فرانز فانون.. مفكر إنساني اندمج في المنظومة النّضاليّة الجزائريّة
تحل غدا الأربعاء (6 ديسمبر)، الذكرى الـثانية والستين لرحيل فرانز فانون (20 يوليو1925/6 ديسمبر 1961)، المُناضل والثائر والمُناهض للاِمبريالية والاِستعمار، هذا الطبيب النفساني والمُفكر والفيلسوف الاِجتماعي، الّذي وقفَ إلى جانب المُستضعفين والقضايا التحررية العادلة، وُلِدَ في جُزر المارتينيك، وعُرِفَ بنضاله الدؤوب من أجل الحرية والمُساواة، جاءَ بأحلامه ورسالاته إلى الجزائر، وطن الثورة والثوّار، عَمل طبيبًا عسكريًا في الجزائر خلال فترة الاِستعمار الفرنسي، كما عَملَ رئيسًا لقسم الطب النفسي في مستشفى البليدة. وفي1955 اِنضم إلى جبهة التحرير الوطني وكان من المُطالبين باِستقلال الجزائر، كماَ عَملَ مُحرراً في جريدة «المجاهد» الناطقة باِسم جبهة التحرير.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
تولى مسؤوليات كثيرة، دبلوماسيّة وأخرى عسكريّة. وفي 1960 عُينَ سفيراً للحكومة الجزائريّة المُؤقتة في غانا. لكن سرطان الدم لم يكن رحيمًا بهذا المُناضل الكوني، إذ هاجمه ونخره وقاده إلى الرفيق الأعلى في السادس (6) من ديسمبر العام 1961. فانون ناضل بقلمه وفكره، وهو أحد أبرز الذين كتبوا عن مُناهضة الاِستعمار، وسجلت كتاباته التي كانت ناتجة عن مواقفه الشجاعة، شهرة عالمية، ويكفي ما حقّقه كتابه الأشهر «المعذّبون في الأرض» الّذي صدر عام 1961، وهو نفس العام الّذي توفي فيه.
كُتّاب ونُقاد يتحدثون في «كراس الثقافة» لعدد اليوم، عن مسيرة ومناقب فرانز فانون، صديق القضيّة الجزائريّة وأحد أبرز المُدافعين عنها في المحافل الدولية وفي كتاباته، كما يتحدثون عن كتبه وعن فكره الأدبي النضالي والتحريري.
* محمّد بن زيان
فانون من المفكرين الذين تُستعاد قراءتهم عالميًا
يقول الكاتب والناقد محمّد بن زيان، في فانون والنص الفانوني: «لا يمكن لقراءة أي نص أن تُثمر إذا ما أسقطت اِعتبار سياق تشكله وتبلوره وتداوله، وهذا ما نُؤسس عليه تعاطينا مع النص الفانوني. فانون حمل تأثيرات بيئته بالمارتنيك واطلع على خلفيته الأفريقية واستوعب التيارات الفكريّة وتعمق في الطب النفسي، وعاش في فرنسا أجواء المد اليساري والوجودي في زمن عمالقة، عرفهم واحتك بهم وتحاور معهم ونشر في منابرهم. اِنتقل إلى الجزائر ليُمارس مهنته كطبيب نفسي، ينخرط في مهنته فيتوصل عبر تشخيص حالات المرضى إلى رصد الحقيقة، حقيقة وضع يواجه الضمير ويُؤجج أسئلة العقل، فأخلص لمساره كمثقف يتحرى الاِنتصار لما يراه الحقيقة وأرضى ضميره فاستقال وانخرط كفاعل في الثورة. بالاِنخراط في الثورة عرف المسار تحوّلاً وتبلور فكر فانون، الّذي شكل مساره نموذج العلاقة الجدلية بين المجرّد والمُجسد أو بعبارة أخرى كيفية الاِرتفاع بالمُجسد إلى مستوى المُجرّد والنزول بالمُجرّد إلى ساحة المُّجسد».
