الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 الموافق لـ 1 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

الثامن ماي.. هل أنصف المتخيل الذاكرة؟

عُقدت، على مدى سنوات، ملتقيات وندوات ومؤتمرات تناولت أحداث ومجاز الثامن ماي 1945، وأُنجزت دراسات وبحوث وكُتُب حول هذا الحدث التّاريخي المفصلي في تاريخ الجزائر. لكن بالمُقابل والموازاة مع هذا الاِشتغال البحثي والأكاديمي، هل اِشتغلت المدونة الأدبية وعلى وجه التحديد الرواية الجزائرية على أحداث ومجازر الثامن ماي 1945؟ هل اِستحضرتها وتناولتها واستثمرتها أدبيًا وفنياً؟، أم ظلت حبيسة الأوبيرات التي تتكرر مع كلّ ثامن ماي وفي مناسبات وطنية أخرى، بسياقات ومعطيات فنيّة وتاريخيّة مختلفة؟ وهل توجد علاقة بين النص السردي والذاكرة؟ وهل يمكن الإشارة مثلاً إلى رّوايات تاريخية مفصلية تناولت تاريخ وأحداث ومجازر الثامن ماي، واهتمت بهذه الحوادث اِهتمامًا أدبياً فنيًا، ومن خلاله أعادت بناء الوقائع معتمدةً في ذلك على ما توفر من وثائق تاريخية، ومن جهةٍ أخرى على قدرة الكاتب على التخييل؟ أم أنّ هذه الأحداث ورغم أهميتها المفصلية في تاريخ الجزائر وفي المرتكز التّاريخي الوطني ظلت الغائب الكبير في المتخيل الأدبي الجزائري بِما لها من انزياحات سياسية وفكرية واجتماعية واقتصادية. ثم لماذا الرؤية لأحداث ماي تنحصر غالباً في الاِحتفالية التكريمية للحدث وهو ما تعبّر عنه بعض الأوبيريت التي تناولت الموضوع، ورغم أهمّيتها الفنية، إلاّ أنّها لا ترقى في الكثير منها إلى درجة تثبيت الرّؤية الفنية والتّخييلية الدافعة للحدث التاريخي إلى مدارات النقاش والمُساءلة وتحديد الأُفق الجمالي له. وبالتالي كما يقول الدكتور تحريشي فإنّ أحداث الثامن ماي تحوّلت إلى رمز وأيقونة، ولهذا اِكتفت الكثير من النصوص الروائية بالإشارة إليها معتمدةً أسلوب التكثيف الدلالي والرمز والإيحاء، ولم تشكل هذه الأحداث موضوعًا لنصوص سردية بعينها. حول هذا الشأن " يتحدث بعض الكُتّاب والنقاد في ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد.

أعدت الملف: نـوّارة لــحرش

* الناقد محمّد تحريشي
رمـــز وأيقونـــة لـم تُشكّل موضوعًا لنصــوص سرديــة بعينهــا
يقول الناقد وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار، الدكتور محمّد تحريشي: "اِهتم المبدعون بالتاريخ وبالوقائع التّاريخيّة التي شكلت مجالاً خصباً للكتابة الروائية، وأصبح توظيف التاريخ في الرواية دليل نضجٍ ووعي لدى الروائي بتاريخه وبهويّته ومكّنه كلّ ذلك من الإجابة على الكثير من أسئلة الماضي والحاضر والمُستقبل، وأسئلة الواقع والمُتخيّل. بل إنّ الروائي قد يهتم بالمسكوت عنه عند المُؤرخ فيحوّلهُ إلى فرضيات ووقائع تحقّق عبر عملية التخييل، أو أنّ المُبدع قد يُرمم ما خربه المُؤرخ أو أعاد بناءه بطريقة فيها الكثير من التباهي والإعجاب أو حتّى المُبالغة والمُجاملة والإطراء، أو حتّى التدليس والطمس خدمةً لغاية سياسية أو مذهبية أو حربية أو ما إلى ذلك".
