المخطوطات.. برديات عائلية تثري خزانة التاريخ بقسنطينة
تشكل المخطوطات القديمة، جزءا من ميراث عائلات عريقة بقسنطينة، وهي كما وصفها واسيني الأعرج في البيت الأندلسي، وثيقة هوياتية قومية لها من الأهمية التاريخية والثقافية والعلمية ما يجعلها كنزا لا يثمن إلا في المزادات، وقد تعرضت هذه المصادر التاريخية لعمليات سطو على مر السنوات، ذلك لأن المخطوط عند من يعرفون قيمته، هو خيط ممتد عبر الأزمنة، و في سيرتا توجد مخطوطات مهمة لكبار علماء المدينة، توارثتها أسرهم، ثم قدمتها كهبات لمكتبات جامعية، طمعا في إثراء خزائن التاريخ و رفوف المعرفة، و كحل للحفاظ على هذا الميراث المادي والمعنوي من الضياع والتلف.
لينة دلول
نسبة أخرى، من المخطوطات التي تحوز عليها هذه المكتبات و غيرها من المؤسسات على غرار الأرشيف الولائي، عثر عليها خلال عمليات تهيئة لمصالح معينة أو لبنايات تاريخية، وتحظى هذه الوثائق القديمة بكثير من الاهتمام، ويجتهد الباحثون و الأكاديميون في استرجاعها وتجميعها ورقمنتها، لتوظيفها في البحث العلمي وفي كتابة التاريخ وفهمه أيضا، كما أنها عنصر من العناصر الثقافية المهمة.
مخطوطات قديمة قدم التاريخ
في العديد من دول العالم تشكل المخطوطات جزءا هاما من التراث الذي أبدعته الحضارات في شتى حقول المعرفة الإنسانية، فهي مؤلفات وضع فيها العلماء خلاصة أفكارهم، وتجاربهم وإبداعاتهم، والكتاب المخطوط بما يمثله من الناحية الفكرية المتطورة، هو نتاج تلك الحضارة، التي شهد العالم على عظمتها وسمو مكانتها، وبالتالي فهو يمثل جانبا هاما من الجوانب المضيئة لها.
وتزخر سيرتا ككل المدن العظيمة، بمخطوطات هامة يعود عمر بعضها حسب ما وقفنا عليه، إلى أكثر من 14 قرنا، في شتى العلوم والتخصصات، كالطب و الفن و الفقه و النحو و التفسير وغير ذلك وهي موزعة على مختلف المساجد والزوايا والجامعات والمخابر والمؤسسات الثقافية و البحثية، التي كان لها الفضل في جمعها والحفاظ عليها من الضياع والتلف سواء، وقد تم تحصيلها إما عن طريق الهبة، أو تم شراؤها من عائلات توارثتها لعقود.
وحسب ما علمنها من المهتمين بجمع المخطوطات وصيانتها بولاية قسنطينة، فإن هذه الأخيرة كقطعة مادية، ستمكن الباحثين من اكتشاف جانب مهم من تاريخ المدينة الثري والمتشعب، و العديد منها ما تزال مكدسة في صناديق بأقبية منازل و مؤسسات أين تجهل قيمتها الحقيقية تتعرض للتلف و تتآكل بفعل الرطوبة و عبث الفئران و الحشرات، وهو أمر يجب حسب متابعين، أن يؤخذ بعين الاعتبار و يستوجب التحسيس والتوعية، لأجل تسهيل استرجاعها وحفظها و استغلالها، باعتبارها جزءا هاما من التراث الوطني، والحفاظ عليها يعني الحفاظ على الهوية القومية بمختلف أبعادها، في ظل ما يشهده العالم من تغيرات بفعل العولمة التي أصبحت تشكل خطرا على الثقافات الإنسانية المختلفة وتهدد خصوصيات الشعوب.
جامعة الأمير عبد القادر في خدمة التراث المخطوط
وتعد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإنسانية، من بين المؤسسات التي تولي أهمية بالغة للمخطوطاتـ وذلك منذ إنشاء مكتبتها سنة 1984، حيث كانت تحتوي على قرابة 100 مخطوط في مختلف العلوم والتخصصات، اكتسبتها عن طريق الهبة، بعد ذلك أنشأت الجامعة في ديسمبر 2011، مخبرا خاصا بمعالجتها «أرشفتها ورقمنتها» حرصا على إبقائها ذخرا للبحث العلمي.