مُضيفًا: «بتحوله أثرى كينونته وأمدها بِمَا يجعلنا نستعيده جزائريًا كأحد رموزنا التي نستحضرها، وفي الاِستحضار نتحرى تجنب التوثين، ففانون كغيره من الشخصيات الفكريّة والأدبيّة المُهمة أنتجت المقاربات عنه اِلتباسات ناجمة عن قراءته بمعزل عن منابع وروافد صياغته الفكريّة وبمعزل عن السياق التاريخي الّذي كتب له الوجود أثناءه، وباِستحضار ذلك السياق تتبين لنا حيوية النص الفانوني وامتداد راهنيته بِمَا بلوره من أفكار حاضرة في راهننا، حضوراً يجعل فانون من المفكرين الذين تُستعاد قراءتهم عالميًا».
ففانون -حسب ذات المتحدث- فَكَكَّ آليات الاِستعباد ورواسب الصهر النفسي الناجم عن الهيمنة الاِستعمارية وميكانيزمات المُواجهة والنضال لتغيير الوضع الكولونيالي والتناقضات التي تتشكل عبر التراكمات وتتحوّل إلى عقبات في المسار الاِنتقالي من وضعية الخضوع للاِستعمار إلى وضعية بناء الدولة الوطنية.
وفي سياق آخر، يُضيف بن زيان: «لقد توقف فانون عند دور الريف والفلاحين، توقفًا أَثَرَ على بعض رموز السلطة في الجزائر المُستقلة ولاقى تحفظات من البعض، كما اِنتبه لبعض الخصوصيات كـ(الحايك) الّذي لم يَبْقَ مجرّد لباس بل تحوّل إلى عنوان مُواجهة بالتمايز عن النمط الكولونيالي. بلور ما يُحرّر المغلوب من عقدة الإحساس بالدونية ومن الاِستلاب بالغالب، تحريراً يعتبر الخلاص الحقيقي».
مُؤكداً في ذات المحور، أنّه وفي السياق الحالي بتحدياته المركبة وباِنعكاسات المد العولمي المُكتسح بشراسة، يحضر فانون كأحد رموز الفكر المُتجاوز والمُتحرّر والمُحرّر، فِكرٌ يُحايث وينغمس في الواقع ليمتحن الفكر ويشحنه بالعملية والواقعية، وفي ذات الوقت يمدُ بِمَا يُحرّر من الاِرتهان بالعابر.
واختتم قائلاً: «فانون فَكَكَّ معادلة العلاقات وصاغ معادلة بديلة، وبلور التعالي على ما وصفه بالدراما العبثية التي يُجسدها توجه عصابي يجعل الزنجي عبداً لدونيته والأبيض عبداً لتفوقه والتعالي برفض الحالتين للوصول كما قال إلى كائن إنساني كوني واحد. توجه فانون نحو الأساس في الصراع الحضاري والتاريخي، والأساس هو صياغة نفسية وعقلية للإنسان، بكلّ ما في دال الإنسان من حمولة قيمية».
* بوداود عميـّر
قدم رؤيته الخاصة المُؤسسة على ركائز نضال حقيقي
يرى الكاتب والمُترجم بوداود عميّر، أنّ شهرة فرانز فانون تعود في المقام الأوّل لكتابه «معذبو الأرض»، الّذي حاول من خلاله تقديم رؤيته الخاصة المُؤسسة على ركائز نضال حقيقي في بلورة المناهج الكفيلة بمناهضة الاِستعمار كجهاز قمع واضطهاد، وككيان مضطهد للإنسان في العالم الثالث، حالت سياقات ثقافيّة وتاريخيّة دون اِمتلاكه لزمام التطوّر وآليات الإقلاع.
مُضيفاً، أنّه من المُؤكد أنّ المقدمة المطوّلة التي خصّه بها الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر وهو في أوج عطائه الفكري –ثلاث سنوات بعد ذلك نال جائزة نوبل للآداب سنة 1964- فتحت آفاقًا واسعة لاِنتشار الكِتاب وتعزيز طرحه العلمي والفلسفي، وهي المقدمة التي عبّر من خلالها سارتر عن تضامنه المُطلق مع الأفكار الواردة في كِتاب فانون.