مُضيفاً في ذات السياق: "تعتمد الكتابة الروائيّة عن التاريخ أو الوقائع التّاريخيّة على الوثائق، فيستثمر الروائي الوثيقة التّاريخيّة حتّى تبدو الأحداث في روايته أقرب للواقع ولحقيقته وتتمكن من الإجابة عن أسئلته. وتعتمدُ هذه الكتابة أيضاً على المُشاهدة والمُعاينة لأماكن وقوع الأحداث، ومقابلة الشهود أو مِمَّن عايشوا هذه الوقائع وصولاً لواقعية الأحداث وديمومة حقيقتها. ثمّ إنّها تقوم على التخييل الّذي يُمكِّنُ الروائي الاِنتقال من الحقيقة الواقعية ليصل إلى الحقيقة الإبداعية، حقيقة النص الروائي نتيجة استراتيجية الكتابة واستراتيجية القراءة في آنٍ واحد".
صاحب "أدوات النصّ"، يرى في هذا المعطى، أنّ الرواية الجزائرية اِهتمت بالتاريخ، وكان من جُملة ما اِهتمت بهِ تاريخ الجزائر الحديث، فكانت وقائع المقاومات الشعبيّة والاِنتفاضات المُتلاحقة مَعينًا لا ينضب، وخاصةً في فترة تشديد الرقابة على الكتاب بطريقة ذاتية. فتوجه الكثير من الكُتّاب -حسب رأيه دائماً- للكتابة عن التاريخ للبحث لهم عن متنفس، وللبحث عن مجدٍ ضائع أو ترقية لصنيعٍ أو فِعل، أو لتجاوز الواقع المعيش، فاِعتمد المبدعون على الاِنتقاء والاِختيار والاِصطفاء من الوقائع وما يُناسبهم. مُشيراً، في هذا الاِتجاه، إلى أنّ الكتابة الاِنتقائية للتاريخ جعلت بعض الكُتّاب في موقع الاِتهام وكأنّهم يخدمون أجندات معينة ومُحدّدة.
وبالمُقابل يعتقد -ذات المُتحدث- أنّ حوادث الثامن ماي 1945 التي ذهب ضحيتها قوافل من الشهداء الجزائريين كان يمكن أن تكون خزانًا لنصوص روائية عديدة. وهُنا يُضيف قائلاً: "أكاد أجزم، وفي حدود ما قرأت من نصوص روائية جزائرية، وهي ليست بالقليلة، أنّ هذه الأحداث تحوّلت إلى رمز وأيقونة، ولهذا اِكتفت الكثير من النصوص الروائية بالإشارة إليها مُعتمدةً أسلوب التكثيف الدلالي والرمز والإيحاء، ولم تُشكل هذه الأحداث موضوعًا لنصوص سردية بعينها. وقد نلتمس أسباب وبعض الدوافع لهذا العزوف أو السكوت أو التكثيف أو الإجمال، فقد غطت حوادثٌ عِظام على هذه الحوادث، ولعلّ الثورة التحريرية وأمجادها ونتائجها وانعكاساتها على الواقع في الجزائر، جعلت الكُتّاب يلتفتون إليها أكثر ويُولونها العناية والاِهتمام أكثر من غيرها من الوقائع التّاريخيّة".
وأردفَ مُستدركاً: "لا نُجانب الصواب إن قُلنا إنّ بعض الأحداث التّاريخيّة قد تستعصي على الكتابة الروائيّة لضخامتها وعظمتها ولهالة التقديس التي أُحيطت بها، وحتّى إن حاول أحدهم أن يتقرب منها فقد تتحوّل نصوصه إلى سجلات للتاريخ قبل أن تكون إبداعًا، ولعلّ الطريقة المرغوب فيها هي تكثيف الأحداث والتعويل على دلالتها وقدرتها على الإيحاء ومد ظلالها الرمزيّة، كما قد تؤدي قُدرة المُبدع على حسن اِستثمار الواقعة التّاريخيّة دوراً مُهمًا في علاقة الرواية بالتاريخ".
واختتم مُستحضراً بعض الأعمال التي تناولت تيمة مجازر الثامن ماي، قائلاً: "ومن ها هنا يمكن ذِكر بعض التجارب على سبيل المثال لا الحصر كواسيني في رواية (كِتاب الأمير)، والسائح الحبيب في (تلك المحبّة). وعز الدين جلاوجي في (الرماد الّذي غسل الماء) وهي راوية تعبق بالتاريخ، فهواها الثامن ماي 1945، وماؤها وشخصياتها وأحداثها وأمكنتها وزمانها جميعها الـثامن ماي 1945. وقد غطت جانبًا مُهمًا من تاريخنا في صورة فنية. وكشفت عن بعضٍ من المسكوت عنه من تاريخ الجزائر الحديث".