ويحتوي المخبر حسب القائمين عليه، على رصيد معتبر من المخطوطات المكتوبة بأيادي علماء جزائريين في شتى التخصصات، تتم معالجتها بالطرق التقنية المتداولة عالميا، وذلك بعد أن تم تدريب إطارات المخبر تقنيا على يد خبير أميركي.
ويوفر المخزن الظروف اللازمة المنصوص عليها دوليا لحفظ المخطوط جيدا، وتحترم في ذلك شروط الإضاءة و التهوية و الرطوبة، ليتسع المكان لأكثر من 1082 مخطوطا صفت على رفوف حديدية لحمايتها من التلف.
و قد حرصت إدارة المكتبة على اقتناء الوسائل اللازمة لرقمنة المخطوطات بغرض الحفاظ على هذا الوعاء المعرفي و التاريخي النادر إذ يتم بالإضافة إلى أرشفتها بطريقة تقليدية، حفظ نسخ إلكترونية منها يتداولها أكثر من باحث في آن واحد.
وتعالج هذه المخطوطات المحفوظة في مخبر المكتبة، مواضيع واختصاصات مختلفة مثل الفلسفة والطب والتاريخ واللغة والأدب العربي والشعر والثقافة، إلى جانب الفقه المالكي والأحاديث والسيرة النبوية، ويعود تاريخ أقدم مخطوطة ضمن هذه المجموعة بحسب مدير المكتبة المركزية بجامعة الأمير عبد القادر الدكتور يونس سدوس، إلى سنة 595 هجري، وهي مخطوطة تطرقت لشرح الدرة الألفية «شرح ألفية بن المعطي» للمؤلف ابن الخباز، شمس الدين أحمد الحسين أبو عبد لله.
جلها هبات من عائلات كبار العلماء
وتعد مخطوطات مكتبة جامعة الأمير عبد القادر في مجموعها بحسب المسؤول، هبات من عائلات كبار العلماء، إذ تم جلب بعضها من المكتبة الخاصة بالشيخ نعيم النعيمي، وهو أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومنها ما قدمته زاوية بن الشيخ الحسين بسيدي خليفة «ميلة»، وتم الحصول على عدد منها من مكتبة الشيخ محمد الطاهر تليلي، وكذا من مكتبة الشيخ محمد خير الدين، إضافة إلى مكتبة الشيخ مرزوق إبراهيم، و تقدم مواطنون بمخطوطات مهمة كذلك، رغبة منهم في الحفاظ على هذا الإرث العريق الذي يعود لآبائهم وأجدادهم.
وأكد سدوس، أن جامعة الأمير عبد القادر أطلقت تجربة الرقمنة سنة 2009 بمساعدة الخبير الأمريكي بورث هاربورت، في إطار التعاون مع سفارة الولايات المتحدة بالجزائر، التي أهدت آنذاك للجامعة جهازا حاملا للوثائق المصورة، يعمل على تحويل المخطوط من وعائه الورقي إلى وعاء إلكتروني، و قد حصل ذلك بعد زيارة السفير الأميركي لمكتبة الجامعة أين عبر عن إعجابه بكمية المخطوطات الموجودة.
وحسب المتحدث، فإن السفارة الأمريكية، مكنت فريقا من جامعة العلوم الإسلامية من متابعة تربص تكويني تمحور حول معالجة وجمع المخطوطات التي حرر أغلبها منذ أكثر من 10 عقود خلت، وهي دورة « تعلموا فيها كيفية تقليب الأوراق، وطريقة وضع المخطوط وما إلى ذلك» كما أوضح، أما في الدورة الثانية فشملت التعرف على كيفية رقمنة المخطوط، و تثمين وتعميم ميراث هذا الإرث الإنساني المهم.
وأشار إلى أن اللجنة العلمية القائمة على عرض المخطوطات خلال تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، كانت قد أعجبت بعمل إطارات المكتبة، و طلبت من إدارة الجامعة رقمنة مخطوطاتها مع الحق في الاحتفاظ بنسخ عنها في مكتبتها الافتراضية، وهو ما أثرى رصيد المؤسسة.
كنز يدفنه الإهمال
وأوضح مدير المكتبة، أن الكثير من خزائن المخطوطات موصدة الأبواب، ولم تفتح أمام الباحثين والمهتمين بالتراث، وذلك لأن هناك عائلات ترفض تداولها رغم ما لها من الأهمية العلمية والدينية، ولا تريد إتاحة هذا الإرث الثقافي للعامة وتفضل ترك الوثائق مكدسة في صناديق ورقية تتعرض للرطوبة والحشرات، بدلا من إهدائها مجانا للمؤسسات المتخصصة.
