السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

قراءة في قصيدة: «خُذْ وأعطِني» لخالد كاكي

جدليّــــة التّخلـــــِّي والتّــــوخّـــِي

تأتي قصيدة «خُذْ وأعطِني» الصّادرة ضمن مجموعة: «رماد شجر الرّمّان» للشّاعر العراقيّ «خالد كاكي» لترصد ثنائيّةً خِطابيّةً تتبدّى منذ عنوانها المنقسِم إلى شِقّيْن، يتضمّن أوّلهما صيغةَ أمرٍ قاطعةٍ تفيد الإقصاءَ والتّخلِّي: «خُذْ»، ويتضمّن ثانيهما صيغةَ أمرٍ قاطعةٍ أيضا، تفيد الطّلبَ والتّوخِّي: «أعطِني».  يأتي هذا العنوانُ المنشَقُّ ليشطر القصيدة كلَّها إلى عالميْن متصارعيْن؛ عالم الأمجاد الثّقيلة، والتّاريخ السّحيق أو القريب، المتخَم بالانتصارات والهزائم المدوِّية، والصّخب، والضّجيج.  وعالم التّفاصيل الصّغيرة، والأحلام البسيطة، والفرح، والحياة.

بهاء بن نوار

يبدو الشّاعرُ شديدَ النّفور من العالم الأوّل، منحازا أشدَّ الانحياز نحو العالم الثّاني، فيبدأ نصَّه هكذا:
«خُذْ لحيةَ حمورابي    
وخوذةَ سرجونَ الثّقيلة
وأعطِني قاربا سومريّا
أصطاد به السّمكَ»
وتبدو من خلال هذا الافتتاح فداحة الفجوة الفاصلة بين العالميْن؛ فعالم الصّخب ضخمٌ، ثقيلٌ، يستدعي إلى أذهاننا صلابة الصّخر وجمودَه؛ فخامتَه، وفراغَه، فتبدو شرائعُ حمورابي متضخِّمةً وطاغية، صحيحٌ أنّها صارمةٌ، لكنّها قاسيةٌ، ومُقوْلَبَةٌ، ومُفرَغةٌ من أيّة روحٍ أو حياة، وتستجلب خوذة سرجون الأكديِّ بقيّة عدّته وأسلحته الملطّخة بدماء ضحاياه وأشلائهم.
يأتي هذان العلَمان ليرسما حدودَ تاريخ البشر الدّمويِّ، الذي تُسوِّره القسوةُ، ويكسوه الظلام، وهو وياللأسف التّاريخ الوحيدُ، المعلَن، والرّسميُّ، في مقابل تاريخٍ آخر مُوازٍ، ومُهمَّشٍ، ومسكوتٍ عنه؛ هو تاريخ المنسيّين، والكادحين، الذين يومئ الشّاعرُ إليهم بذاته مُتقمِّصةً روحَ صيّادٍ سومريٍّ، يجذِّف بهدوءٍ، ويلقي أحماله كلَّها على البخت والنّصيب، غير مُبالٍ إن حالفه الحظُّ، فعاد بشباكٍ ملأى، أو خانه، فعاد بها فارغة، فحسبه لحظة التجذيف، والتّرقُّب، الفاصلة بين الخيبة والقنص؛ حسبه بها فسحةً زئبقيّةً بين حاليْن كلاهما مُرْضٍ ومُريح.
   ويستمرّ الشّاعرُ في خطابه التّرجيحيِّ مُفصِّلا ملامحَ العنف المنفِّرة له، ومارّا بمحطّاتٍ تاريخيّةٍ ناتئةٍ، تشهد لحدِّ اليوم على جبروت أصحابها، ونفوذهم؛ كأسوار مدينة بابل العالية، وقصر باب الذّهب العباسيّ، وإيوان كسرى الفارسيّ، وعصابات العيّارين المكدِّين، وبيانات السّلطة تمليها الصّحافة، وترجِّعها الإذاعة:
«خُذْ أسوارَ بابل
وقصرَ باب الذهب
خُذْ إيوانَ كسرى
خُذْ جوقةَ الشطّار من حيِّ الطرب
خُذْ بيانات القيادة
من طاولة المذيع»
ويعلو صوته متوغِّلا أكثر في عالم الصّخب المدوِّي، رافضا كلَّ ما فيه، متخلِّيا عنه؛ من حماسيّاتٍ فارغة، وأسلحةٍ تافهة، وانتصاراتٍ بلهاء، وشعاراتٍ جوفاء، ولغةٍ دمويّةٍ مريضة، تحتشد مفرداتُها عصفا وتهديدا، ولا يني هذا العالم الهشُّ يهتزّ أمام أعيُننا من وقع خيول الحرب تعدو فيه ناهبةً الأرضَ التي أنهكتها سُرَفُ الدّبّابات، واختلط طينُها بدماء قتلاها، الذين ملأت أسماؤهم صفحات الجرائد.  إنّه عالَمٌ مُقبِضٌ، مُشوَّهٌ، سماؤه مُلوَّثةٌ بالبارود، والهدوءُ فيه مُفتقَدٌ، فلا يُسمَع سوى أزيز الطّلقات وهديرها.
هذا باختصارٍ هو العالَم الذي ينفر منه الشّاعرُ، ويستغني عنه، ولا يريده، وهو – وياللمفارقة! – مُغرٍ جدا رغم زيفه وبؤسه الفاضحيْن، غير أنّه لا يُغري سوى مُسطَّحي الوعي، مُشوَّهي الذّهن، ممّنْ غابت عنهم كينونتُهم، وتشظّى جوهرُهم.  