ثمَ اِستدرك قائلاً: «الغريب أنّ كِتاب فانون الشهير لم يحظَ من قيادة البلاد بعد الاِستقلال بِمَّا يستحق من عناية واِهتمام، رغم أنّه كإنسان ومُناضل جزائري حُظيَ بتقدير مُناسب لمكانته من خلال تبوئه لمناصب سياسيّة ودبلوماسيّة هامة في الحكومة الجزائرية المُؤقتة، بل أنّ الكِتاب إن أمكننا القول جنى على صاحبه، وبدأ التحفظ يطغى على مواقف القيادة الجزائرية إزاء مساهمة فانون الفكريّة في الثورة الجزائريّة».
وهنا أضاف: «لقد -اِعتبره البعض أحد المُنظرين الأساسيين للثورة الجزائريّة- يفسّر المُؤرخ محّمد الميلي وهو أحد الرفاق الأوفياء لفانون والّذي خصّه بكِتاب يحمل عنوان (فرانز فانون والثورة الجزائريّة)، بأنّ فانون في كتابه الأخير (معذبو الأرض) ندّد بالبرجوازية الوطنية في البلدان الإفريقية وفضح سلوكها وطبيعة المطالب التي ترفعها بمطالبتها بتأميم الاِقتصاد والتجارة الخارجية ولا يعني في نظره أنّها تريد تسخير الاِقتصاد لخدمة جموع الشعب ولكنه يعني أن تحلّ هي –أي البرجوازية الجديدة- محل الأوروبي الّذي كان يحكم –ويضيف محمّد الميلي- وبّما أنّها لا تملك إمكانيات الأوروبي الفكرية فإنّ نشاطها الاِقتصادي يقتصر على اِستغلال موقعها لاِشتراط عمولات على الصفقات المُبرمة مع الأجنبي، وهي لا تفكر في اِستثمار أرباحها داخل الوطن بل تهربها إلى بنوك الخارج».
وواصل في ذات السياق: «ثمّ أنّ فانون تكهّن بمصير الأحزاب التي قادت معركة التحرير في أفريقيا عندما صور تداخلها وتشابك مصالحها مع الأجهزة الحكومية والإدارية وعندنا حذر من أن تقتصر مهمتها على تعبئة المناضلين في المناسبات الرسمية والأعياد الوطنية والمهرجانات الفلكلورية حسب الكاتبة (جيزيل حليمي) رفيقة درب فانون والمُختصة في أدبه وفكره».
مُضيفًا في ذات الفحوى: «اِختار فانون بنفسه العنوان وليس دار النشر، وقد صدر الكِتاب في نهاية نوفمبر سنة 1961، عن دار النشر فرانسوا ماسبيرو -أطلق عليه المؤرخ محمّد حربي (الكِتاب الوصية)- في الوقت الّذي كان فيه فانون يُقاوم الموت في مستشفى واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، علاوةً على أنّ الكِتاب تَمَّ طبعه في سرية تامة وفي ظروف أقل ما يُقال عنها أنّها صعبة، كما قامت سلطات الاِستعمار الفرنسي بمنع تداوله بتهمة مساسه بأمن الدولة. ورغم جميع إجراءات المنع -تقول جيزيل حليمي– عَرَفَ الكِتاب اِنتشاراً واسعًا، ساهمت الصحافة آنذاك بالقسط الوافر في ضمان الترويج له، وقد حصل فانون على نسخته من الكِتاب عن طريق تونس بتاريخ 3 ديسمبر من نفس السنة، كما حصل على قصاصات من الصُحف المُنوّهة بالكِتاب من بينها مقال تقريظي بقلم الكاتب والإعلامي الفرنسي الشهير جان دانيال ظهر في صحيفة الاِكسبريس الفرنسية بتاريخ 30 نوفمبر».
مُؤكداً على أنّ الكِتاب عرفَ نجاحاً على المستوى العربي أيضًا، فقد بات كِتاب (معذبو الأرض) بِمَا تناوله من نظريات وأفكار جديدة، مرجعًا أساسيًا لكثير من الكِتابات العربيّة المُتطرقة لقضايا الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، إضافةً إلى إشراف أحد أكبر المُترجمين العرب على ترجمة الكِتاب، ويتعلق الأمر بالمُترجم السوري الراحل سامي الدروبي، وقد شاركه في عملية الترجمة السياسي السوري جمال الأتاسي كما هو واضح في غلاف الكِتاب المُترجم عربيًا.