وأوضح سدوس، بأنه يهدف إلى جمع أكبر عدد ممكن من المخطوطات المهملة لحمايتها، لذلك يقوم في كل مرة بالإعلان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن استقبال الهبات و يدعو من يملكون مثل هذه الوثائق إلى تقديمها لمخبر الجامعة، من أجل رقمنتها وحفظها في مكان أمن.
* عادل سعيد تومي مسير بمخبر المكتبة
نسعى لصون المخطوط والحفاظ عليه للأجيال اللاحقة
من جهته، أكد الملحق بالمكتبة المركزية بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، عادل سعيد تومي، أن المخبر يحتوي على مجموعة غنية من المخطوطات النادرة والقيمة التي يستطيع الباحثون و الدارسون للتاريخ والمهتمون بهذا الموروث، والجمهور العام الاطلاع عليها والاستفادة منها، وذلك بفضل المكتبة الافتراضية التي تتيح لهم الوصول إلى محتوياتها.
وأكد المتحدث، أن العاملين في المخبر، يولون عناية خاصة للمخطوطات فهرسة وتحقيقا، وهم بذلك يسعون لصون التراث والحفاظ عليه للأجيال المستقبلية، مشيرا في ذات السياق، إلى أن قسم المخطوطات يضم ثلاث ورشات، تختص الورشة الأولى في الإجراءات الفنية التقليدية، « جرد و فهرسة»، و تتم في الورشة الثانية رقمنة المخطوط وحفظه في وعاء إلكتروني، أما الورشة الثالثة فهي مخصصة لتجديد وصيانة المخطوطات.
وأوضح المتحدث، أن المخبر يستعين في كل مرة بالأساتذة والباحثين المهتمين بالمخطوط والتاريخ لمساعدتهم على فهرسة وقراءة المخطوطات، لأن الإطلاع عليها صعب جدا بحسبه ويتطلب وقت كبيرا ناهيك عن اختلاف أنواع الخط الذي تحتاج إلى متخصص لفك شيفرة الكتابة.
وأشار، إلى أن عمال مخبر المكتبة يسهرون على فهرسة المخطوطات بنوعيها التقليدي والآلي بالاعتماد على نموذج الفهرسة «ديوي» الذي يحتوي على جميع عناصر الوصف المعيارية « عنوان المخطوط و اسم المؤلف و سنة وفاته و اسم الناسخ وتاريخ النسخ، إضافة إلى عدد الأوراق و مصدر المخطوط و حالته.. وما إلى ذلك».
وأكد تومي، أن المخبر يتعاون مع هيئات وطنية في مجال فهرسة المخطوطات، وهذا كفيل حسبه، بتبادل الخبرات و التجارب واكتساب معارف جديدة.
مخطوطات تستقطب باحثين من داخل وخارج الوطن
وأضاف محدثنا، أن أهم المشاكل التي واجهت الموظفين أثناء قيامهم بعملية الفهرسة، هي صعوبة تحديد المدة الزمنية للمخطوط، وذلك لأن أغلب الوثائق مبتورة أو تالفة وملتصقة بسبب الرطوبة، أو غير واضحة.
ويجب بحسب المتحدث، التعامل مع المخطوط كالطفل الصغير، وتعقيمه قبل رقمنته والاعتماد على تقنية التبريد من أجل حفظه لأطول مدة زمنية، ويفضل كما قال، عدم إضافة أية تعديلات عليه « إضافة ورقة أو تغيير الغلاف»، لأن ذلك سيفقده قيمته الفنية والتراثية.
وأكد كذلك ، بأن التكنولوجيا لها دور كبير في المحافظة على المخطوط من مختلف العوامل الطبيعية و البشرية، مشيرا إلى أن نسبة قليلة فقط من المخطوطات المتوفرة لم تستفد من الرقمنة، بسبب تعرض أوراقها للتلف والتآكل بفعل الرطوبة وحشرة الأردا.
وأضاف، أن الهدف من الرقمنة هو تسهيل عمل الباحثين والأساتذة دون إلحاق الضرر بالمخطوط، و تقديم المعلومات لأكبر عدد من المستفيدين، والتعريف بالموروث الثقافي مع المحافظة عليه، و نشر الوعي الثقافي خاصة في أوساط الشباب وتكريس الاهتمام بهذا المصدر المعلوماتي.
وأوضح المتحدث، أن المخطوطات الموجودة في المخبر، استقطبت عددا كبيرا من الباحثين سواء من داخل أو خارج الوطن، وذلك لأنها نادرة وقيمة.
