حسنة البشارية .. القمبري الذي شق الصحراء ليعزف للعالم
« أنا عصامية ولم يعلمني أحد، كنت أقضي معظم أيامي بالقرب من أبي في حفلات الديوان، كان يقول لي اذهبي للمطبخ لتحضير الكسكس، فأرد إني أشاهد فقط، فيحذرني قائلاً: إن لمست الآلة سأعاقبك». هو جانب من مقابلة شهيرة لحسنة البشارية، عاشقة القمبري التي عزفت آخر ألحانها قبل أيام، ثم رفعت أصابعها عن أوتاره وسلمت في وداع أخير لابد أن ليل الصحراء قد بكى له كثيرا.
هدى طابي
كان صوتها الذي شق رمال الجنوب ليعزف لحن العالمية، صدى روح متمردة غنت الروك في أرض القناوي البعيدة، وصدحت عاليا لتؤنث الديوان و توصله إلى عواصم كبرى، حسنة امرأة عاندت الصحراء و الرجال و فلقت صخور جبال عنتر القاسية كما تحدت عقليات تضاهيه صلابة لتتحرر،عرفت طوال حياتها الفنية بإطلالتها المتميزة، وقد كانت المرأة الوحيدة التي ترتدي زي رجال القناوي والديوان، ولا تغريها ألوان « الدراعة» أو الملحفة الصحراوية الشهيرة.
التحم فنها بتراث الجنوب الكبير، فكانت الجسد الذي يتنقل بين عواصم العالم حافيا ليحكي عنه، قدمت رفقة فرقتها أو منفردة عديد الطبوع الموسيقية الصحراوية، وكانت عميدة لموسيقى الديوان كما أحيت طابع «الزفانات» في أغنيتها داك الغافل، و غنت «الجباريات»، وقدمت «الفردة النسوية، والحيدوس والشلالي».
عانقت شهرتها سماء الفن، و قدمت المخرجة الجزائرية سارة ناصر، وثائيا عن حياتها ومسيرتها، اختارت له عنوان «مغنية الروك الصحراوية» ليصبح هذا الاسم لصيقا بها.
أنتج العمل المتوج بعديد الجوائز الدولية سنة 2022، ويعد أيقونة فنية قضت المخرجة عشر سنوات كاملة في الاجتهاد لإنجازها، حيت تابعت الفنانة الراحلة خلال تلك المرحلة و وصورت محطات من حياتها الشخصية والفنية.
جينات متمردة
تحمل حسنية حسني « 1950ـ 2024» الموسيقى في جيناتها، فهي ابنة لفنان من بشار التي أخذت منه اسمها الفني، والدها هو المقدم سالم، مقدم إحدى فرق القناوي بالمنطقة، أما جدها فقد كان عازفا أيضا.
غازل الفن روحها منذ البداية فعشقته واستسلمت له رغم سلاسل العادات، كبرت فنانة الصحراء و إفريقيا وغنت الروك وعزفت على القيتار الكهربائي لتقول كلاما جميلا عن الجزائر و أوليائها الصالحين، بدلا من أن تستلم للتقاليد و» تدخل المطبخ لتحضر الكسكس»، فجوهرة بشار السوداء لم تكن تفقه غير النوتة ولا تحرك أصابعها إلا لتستنطق القمبري، وكأبناء الجنوب العميق تربت حسنة، على حب موسيقى الديوان الشعبية، لحن الحرية الذي كسر قيود العبيد، ومثلهم تماما أدارت الشابة ظهرها للخوف وتحدت والدها و اختارت أن تخرج للعلن و تغني.
قالت حسنية، خلال مقابلة إعلامية «إن العزف على آلة القمبري كان محرما على النسوة حسب الأعراف، لكن شغفها بتلك الآلة جعلها تقلد صوت العزف بفمها، حتى أنها استطاعت أن تصنع واحدة من الخشب وبعض المسامير وأوتار من دولاب دراجة، لكن صوتها كان أقرب إلى القيتار، فأعادت الكرة مجددا إلا أن نجحت، وهكذا احترفت العزف حتى أصبحت المرأة الوحيدة في الجزائر التي تجيد محاورة هذه الآلة».
أشارت حسنة البشارية، في حديثها ذاك إلى بداية السبعينيات تحديدا، وكشفت «أنها كانت شابة حينها، تحب صوت إنريكي إيغليسياس، وموسيقى فرونسفواز إردي، وبوب مارلي وجيمس برون، وألفا بلوندي».
لحن المعاناة
لم تكن قسوة الصحراء البعيدة والمعزولة وحدها ما أتعب حسنة، فالحياة عموما ما كانت رحيمة جدا بها، تزوج والدها بإمرأة أخرى غير والدتها « مباركة» التي أصيبت بمرض السكري و العمى، وكانت ظروفها الاجتماعية صعبة، اشتغلت كعاملة نظافة أولا، ثم قررت أن تعيل عائلتها من الفن.
ولا تختلف قصتها عن حكايات النساء اللواتي غنين حينما كان الفن شبهة، فالمدينة التي حلقت باسمها إلى العالمية رفضتها في بدايتها مضغتها كعلكة تداولتها الألسن ثم لفظتها مجددا، كما هاجمها جدا من رقصوا على أغانيها لاحقا.