وأردفَ قائلاً: «ثمّة مُلاحظة أساسية لا مناص من الإشارة إليها، وتتعلق باِختيار عنوان الكتاب: (معذبو الأرض) بدل (المعذبون في الأرض) -بالتعريف- والعنوان الثاني في اِعتقادي هو الأصح ترجمةً، باِعتبار أنّ العنوان مُعرّف بالفرنسية : les damnés de la terre ، ولعل الأمر يعود أغلب الظن إلى أنّ المُترجم وضع في ذهنه كِتاب (المعذبون في الأرض) لطه حسين والّذي صدر العام1955 أي قبل صدور كِتاب فانون سنة 1961، وحاول فيما يبدو رفع اِلتباس العنوان المُشترك، والتمييز بين كتابين أحدهما اِشتهر عربيًا والآخر اِشتهر عالميًا».
أمّا المُلاحظة الثانية -حسب بوداود دائمًا- فتتمثل في أنّ كِتاب (معذبو الأرض) في نسخته المترجمة إلى العربية، أُعيدَ طبعه في الجزائر في إطار سلسلة أنيس التابعة للمؤسسة الوطنية للفنون الجميلة سنة 1990، دون الإشارة إلى المترجمين السوريين: سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ولا أثر للمقدمة الهامة التي كتبها الفيلسوف الفرنسي سارتر والمُدرجة في النسخة العربيّة المُترجمة.
مِمَّا يُعزّز -حسب قوله- «فرضية الاِلتباس -غير المفهوم- الّذي كُنا ولا نزال نتعامل فيه مع كُتّاب ومناضلين -أجانب- ساهموا بأقلامهم وقدّموا بتضحياتهم نماذج إنسانية خالدة في سبيل التعريف بقضيتنا الوطنية، والقضايا العادلة في العالم. وتلك قصة أخرى».
* حميد عبد القادر
الفكرة المُهمة في مؤلفات فانون هي خيار الفِكر الإنساني
يقول الروائي والكاتب الصحفي حميد عبد القادر: «يُشبهُ فرانز فانون جيل الاِندماجيين الجزائريين. عايش مرحلة الإيمان في المنظومة الثّقافيّة الغربيّة، لما شارك كجندي في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية. ثمَّ اِنتقل لمرحلة فقدان الثقة في هذه المنظومة، وقرر الاِلتحاق بركب الفكر التحرري. ولد في (المارتينيك) سنة 1925، لكنه اِختار الجزائر، أو بالأحرى اِختار فكرة الثورة والتحرّر من العقلية الاِستعمارية، على خلاف خيار مسقط رأسه الّذي فضل حلاً اِندماجيًا في المنظومة الكولونيالية، بعد أستاذه إيمي سيزار».
وواصل قوله: «ليست (المارتينيك)، هي وحدها التي لفظت فانون، فالمؤسسة الثقافيّة والجامعيّة الفرنسيّة رفضت بدورها أعماله، وتعمدت تهميشه. ففي العام 1952 أرادَ أن يُناقش رسالة تخرج بعنوان (بشرة سوداء.. قناع أبيض)، لكن إدارة الجامعة رفضتها، فنُشِرت في كتاب بمنشورات (لوسوي). لا يحظى فانون بمكانة تليقُ به في المنظومة الثّقافيّة الفرنسية حاليًا، ففي العام 2002 نشر المفكر الفرنسي باسكال بروكنر، وهو أحد أقطاب اليمين الجديد في فرنسا، كتابًا بعنوان (زفير الرجل الأبيض)، وَجَهَ من خلاله نقداً لاذعاً للفكر التحرري الّذي اِنتشر في العالم الثالث، وقَدَمَ فانون وفكره في صورة كاريكاتورية، حصرت فكر الرجل في مسألة (العنف كضرورة)».