50 مخطوطا بمعهد القراءات وحده
و إلى جانب المكتبة الجامعية، يعرض معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس للقراءات، ما يقارب 50 مخطوطا، يعود تاريخها إلى أكثر من 7 قرون، وهي محفوظة بإحكام داخل خزائن زجاجية، يمكن تشبيهها بكبسولات زمنية تضمن لمن يقترب من محتواها ويطالعه رحلة ممتعة في عوالم التاريخ والمعرفة وأثر الأولين، وهو ما أكدته مسيرة المكتبة للنصر، قائلة بأن الكنوز الموجودة على رفوف خزائن المعهد قيمة ونادرة، تستقطب الباحثين والطلبة المهتمين بالمخطوطات من كل حدب وصوب.
وأضافت المتحدثة، أن جل المخطوطات المجودة، تصب في تخصصات متنوعة كالأدب و النحو و التفسير و العقيدة و المصاحف، وهذا ما يجعلها معيارا لقياس مدى تطور البحث العلمي بمدينة قسنطينة، كما تفتح المجال لأكبر عدد من الباحثين لدراستها وإعادة قراءة التاريخ و الاستفادة منه.
وأكدت، أن المكتبة تمتلك عددا معتبرا من المخطوطات القرآنية، و تضم مصاحف كاملة ومجموعات مجزأة، وتؤرخ أقدم هذه المخطوطات وهي قصاصات وأوراق منفردة لأكثر من 7 قرون خلت، تُنسب إلى كُتّاب وخطاطين مشهورين كما يؤكده مرارا باحثون يقصدون المعهد للاطلاع عليها. وأضافت المسيرة، أن التراث المخطوط يمثل جزءا هاما من تاريخ وحضارة المدينة، وميراثا للأجيال المتعاقبة، لذلك يحظى باهتمام كبير من طرف الباحثين والدارسين.
وثائق نادرة بمكتبة جامعة منتوري
وتحوز مكتبة جامعة منتوري كذلك، على 18 مخطوطا وذلك بحسب ما وقفنا عليه خلال زيارتنا إليها، حيث تحفظ في خزانة مدير المكتبة، و قد تم الحصول عليها عن طريق الهبة، وتتناول موضوعات عديدة أغلبها في النحو والأدب والدين.
ومن بين عناوين المخطوطات التي تمت فهرستها، الجواهر الحسان في تفسير القرآن « معجم شرح ما وقع فيه من الغريب»، رونق التفاسير، بهجة النفوس وتحليلاتها بما فيها وعليها، الميزان و شرح جمع الجوامع لنتاج الدين السبكي»، إلى جانب «شرح مختصر عن ألفية ابن مالك، وشرح لامية الأفعال»، وكذا «شرح مقصورة ابن دريد و كناش و فتح اللطيف في شرح أو جوزة الكودى في التصريف»، فضلا عن مخطوطات بعناوين « المطلع شرح كتاب البيطاغوجي في علم المنطق»، و « هوامش على الشرح المنصوب لعصام الدين إبراهيم على رسالة الاستعارات للسمر قند»،و « شرح على الرسالة الوضعية العضدية».
وأكد مدير مكتبة جامعة منتوري قسنطينة01، عثمان بلغيث، أن البحث في مجال المخطوطات يعد من أهم المجالات التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين، وأن ما خلفه علماؤنا المتقدمون من المخطوطات يعد بالملايين، وما يزال معظمها قابعا في خزائن المخطوطات والمكتبات، يحتاج لمن ينفض عنه الغبار، ويبعث فيه الحياة من جديد.
وأضاف المتحدث، أن سبب جذب المخطوطات للدارسين هو قيمتها العلمية والفنية، إضافة إلى كونها جزءا هاما من التراث الوطني والحفاظ عليها يعني الحفاظ على الهوية القومية، و تأسف لعدم اهتمام طلبة جامعة منتوري بالمخطوطات المتوفرة، في حين يجهل آخرون وجودها أصلا ويعتقد قطاع آخر بأن المخطوطات لا تتناول غير المواضيع الفقهية والتفاسير، ويجهلون أنها ثرية و تشمل جميع المجالات التي قد تفيدهم في أبحاثهم. ويطمح مدير المكتبة مستقبلا، إلى زيادة الوعي بأهمية هذا الكنز المعرفي و تعميم استخدامه بين الطلبة الباحثين، خصوصا وأنها مخطوطات تؤرخ لماضي مدينتهم العريقة.
ل / د