* الكاتب محمّد بن زيان
الأحـــداث كانـــت نقطـــة تحوّل في مســـار بعــض الكتّــاب
يؤكد الناقد والكاتب محمّد بن زيان، أن ما يتفق حوله الدارسون لمسار الأدب الجزائري وخصوصًا في السردي منه، أنّه قد عرف اِنطلاقته الفعلية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. حيثُ ظهرت نصوص قبل ذلك، نصوص سردية بالفرنسية خصوصًا كالتي كتبها ولد الشيخ محمّد، وشكري خوجة... ولكن التحوّل بدأ مع أسماء ستبرزُ مع نهاية أربعينيات القرن الماضي. اِستيعاب ذلك يُعتبر مدخلاً ضروريًا للتطرق لموضوع أحداث الثامن ماي في النص الروائي الجزائري. والأحداث غائبة حسب الاِطلاع الّذي ليس مستوفيًا لشرط الشمول الّذي يُؤهل للحديث عن كلّ ما أُنجز باللغتين العربية والفرنسية".
ثمّ اِستطرد قائلاً: "الغياب لا ينفي حضوراً لِمَا يحف ويلتبس بتلك الأحداث من مُلابسات وحيثيات، نرصدها في الثلاثية الأولى لمحمّد ديب بِمَّا رسمته عن ظروف تلك المرحلة، وشكلت تلك الأحداث محطة تحوّل لأسماء كمالك حداد الّذي أشار لأثرها عليه وعلى كاتب ياسين الّذي تعرض للاِعتقال عقبها وتركت أثراً فيه ولقد حضرت في أشعاره الأولى وفي مسرحيته (الجثة المطوقة). الأحداث أثرت، فهي حاضرة في التحوّل الّذي حدث، تحوّلاً مُتعدّداً سياسياً وثقافياً، تحوّلاً في الإبداع والتلقي، في المخيال، تأثيراً حملته تيمات وحمولة النصوص التي توالى صدورها من طرف من سيصبحون رموزاً أدبية. ومثلاً في جواب عن سؤال حول علاقة جون موهوب عمروش بأحداث الثامن ماي، قال الدكتور محمّد لخضر معقال: (علاقة كبيرة، وليست علاقة سطحية، ولكنّها تُقرأ في أعماق تأويل التاريخ، فهو يعتقد أنّ المجتمع الجزائري عامة، تسوده فكرة الموت وعدم وجود آفاق التطوّر والاِندماج في السياسة الجديدة التي كانت في الثلاثينيات من القرن الماضي تتبلور في الأوساط المُثقفة في فرنسا، وهي سياسة المُواجهة، وهذا شيء غير معروف عندنا على الإطلاق".
صاحب "متاهة المغراوي" أشار إلى أنّ هناك ملاحظة متصلة باِختزالنا للتاريخ في فترة مُحدّدة، ونفتقر بالتالي لحضور بقية الفترات التّاريخيّة ويغلب على التاريخ في التعاطي والاِستحضار فترة الثورة، وربّما لذلك عِدة أسباب كانت لها مبرراتها في العقود السابقة.
أيضاً -وحسب ذات المُتحدث- فإنّ لخضر معقال أشار إلى: (أنّ التواريخ المُسجلة ضمن رزنامة الاِحتفالات الرسمية لا تضم بعض التواريخ التي تمّ تجاهلها لفترة طويلة، لكن الأمر يتعلق بغياب الإجماع حول تاريخ محدّد يُحتفل به من قِبل الجزائريين ويُركز على مناسبة مُحدّدة تختزل الأحداث في رمزية تتجاوز تعدّد التواريخ).
وخُلاصة قول بن زيان، أنّ الكثير من حلقات تاريخنا غائبة إبداعيًا، غيابًا أثر على تمثلاتنا للتاريخي، وعلى المنجز الإبداعي الّذي يستمد قوته من قوّة حمولته ومن اِمتصاصه المُبدع للذاكرة التي بتمثلها جماليًا يتحقّق التعافي الحضاري ويتحقّق التماسك الوجودي. والصياغات الجمالية محورية في تشكلات الهوية.