ورأى بروكنر -كما يضيف المتحدث- في المقدمة التي وضعها سارتر لكتاب فانون «المعذبون في الأرض» بمثابة «مازوشية» و»ديماغوجية» مليئة بالحقد تجاه الغرب. واعتبر أنّ فانون يدعو إلى نشر العنصرية تجاه الإنسان الأبيض.
صاحب «توابل المدينة»، أشار هنا إلى أنّ الفكرة المُهمة في مؤلفات فانون، وبالأخص كِتاب «بشرة سوداء.. قناعٌ أبيض» هي خيار الفِكر الإنساني، ورفض رد عنصرية الرجل الأبيض بعنصرية الرجل الأسود، والسعي لإيجاد (إنسان جديد)».
وأردفَ مُوضحاً: «لقد دافع فانون عن وضعيته كإنسان حر، ورفض الاِنغلاق في إثنية معينة أو جماعة اِجتماعية ما. وهذا ما أدى به إلى رفض الاِنخراط في تيار (الزنجية) الّذي أسسه أستاذه إيمي سيزار وليبولد سيدار سينغور. إنّ فانون مهم اليوم، لأنّه كان يعتقد أنّ الاِستعمار (المُتجدّد)، باِعتباره شاملاً، يسعى لتمزيق وتشويه الحياة الثّقافيّة للشعب الخاضع للاِستعمار. ويتحقّق هذا المحوُ الثقافي بواسطة تكسير الواقع الوطني. يرتكز الفكر (الفانوني) كفكر نضالي، على قدرة شعوب العالم الثالث على فرض ذاتها، وصناعة تاريخها وتقرير مصيرها بنفسها». وخلص إلى أنّ أفكار فانون ترفض الموت وتصر على البقاء، فالمظالم التي كان يدينها ويرفضها بقوّة وحيوية، مازالت قائمة حتّى اليوم.
* عبد القادر رابحي
الرؤية الفانونية تعاملت بصرامة مع الذات المُستعمَرَة بوصفها موضوعًا مرَضيّا
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد القادر رابحي: «ربّما لم يكن ثمّة من فكرة كانت تُؤرق فرانز فانون مثل ما كان يسميه بـ(نفض الأدمغة) مِمَّا كان يُلاحظه فيها، بحدسه الفائق وبعبقريته القارئة، من علائق كولونيالية لم يكن من السهل بالنسبة للكثير من أبناء جيله مِمَّن ولدوا تحت حقيقة الشرط الكولونيالي، أن يكتشفوا مقدار اِلتحامها بالذات المُستعمَرة واِنسجامها مع آنية معيشتها التي تنهل من ثواء مستديم ضارب أطنابه في ماضي الإنسان المُسْتَعْمَر المكبّل بأغلال الجهل والفقر والمرض، ومِمّا تراه في المستقبل من (عدم إمكانية) تغييره نحو حركة واعية تُحاول أن تُخفّف من سطوة هذه العلائق، ومن ثِقل تداعياتها على (معذبي الأرض) في معيشتهم الراضخة رضوخًا أعمى للأمر الواقع».
وواصلَ في ذات المعطى: «ربّما كانت فكرة (نفض الأدمغة) لوحدها سببًا جوهريًا وكافيًا في اِتخاذ الرؤية الفانونية كلّ هذه الصرامة القاسية في التعامل مع الذات المُستعمَرَة بوصفها موضوعًا (مرَضيّا) لا يمكن أن يبرأ من شرطيّته إلاّ بالكيّ -لأنّ آخر الدواء الكيّ-، ولا يمكن أن يتخلص من العلائق النظرية التي تجذبه نحو الأسفل إلاّ بتجاوز جدار الصمت المسكوب خرسانةً في أُذن هذه الذات الجمعية من طرف الرجل المُستعمِرِ».
