمر دُونهُ صعوباتٌ جمّة، وربّما كانت تحتاج قراءة الإشكاليات المفهومية لحقل الدراسات الثّقافيّة إلى عمل جماعي يُقسم بين عدد من المختصين بحسب تنوع الإشكاليات المفهومية لحقل الدراسات الثّقافيّة. وأتمنى أن يتم ذلك تحت رعاية مؤسسة جامعية أو مخبر من مخابر البحث العلمي وهي كثيرة كما لا يحفى على أحد.
في ذات السياق ما هو مستوى أو سقف التلقي العربي لحقل الدّراسات الثّقافيّة؟
- أعتقد أنّه لا زال الحديث مُبكراً عن سقف التلقي العربي للدراسات الثّقافيّة في الجزائر، وعليه أفضل أن يكون سقف التلقي العربي مخصوصًا على النقد الثّقافي، وهو المجال الّذي أشتغل فيه وأعرف نسبيًا جغرافيًا المساهمات النقدية المُشتغلة بضروب النقد الثّقافي تنظيريًا وتطبيقيًا، عِلمًا أنّ هذا التلقي يحتاج هو الآخر إلى دراسة خاصة تَلِمُ إلمامًا شاملاً بالنصوص النقدية التنظيرية منها والتطبيقية لمساهمات عدد من النُقاد الثّقافيين على غرار (أزراج عمر، وحيد بن بوعزيز، لونيس بن علي، آمنة بلعلى، عبد الرحمان وغليسي.. وآخرين)، وحتّى هذا السقف فهو غير مُرضٍ لحد الآن، فجهود عدد من النُقاد الثقافيين في الجزائر وهم يُعَدون على أصابع اليد لا يعني أبداً أنّه لدينا حركة نقدية تستمد جدواها المعرفية من الجذور الإبستمولوجية للدراسات الثّقافيّة والنقد الثّقافي، وربّما كان هذا التلقي لا يزال في بداياته وأنّه علينا اِنتظار النتائج التي سيتمخض عنها، بعدها يمكن الشروع في إنجاز دراسات تضع التلقي النقدي للنقد الثقافي والدراسات الثّقافيّة في الجزائر موضع مُساءلات نقدية كما حدث للبنيوية والمناهج الكلاسيكية من مُساءلات جذرية من طرف نُقاد عرب.
حقل الأنتروبولوجيا الثّقافية
يتقاطع كثيراً مع أدبيات النقد والدراسات الثّقافية
ما هي أهم العراقيل التي تُواجه حقل الدّراسات الثّقافيّة؟
- لا أعرف إن كانت هناك عراقيل تُواجه حقل الدراسات الثّقافيّة، وكلّ ما أعرفه أنّه لا زال الحديث مُبكراً عن سقف التلقي العربي للدراسات الثّقافيّة، هذا كلّ ما في الأمر من معنى يستنبط من عدم شيوع حقل الدراسات الثّقافيّة في أكثر من فضاء من الفضاءات الجامعية والثّقافيّة وينبغي أن نكون على عِلم بأنّنا لسنا في فضاء متخم بالمعرفة حتّى نتوقع الاِنتشار المُذهل لحقل الدراسات الثّقافيّة بهذه الوتيرة المُتسارعة.
هل وظيفة النقد الثّقافي هي اِستنطاق النصوص المقموعة والمُهمّشة. –مثلاً-؟
- نعم هذا جزء من وظائف النقد الثّقافي وليست الوظيفة الوحيدة له هي اِستنطاق النصوص المقموعة والمُهمّشة، فالنقد الثّقافي وحتّى ولو كان لا يتنكر (لجماليات الحداثة الرفيعة) حسب توصيف الدكتورة ماري تيريز عبد المسيح أو (أسطورة الأدب الرفيع) بتعبير عالم الاِجتماع العراقي علي الوردي، فإنّه لا يتردّد أيضًا في الكشف عن الأنساق الثّقافيّة المهيمنة للنصوص المؤسساتية أو نصوص (الحداثة الرفيعة) كما فعل الغذامي مع شِعر الفحولة العربي في أطروحته عن نقد الأنساق الثّقافيّة في كتابه المُهم (النقد الثّقافي قراءة في الأنساق الثّقافيّة العربية)، وكما يفعل بعض النُقاد الثقافيين الذين ساروا على نهجه من أجيال ما بعد الغذامي في الوقت الّذي يعمل فيه النقد الثّقافي للإعلاء من شأن نصوص الهامش أو النصوص الغير مؤسساتية للكشف عن القيم الفنية التي تحملها أو تُبشر بها.
هل النص الإبداعي العربي -لا زال- بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثّقافي..؟ أم أنّ النقد الثّقافي لم يتشكل ولم يتأسس بِما يكفي في مخيال الناقد العربي..؟ وهل لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في العالم العربي؟
- نعم النص الإبداعي العربي لا زال بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثّقافي بسبب أنّ هناك حتّى في أوساط النّخبة من يتهيب مِمَّا أبداه بعض النُقاد الثقافيين من الدعوة إلى تمكين النقد الثّقافي "وتبيئة" الأسئلة التي يُحاول إثارتها تحت دعاوي زائفة كأن يقول لك أحدهم أنّ النقد الثّقافي يُساوي بين جميع النصوص ولا يقول لك أنّ هذا النص جميلاً أم رديئاً من الناحية الجمالية والبلاغية ويُحاول إهمال بلاغة النص وجمالياته، وهي فكرة قريبة جداً من روح النقد المعياري الّذي كان سائداً في أزمنة النص التقليدية كونها تخفي وراءها خوف الناص العربي من قدرة النقد الثّقافي على تعرية والكشف عن أنساقه المهيمنة، الأنساق التي تتوارى خلف ماكنة الجماليات والحيل الأسلوبية التي تتكئُ على نوع من الحماية النقدية من طرف رموز النقد الأسلوبي والبنيوي والبلاغي أو ما يُسميه الغذامي (حكومة البلاغة) وما أدراك.
ن.ل