* الناقد عبد الحفيظ بن جلولي
القريحـــة الوطنيـــة لم تدرج هذا الحــدث ضمــن بانورامــا التخييــل
يؤكد الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي، أن التاريخ: "يُشكل العنصر الأبرز في نسج هوية الإنسان العالق بين تمثّلاته الواقعية على مسرح اللحظة والرّاهن في عالمه وكيانه، وبين ذاكرته التي تُصرّ على اِستمرار حضورها في الآن والرّاهن، وبين هذا وذاك ينبثقُ سؤال اِستثمار الذاكرة فنّيًا وجماليًا، والحفاظ على اِستمرارها كمكوّن أساس في دفع الذّات نحو اِستبصار مناطق اِنطلاقها وأيضًا مناطق اِنكسارها، وعند هذا المستوى نستطيع أن نستبين الرّواية كفضاء لتفجّر الذّاكرة وترتيب مستويات تحقّقها كهوية مُستمرة مع الإنسان من حيثُ كون اللّغة هي العلاقة التي تربط الفكر والخيال بمحيط الذات وتنوّعاته واختلافاته ووحدته أيضًا".
مُضيفًا في ذات السياق: "إنّ التاريخ الوطني بكافّة أحداثه كما كلّ تاريخ لشعب من الشّعوب لا يمكن أن يبني اِرتباطاته بوجدان الإنسان إلاّ إذا تمّ تداوله ومُناقشته وتحريره من إسار الرّسمية الثابتة، وهو ما يمكن للرّواية كإطار يشتغل أساسًا على اللّغة أن تلعب دوره، لأنّ التاريخ على مستوى النص الرّوائي هو فِعل الخيال الّذي ينظر إلى الوقائع الثابتة في مستوياتها الأشد عُمقًا واختلافًا ومُساءلة".
فالرّواية، -حسبَ رأيه- لا تعنيها الحادثة التّاريخيّة في حدوثها الواقعي والمُثبت بالرّقم والواقعة والأشخاص لأنّ ذلك من مهام المُؤرّخ. بل الرّواية، -كما يُضيف- تُساهم في تحريك بوادر التّفكير في الحادثة اِنطلاقًا من تشظيها والتفكير فيها على مستوى الخيال، لأنّ هذا الأخير يعتمد على ما جمعه الوهم وحشده من صور لتركيبها وتوحيدها كما بيّن ذلك كوليريدج في تفريقه بين الخيال والوهم.
وهنا ذهبَ -ذات المُتحدث- إلى القول: "إنّ أحداث الثامن ماي 1945، تُعتبر تاريخيًا من الأحداث المفصلية في التاريخ النضالي الوطني، مفصلية بمعنى أنّها كرّست في الوعي الوطني أهمية الثورة كجسرٍ للاِستقلال الوطني، لأنّ إخلاف المُستعمر لوعوده خيّب أُفق الوطنية الفاعلة وفجّر الوعي بالثورة كطريق لاِستعادة الوطن، ومن هُنا تنبع أهمّية هذا الحدث التاريخي، الّذي إن حافظ على شيء من اِستمراريّته فذلك يعود فقط لقوّته الذاتية وحضوره القوي في التاريخ، فمجرّد الإبلاغ به لا يكفي، لأنّه شكّلَ مسار ذاكرة ووجودية وطن وحركة إنسان، هذه القيم رسمت جوهر رؤية الجزائري لذاته في لحظة من لحظات التاريخ الحاسمة".
صاحب "الهامش والصدى" اِستدرك مُتسائلاً ومُوضحاً في آن: "لكن هل اِستطاعت القريحة الوطنية أن تُدمج هذا الحدث ضمن بانوراما التّخييل، ولعلّ الرّواية من أهم عناصرها، لكي فعلاً نجيب عن هكذا سؤال لا بدّ وأن نحصي النصوص ونتتبّع أثر الحادثة التّاريخيّة فيها، وهو ما يجعل للتراكم أهمّيته في عملية التوثيق لأحداث الثامن ماي 1945، وفيما قرأت لم أجد نصًا روائيًا يُساءل ويُراكم الرؤية الفنية للثامن ماي".