ثمّ يضيف وهو يتساءل: «هل يمكن لفتى وُلِدَ مسلوبًا للحريّة، وخاضعًا لهذا الشرط، أن يجمع كلّ هذه الحياة الثريّة في أطروحاتها النظرية البحتة، وفي مُمارساتها الواقعية العميقة، وفي تجربتها الحياتية المُتوهجة في هذا العمر القصير؟ وكيف يمكن للمؤسسة الكولونيالية التي كانت تُتابع خطوات هذا (الفتى الأسود) في ما تتصوره عن مساره الحياتيّ المرسوم في الرزنامة الكولونيالية من ألفه إلى يائه داخل دائرة التبعية، أن تغض بصرها –كما عادتها في كثير من الأمور الخطيرة-، عمّا تحمله رمزية المسار الفانوني في ثوريّة فكرته، وفي إنعتاق خطواته من قيدها الاِستعماريّ المُسلّط ليس على أبناء جلدته فحسب، وإنّما على أبناء المنظومة الكولونيالية التي أجبرته على الاِنتماء إليها، وكذلك في ما يحمله من فكرة كونية عن الذات وعن العالم، لم يستطع حتى أكبر المثقفين السود المعاصرين للشرط الكولونيالي، والّذي تربوا في أحضانه، من إيمي سيزير إلى سيدار سينغور، أن يدركوا عُمقها المأساوي بالصورة التي أدركها بها فرانز فانون». صاحب «أرى شجراً يسير»، واصل مُتسائلاً: «كيف يمكن لهذا المُستعمِر أن يفهم، من منظوره الكولونيالي الإقصائي المغلق، أنه بإمكان فتى مثل فانون أن يعيش حرّا داخل هذا الشرط في ما يزيد عن مدّة تتجاوز الربع قرن بسنوات معدودات هي سنوات حياته؟ وكيف يمكن لرجل بهذا الشباب، وبهذا الوجه، وبهذه الخصوصية، أن يجوب فضاءات فكريّة ومعرفيّة وواقعيّة في ظرف حياتي مركز، ومأساوي، وهو فوق ذلك ظرفٌ قصير إلى درجة أنّه لا يمكن أن يسع الكبار لمدة قرون كاملة من تحقيق جزء مِمّا حقّقه فرانز فانون في حياته القصيرة؟ ربّما يكمن الجواب عن كلّ هذه الأسئلة في ما كان يسميه فرانز فانون بـ(نفض الأدمغة)».
وعلى نسق التساؤل دائماً، اختتم قائلاً: «إنّه الفعل الّذي قضى حياته من أجل تحقيقه على أرض الواقع الجزائري. فمن يستطيع اليوم أن يفعل لوطن فرانز فانون الأصلي، المارتينيك، جزءا مِمَّا قدمه فرانز فانون للجزائر خاصةً ولقضية تحرّر الشعوب المُستعمرة من الاِستعمار بصورة عامة؟».
* عبد الحفيظ بن جلولي
ينــدرج ضمــن حركــــة القـــراءة مُتعــدّدة الأوجـــه للعُنف الاِستعمــــاري
يقول الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي: «تختزن الظاهرة الاِستعمارية في المفهوم السّوسيولوجي ذلك البُعد الّذي يحمل بذور فنائه فيه، لأنّه لا يمكن لجماعة اِجتماعية أن تعيش على واقع الاِحتلال الّذي يفرضه المستعمِر، والّذي يروم من خلاله تغيير الواقع المحلي المُتجذّر في الوعي الجمعي الوطني والقومي من خلال معايير الثقافي والقيمي، واستبداله بالمكوّن الثّقافي والقيمي الاستعماري».
ضمن هذه الرّؤية -يضيف بن جلولي- «تنبثق ظاهرة فرانز فانون ذات الرّوح النّضالية المُنبعثة من ماورائيات الذّات الدّالة في وجوديّتها على الملمح الشّخصاني المُتميّز، والّذي يرفض الإحالات على هامش الإقصاء الوجودي والإنهاء الإثني، لأنّ الظاهرة الاِستعمارية ترسم منحنيات الاِستمرار في الوجود على أكتاف المستعمَر، ولهذا يرى هيجل الآخر غير الأوربي بلا تاريخ، حيثُ يقول (إنّ إفريقيا بلا تاريخ)، وهو ما يؤدّي مفهوم القدَر الوجودي السّخري لهذه الشّعوب، لصالح البيض، أو حركة الاِستعمار المُندرجة وحدها ودون سواها ضمن حركة التّاريخ والوعي التّاريخي».