فما الذي يريده الشّاعرُ إذن؟ وما هو العالَمُ الحقيقيُّ الذي تلتئم فيه ذاتُه، وتسكن أجزاؤه؟
     إنّه عالمُ الهدوء والبساطة، الذي أومأ إليه بدءا بذاتِ الصّيّاد السّومريِّ، وأتبعه بذاتِ بلبلٍ صَموتٍ أنهكَ صوتَه هديرُ الحروب:
«وأعطني بلبلا
أخرستْه طبولُ الحرب»
 وحرفٍ حجريٍّ صوفيِّ الأنفاسِ، مُزهِرٍ:
«وأعطني حرفا حجريّا
يُزهِر في حديقة الحلّاج»
 وسنبلةٍ راقصةٍ:
«وأعطني سنبلةً لامعةً
تعلِّمها الرقصَ
نسائمُ الشمال»
 وشموسٍ مُرتقَبَةٍ:
«خذ الدمَ والقتلى
من جريدة المساء
وأعطني
شموسَ نشرة الأنواء»
وكحلٍ أنثويٍّ فاتنٍ:
«خذْ
كلَّ بارود العالم
وأعطني حكلا
لعيون كلِّ النساء»
 وعناقٍ مائيٍّ دافئٍ:
«خذْ أزيزَ الطلقات
وأعطني
سكونَ تقبيل دجلة للفرات»
في هذا العالم الحميم سكونٌ، وألفةٌ، وخفّةٌ، وبهجةٌ، وجمالٌ، وتفاصيلُ يوميّةٌ، لا تحتاج الكثيرَ لتتجلّى...  فيه بساطةٌ يصنعها الكادحون، وتبثّها الطّبيعة البكر، التي تُغدق على الجميع، وينال خيرُها الكلَّ دون استثناءٍ؛ فيه صمتٌ، وعذوبةٌ، يشتهيان الحياة، وينشدان الكينونة، ويحنّان إلى الأصل والجوهر الأزليّ، حيث تنتفي الأطماعُ، وتختفي المنافساتُ، التي هي أصلُ شُرور العالَم الأوّلِ؛ عالم الثّرثرة، والصّخب، والكتل الثّقيلة، والقوالب الجامدة، وهوس الامتلاك والإنجاز.    وهنا تكمن المفارقة الأولى: فالفرح اليوميُّ الهادئ، مُفتقدٌ، وغيرُ مُتاحٍ، رغم بساطته، وزهد ثمنه، بعكس ذاك الدّويِّ الزّائف، المكلِفِ جدّا، والمستولي على الشّقِّ الأرحب من الرّاهن والمتحقِّق؛ إنّه الصّخبُ المبتلِعُ طاقاتِ الحياة، والمصادِرُ بهجتَها، وبلغةٍ أسطوريّة: إنّه عصرُ الحديد الذي يختم العصورَ كلَّها، ولا شيء فيه سوى الضّنك، والعناء.  وتأتي المفارقة الثّانية من تلك الفوضى العبثيّة، وتبعثر الأولويّات وبؤر الحضور بين كلٍّ من المركز والهامش؛ فما يُفترَض أنّه مركزيٌّ في وجود الإنسان انقلب إلى هامشيٍّ مُقصى، ومُغيَّب، وما نحاول الاتّفاقَ حول شرِّه وسوئه كان دوما محورَ الاهتمام وغاية الطّلب!  أمّا المفارقة الثّالثة فتبدو من خلال تلك الصّيغة الخِطابيّة الموحية بنفَسٍ حواريٍّ يطبع القصيدة كلَّها، غير أنّها كما يبدو حواريّةٌ مُعطَّلةٌ، لا يمثل فيها سوى طرفٍ واحدٍ من طرفيْ الخطاب، هو المتكلِّم أو المخاطِب، الذي يتبدّى من خلال ذات الشّاعر؛ الرّائي، الذي يلمح جوهرَ الأشياء، ويلتقط تناقضاتها، أو الفرد البسيط، الكادح في يومه، والباحث عن الفرح والاكتفاء، بينما يخرس المخاطَبُ، ويلتزم الصّمت، ممّا يطرح السؤالَ مُلِحّا حول هويَّته: فمَنْ يكون؟ هل هو الإله؟ هل هو الزّعيمُ ورجلُ السّياسة؟ هل هو الأخ الأكبر؟ وكلّ مَنْ يملك السّلطة والنّفوذ؟
قد يكون واحدا من هؤلاء، وقد لا يكون سوى الشِّقِّ المظلم، والشّرّير في نفس كلِّ واحدٍ فينا، ممّا ينسف البُعدَ الحواريَّ هنا، ويعيده إلى الصّوت الأحاديّ، المفرَد، وهو ما يُشكّل المفارقة الرّابعة، التي تخاطبُ فيها الذّاتُ ذاتَها، وتحدِّق في وجهيْ تكوينِها: الخير الممكن، والشرّ الكائن، أو الشرّ الممكِن والخير الكائن، ومن هنا يأتي المعنى الفلسفيُّ العميقُ الكامنُ خلف صورِ هذه القصيدة ومشاهدها الشّعريّة، والمحاكي طاقتيْن مفصليّتيْن من طاقات النّفس ونوازعها: طاقة الحياة والامتلاء، وطاقة الموت والفراغ.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com