وفي ذات المعطى أضاف: "طبعًا كانت فترة السّبعينيات وإلى منتصف الثمانينيات تُمثل المرحلة القوية في تواصلها بالتاريخ الوطني على مستوى الإنتاج الفني، لكن الاِستثمار الفنّي والتّخييلي في الحدث كما ترومه النّخب لم يكن بتلك الأهمية والفعّاليّة لغلبة الإيديولوجية على المواقف في الرّؤية للتّاريخ الوطني. وهذا ما جاء على حساب التفجّرات الجمالية لإدراك الأحداث التّاريخيّة من زوايا مُختلفة".
ذات المُتحدث واصل في ذات النقطة: "يبقى التراكم وحده كفيلاً بأن يصنع بداهة الرّؤيا الفنية وتغيير زاوية التعاطي مع الحدث، لأنّ اِختلاف سياقات المُعالجة الفنّية والتّخييلية للحدث التّاريخي هي التي تُمكِّن الباحث والقارئ من تشكيل هوية مختلفة لقراءة التاريخ. ولهذا أرى أنّ الرؤية للتاريخ ومنها لأحداث ومجازر الثامن ماي اِنحصرت في الاِحتفالية التكريمية للحدث وهو ما تُعبّر عنه الأوبيريت كعنصر ترفيهي له أهمّيته الفنيّة طبعاً، لكنّه لا يرقى إلى درجة تثبيت الرّؤية الفنية والتّخييلية الدافعة للحدث التّاريخي إلى مدارات النقاش والمُساءلة وتحديد الأُفق الجمالي له".
وفي الأخير اِختتم بقوله: "في ما أذكر، وفي ما قرأت، فإنّ الرواية التي تتبعت فيها الحدث بحذافيره هي (حوبة) للرّوائي عز الدّين جلاوجي، وقد تكون هناك روايات أخرى لم أطلع عليها، ومهما يكن فإنّ جريدة النصر تكون بإثارتها لموضوع الثامن من ماي وعلاقته بالسّرد الرّوائي قد دقت ناقوس الخطر التنبيهي إلى حالة من حالات الموات الجمالي في إدراكنا للقيم الوجودية التي حرّكت عناصر العلاقة مع الذات في توتراتها الخلاّقة، وحالاتها الأشدّ اِرتباطاً بالأرض والوطن، وعلاقة كلّ ذلك باِستمرار الذات الوطنية الرّمزيّة على مستوى الوعي والواقع التّاريخي".

* الأكاديمي نبيل دحماني
الروايـــة لم تلتفــت إلى مراحـــل سابقــــة لثــورة التحريــر الكبــرى
يرى الكاتب والباحث الأكاديمي الدكتور نبيل دحماني، أنّ أحداث الثامن ماي 1945، شكلت منعرجًا حاسمًا في تطوّر الحركة الوطنية والتوجه إلى اِبتكار وسائل أكثر فاعلية في مواجهة الاستدمار الفرنسي، وفي ترجيح الكفة لدُعاة العمل المُسلح والاِستقلال الوطني على حساب التوجهات الأخرى، التي أثبتت بُعدها عن واقع تطوّر المجتمع الجزائري الّذي خَبِرَ التضحيات الجِسام التي قدمتها الشعوب الأوروبية في اِستعادة اِستقلالها من القِوى الفاشية والنازية الناشئة في بداية القرن العشرين. كما اِكتشف أبناء هذا المجتمع الوسائل الحديثة في المُقاومة المسلحة ودور القوّة الفعلية في ترجيح الكفة لإرادة المجتمع.
وهو ما كان -حسب رأيه-، يفتقد إليه في الأعمال الروائية الأولى في الجزائر سواء التي كُتبت بالفرنسية أو العربية. فقد اِشتغل الروائيون الجزائريون -كما يقول- على إبراز ويلات الاِستعمار ودور النخبة الثورية المرتبطة بِمَّا بعد أزمة حزب الشعب وصعود جبهة التحرير الوطني في التحرير والتصدي للمستعمر، دون الاِلتفات إلى مراحل سابقة عن الثورة التحريرية الكُبرى.