مُعتبراً أنّ فرنز فانون يندرج ضمن حركة القراءة مُتعدّدة الأوجه للعُنف الاِستعماري الماحق للشّخصية المستلَبة، التي بدا له في فترة من فترات المستعمَر أنه طوّر ميكانزمات الاِنقياد للسيّد. وهذا ما يُحيلنا -حسب بن جلولي- على مرتكزات ذات أهمية في تكوين الشّخصية الفانونية، فليس اِعتباطًا تخصّصه في الطب، والطب النّفسي بالخصوص، لأنه كان يرمي إلى المُحاولة الجادّة في تحرير العُمق الإنساني، والإفريقي من ربقة الخضوع، لهذا اِهتم بظاهرة الأسود في مقابل الأبيض، في كتابه (جلد أسود، أقنعة بيضاء)، والّذي يُحلّل فيه نفسيّة الأسود في مُواجهة الإنسان الأبيض، حيثُ يرى أنّ الأسود حُرِّرَ من قِبل السيّد ولم يُناضل من أجل التحرّر، لهذا يجهل قيمة الحرّية، حتّى، وفي مرحلة تالية، عندما ناضل من أجل الحرية والعدالة، فإنّ ذلك يتعلّق بحرية الأبيض وعدالة الأبيض، وهو ما يُحيل على المستوى النفسي إلى اِستثارة عوامل التغيير والإنتاج العقلي.وفي هذا السياق، أضافَ قائلاً: «يُعتبر هذا الحفر في الأعماق النّفسية للأسود، المهاد الّذي أدّى إلى ترسيخ مآلات الثّقافة ما بعد الكولونيالية، التي تنبني على الوعي بالذّات قبل الحركة من أجل إثباتها، ففي كِتاب (المعذّبون في الأرض) الّذي نُشِر عام 1961، أي العام الّذي توفيَ فيه، يُشير في مقالة (حول الثقافة الوطنية) إلى المستوى التّدميري الّذي بلغه المُستعمِر من خلال عدم اِكتفائه بتدمير الحاضر بل توجّهَ أيضًا إلى تدمير الماضي للدُول المُسْتَعمَرة، مِمّا حرّر في الشخص المستعمَر روح التشبّث بالثقافة الوطنية، كملجأ حمائي من خطورة الذوبان في منظومة المستعمِر المبنية أساسًا على الهدم والإحلال».وأردفَ مُوضحاً: «إنّ الغوص في جوهر الرّؤية لدى فرانز فانون، يصل بالقارئ لأفكاره إلى جدوى القراءة النّفسية للنّموذج المُؤهّل للمُلاحظة والمُعاينة الواقعيتين في إطار علاج التّشويه الّذي تعرّضت له النّفسية المُستعمَرة والمُنقادة، لهذا ما فتئَ يُطالبه بالتخلي عن تلك النّظرة التبسيطية التي كان يتميّز بها إدراكه للمُتسلّط». وخلص إلى القول: «يُساهم عبور الفانونية إلى الهوامش التحرّرية في نضالية الثّورة الجزائريّة، في تسنيد الدور الكوني والإنساني المُناهض للعبودية والفِعل الماحق للتحرّر، فإنسانية الفِعل العلاجي المُنظِّم لنسق إعادة التّنسيق بين الوظائف المُعرّفة للجسد، والتي تروم فِعل الشّفاء، تُمحور هدف الإنبثاق الإنساني حول الغاية الوحيدة للوجودية العاقلة والكريمة والمُتمثلة في كونية التلاقي حول الرّوح القائدة والمُتناغمة مع مسار التاريخ في ترسيمه لحدود المرجعيات والخصوصيات الدالة على الكينونة المختلفة، لهذا يعتبر اِندماج فانون في المنظومة النّضاليّة الجزائريّة تعبيراً نفسيًا عن الحاجة لهامش النّضال من أجل الكينونة الكونية الواحدة في تطلعاتها نحو الأُفق الجدير بأن يكون إنسانيًا ومُتحرّراً ومفكّراً».