كانت قد أسست بداية من سنة 1972 فرقة نسوية غنائية تعد الأولى في المنطقة، وغنت رفقة شريكاتها في الأعراس أغاني خديجة الجبارية، ثم اختارت موسيقى الديوان التي لعبت دورا رئيسيا في تأنيثها لأنه طابع كان حكرا على الرجال فقط في ذلك الوقت، وكان مؤديه يعرف بالمعلم أو المقدم وهو العازف الرئيسي في الفرقة، تماما كوالدها المقدم سالم.
اشتهرت فرقتها تدريجيا وذاع صيت حسنة لتبدأ رحلة طويلة مع الفن والشهرة استمرت لأكثر من خمسين سنة و انتهت عند عمر 74، لم تنتعل خلالها حسنة حذاء على المسرح، بل كانت تطؤه حافية والسبب كما كشفت عنه في لقاء صحفي مع قناة جزائرية «يتعلق بالاحترام، فالقناوى أو من يؤدون موسيقى « القناوة» لا يدخلون بأحذيتهم إلى الديوان أو المكان الذي يعزفون فيه»، وقد كان والدها كما قالت « يمنعها من تجاوز هذه القاعدة لأنها تتعلق بطقس من طقوس أداء هذا اللون الموسيقي الروحاني».
حافية القدمين في باريس سنة 1999
كان أول ظهور كبير لفرقتها النسوية في منتصف السبعينيات، وذلك خلال حفل نظمه الاتحاد العام للنساء الجزائريات بمدينة تاغيت، وقد بدأت شهرتها تأخذ بعدا وطنيا وصارت الفرقة دائمة الحضور في الفعاليات الفنية والغنائية، حينها كانت حسنة تخطف الأنظار بفضل تميز عزفها على القمبري، وفي أواخر التسعينيات أحيت حفلا مهما قطع لها تذكرة إلى باريس، فقدمت هناك عددا من الحفلات على غرار فنانين جزائريين آخرين مثل مامي وخالد و فضيلة وصحراوي و سعاد ماسي.
في تلك المرحلة كانت لا تزال تحمل اسمها المذكور في البطاقة الوطنية، قبل أن يقترح عليها منظمو حفلات اختيار اسم فني، وفي أحد حواراتها، قالت إنهم اقترحوا عليها تسمية « الشابة حسنة»، لكنها لم تستسغها، و استمر التفكير في اسم مناسب إلى أن تم الاتفاق على نسبها لمدينتها، فولدت بذلك « حسنة البشارية».
سنة 1999 وخلال تواجدها في فرنسا، تعاقدت مع شركة إنتاج مهمة عقب النجاح الباهر الذي حققه حفل لها بمناسبة الثامن مارس، حيث أدت لأول مرة أغنيتها الشهيرة ... «حافية القدمين»، وعن تلك التجربة قالت في لقاءات إعلامية سابقة « «لمّا ذهبت إلى باريس لإحياء حفل وجدت المكان مكتظا عن آخره وفي انتظاري جمع غفير من الجماهير، رغم أنني كنت مبتدئة في الغناء.. في اليوم الموالي تصدر اسمي الجرائد الفرنسية على غرار لوموند، ليبارتي، ولوسوار».
بعد ذلك وتحديدا سنة 2002، أطلقت أول ألبوم غنائي بعنوان «الجزائر جوهرة» و قد حمل أغنية بنفس العنوان، كانت بمثابة النجم الذي ارتقى عاليا في سماء الموسيقى العالمية وأضاء فنها، لتحمل القمبري تارة والقيتار الإلكتروني تارة أخرى، و تعزف إيقاعات الصحراء و تنقل روحانية الديوان إلى عواصم أوروبا و كندا و العالم العربي، فغنت في الدانمارك وإسبانيا وأمستردام وألمانيا ، وفي تونس ومصر.
لها ألبومات أخرى مثل « اسمع» و « ألوان الصحراء» وأغان عديدة رائجة، وقد شاركت الفنان لإيطالي إيجونيو بيناتو، حفلا غنائيا في إيطاليا، لكن ذكرها يرتبط بالجزائر الجوهرة، لأنها أغنية تخاطب الوجدان و تتحدث عن الحب و الفراق و الوطن.
ملهمة لنساء من هذا الزمان
في إحدى المقابلات الصحفية قالت حسنة البشارية « كان عليهم أن لا يفرطوا بي، لقد طلبت مرات ومرات أن يمنحوني مقرا مجهزا بآلات موسيقية لكي أعلم الصغير والكبير، لكن للأسف لم يتحقق هذا الحلم». حز في نفس الفنانة أن تحتفظ بكل ذلك الزاد وألا تهب منه لجيل أرادت أن يحتضنه رحمها الفني الذي أنجب أصواتا نسوية شابة، تنعم اليوم بحرية الغناء التي حاربت لأجلها حسنة طويلا، وكابدت بمفردها لتعبد طريق الشمال أمام أصوات صحراوية أخرى من أمثال جميلة منصوري و سعاد عسلة صاحبة فرقة « اللمة البشارية».