مُواصلاً في ذات السياق: "قليلة هي الأعمال الروائية الجزائرية التي تناولت ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي إذا اِستثنيا أعمال مولود فرعون، مولود معمري ومحمّد ديب وكلها بالفرنسية، ثمّ رضا حوحو بالعربية. ويُعد محمّد ديب الوحيد الّذي اِستطاع التعمق في محاولة فهم هذه المرحلة من خلال ثلاثيته المعروفة (النول)، (الحريق)، (الدار الكبيرة). حينما تطرق دون مزايدة تاريخية أو سياسية لواقع المجتمع الجزائري في فترة هامة من حياته، غير أنّ أحداث الثامن ماي ظلت الغائب الكبير في المتخيل الأدبي الجزائري بِمَّا لها من اِنزياحات سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة. وحتّى النماذج الروائية التي كُتبت بعد الاِستقلال باللغتين كرست الخلفية المناسباتية والتأبينية للحدث. وكأنّ الأحداث لم تكن في مجتمع يُكافح من أجل أن يعيش بحد أدنى من الكرامة، ولكن كان يعيش فقط من أجل أن يقمعه الاِستعمار، بقدر ما كتبت على أنّها الدافع لإشعال فتيل الثورة التحريرية".
في حين -وحسب ذات المتحدث- فإنّ الفارق الزمني المُمتد على مدى عقد لم يخلو من الأحداث المُشابهة للثورة أو المُستنسخة من أحداث ماي العظيم، بل هناك ما يُكرس على أنّ الأحداث وقعت في يومٍ واحد لا غير، وفي مُدن وقُرى بعينها، لكن تداعياتها اِمتدت على مر السنوات اللاحقة لها، وقد تكشف الدراسات التّاريخيّة مستقبلاً أنّ الثورة التحريرية الجزائرية اِنطلقت فعليًا في الثامن ماي 1945 وليس الفاتح من نوفمبر 1954 مع ميلاد جبهة التحرير التّاريخية وبيانها العظيم.
ثمّ أضاف في ذات المعطى تقريباً: "على مر نصف قرن لم نقرأ في رواياتنا لغير رواية واحدة رُويت لنا على عجل في مدارسنا ومجالسنا الحزبية والشعبوية وقنواتنا التلفزية والإذاعية، إذ غيب كُتّابنا وروائيونا ملكاتهم العقلية ومتخيلاتهم الإبداعية في التساؤل حول مدى مركزية الأحداث في التحوّل الكبير الّذي عرفه المجتمع الجزائري، الّذي صقلت ملامحه العامة توالي التجارب والخبرات التاريخية والسياسية والثقافية والاِجتماعية ومع البدايات الأولى لنجم شمال إفريقيا، وخطابات الأمير خالد ومصالي الحاج وعبد الحميد اِبن باديس والبشير الإبراهيمي وفرحات عباس وغيرهم كُثر".
وأردفَ مُتسائلاً: "أين هي الرواية التي تتحدث عن هؤلاء؟ أو التي حاولت الاِقتراب من طموحاتهم وأمالهم من خلال شخوص المجتمع الجزائري المُستلب في هويته وكرامته وحتّى إنسانيته؟!".
مُعتبراً -هنا- أنّ الرواية الجزائرية التي غُلفت بإيديولوجية معينة جعلت صفة "الثورية" فيها بيان ولاء، لا بيان اِستقصاء ومحاولة اِستفزاز الحقيقة وطرح الأسئلة المصيرية والجوهرية حول تطوّر المجتمع الجزائري وأهمية التحوّل "المايوي" في أعقاب حرب عالمية ثانية لم تُحسم بعد في آسيا، وتركت مكانها لحرب أخرى في أجزاء واسعة من العالم، تمثلت في صعود حركات التحرّر التي تعد الثورة الجزائرية أحد أهم حلقاتها.
وهنا اِستدرك قائلاً: "لعلّ لضيق أُفق الحريات ولغياب الوعي التاريخي والفلسفي لدى السواد الأعظم من رُواتنا وقصاصينا الأثر البالغ في حالة القصور السردي الجزائري".
وخلص في الأخير إلى القول: "إنّ لأحداث الثامن ماي 1945، أهمية بالغة في تأثيث الذاكرة الجمعية الجزائرية وبعث الهوية الوطنية بأبعادها المختلفة، ما يستوجب على روائيينا بذل المزيد من الجهد في سبر حقائقها وإبراز خصوصياتها باِتجاه تشكل المجتمع الجزائري الحديث والتفافه حول قضيته الوطنية ومصيره المشترك".

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com