السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

ما معنــــى أن نكتــــب تاريخـًـــا ثقـــافيًـــــا؟

هل فكرنا في كلمة «تاريخ»؟ وهل يجب علينا أن نبدأ من هنا، من الإحالة المعجمية لمادة «أرخ»؟ لماذا نحن مولعون بالبدء اللغوي إلى هذا الحدِّ؟ ألا يمكن أن تكون اللّغة ذاتها حاجزاً مانعًا لأن نُبصر معنى الـ»تاريخ» هكذا بـ»أل» التعريف، فاللفظة مركبة؛ من «أل» بمعنى العود والمآل والتاريخ المقصود ما حدث هناك، ألم يختلط هذا الحدث «هناك» في الماضي أي يصبح عماءً «هنا» ؟ ألا يمكن أن نقول أنّ «الهناك» هو المستقبل كذلك؟ فهل نقصد الماضي أو التاريخ؟

الدكتور: اليامين بن تومي

لا بدّ أن تنكير كلمة تاريخ أولى من تعريفها، لأنّ التعريف متغطرس يحملنا على دلالة الماضي فقط، فالتاريخ معناه العودة أو الأولُ إلى الحدث الماضي، بينما «تاريخ» يفيد أن يكون الحدث واسع الزمن وقد قيل «إنّ التاريخ مأخوذ منه كأنّه شيء حدث كما يحدث الولد وقيل: التاريخ مأخوذ منه لأنه حديث» دون الإحالة إليه في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، إذاً فالتاريخ ليس الزمن كما أفاد الفيلسوف بول ريكور في ثلاثيته الشهيرة «السرد والزمان» يقول: «ما الزمن إذن؟ إنني لأعرف معرفة جيدة ما هو بشرط ألا يسألني أحد عنه لكن لو سألني أحد ما هو، وحاولت أن أفسره لارتبكتُ» لأنّ الزمن يقاس والتاريخ ينجز، إن التاريخ أكبر من التاريخ إنه يتعلق بالإنجازات الكبيرة لا يتعلق بالساعات والشهور والسنوات، فالتاريخ يقع في عمق لعبة نقل الأحداث أو ما يسمى بالحدث التاريخي، وهو «بالمعنى الأنطولوجي ما حدث فعلاً في الماضي» فهل فعلاً حدث ما نتكلم عنه أو أنّه مجرّد رواية أو أنّه حكاية فقط؟ أي أنّنا أمام مفاهيم متزحلقة وغير قادرة على أن توضح نفسها بنفسها إنها مفاهيم تفتقد إلى الكفاية التفسيرية.
من جهة؛ فالتاريخ هو الحدث الماضي لكنه ليس في المطلق كذلك، ومن جهة أخرى يلتبس بفكرة الزماني، وهو على الاِتساع؛ ماضٍ، حاضر، مستقبل. ومن جهة أخرى، أن ما نعتقد أنه تاريخ هو مجرد رؤية أو منظور أو حكاية، أي أن الشبكة التفسيرية لهذه المادة «تاريخ» من السعة بما يمنعنا من رؤية التاريخ أي أننا أمام وضع مُعقَّدٍ ومُربك جدا.
فما هي الإشكالية التي يطرحها التاريخ غير «وجهة النظر»، لأن التاريخ يحمل طابعا سرديا محضا، على رأي «بيندتو كروتشه» الشهيرة «حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ» لأنّ المؤرخ يترك مسافة بينه وبين الشخوص أو الأحداث الذين يكونون في العادة موضع اهتمامه، وبالتالي يمكننا القول نحو وجهة نظر للحدث التاريخي، أي إننا إزاء ما حدث في الماضي -لنصر على ذلك- في نقطة ما منه لأن الحدث أُنجزَ ضمن ظرفية محدّدة فهو زماني بشكلٍ ما.
وحين نعيد تأمل هذا الحدث هل نعيد تحيين زمنيته؟ أم نعلق تلك الزمنية لأننا سنغرق في شكل من الانجاز الأُفقي للزمن، وليس في إعادة تفعيل للزمنية؟
إذاً حين نُمارس عوداً على الماضي فمعنى ذلك أننا متفقون على شكل التاريخ الذي نتحدث عنه، إنه تاريخ معرف «بأل» تاريخ رسمي ومهيمن، لأنه محدد، بينما حين نتحدث عن تاريخ في المطلق، معنى ذلك أننا نتحدث عن تواريخ وليس عن تاريخ واحد، بل تاريخ معتقل داخل إرادة العود والأوّل، بل هو «تاريخ ما» سيتم بصفة التعدّد، أي أننا في عُمق الكتابة نتحدث عن نوعين من التاريخ؛ - تاريخ عام رسمي ومؤسساتي. - تاريخ غير رسمي، مناطقي وجهوي وإثني. تاريخ صامت لم يكتب بعد، فكيف لنا أن نكتب هذا الصامت الذي لا يحسن الكلام ولا الثرثرة لأن الكلام في أصله يتصف بطابع مؤسساتي.
من يتحدث في العادة في عُمق التاريخ؟
إنّها المؤسسة من تمتلك حق الكلام، ومن يتكلم في العادة هم الأقوياء، فهل يملك التابع حق الكلام كما تطرح الفيلسوفة غياتاري سبيفاك؟ معناه كيف يمكننا إذا؛ أن ننجز تاريخا للضواحي والهوامش والأطراف؟ لا بدّ وأن نتحرّر من الأدوات التي يتخذها المركز أساساً له، تلك الأدوات التي جعلت التاريخ نفسه إقامة للأقوياء، معناه أن نتحرّر من كلّ الأساس الفلسفي والمعرفي والرؤيوي للاِستعمار الّذي قسم العالم إلى شمال وجنوب. بل قسمهم إلى سادة وعبيد وإلى مركز وهامش، عاصمة وأطراف. إن فكرة العاصمة وما تشكله من مخيال مركزي وسلطوي هي مكان لتجمع الإدارات والمراكز لتكون أداة في يد الكولونيالي لضرب الأطراف.
إنّ التكلم داخل التاريخ ليس أمرا هينا، لأنه بنية معرفية ورثت تقاليد عريقة من التراكمات المعرفية الغربية الاستعمارية في صيغتها الهيغلية حين يقول «هيغل إن إفريقيا لا تاريخ لها» وهنا تُفنِّد الباحثة «هيلين سيكسوس» هذا الأساس الهيغلي حين تقول: «أنه ما دامت الماركسية ترث نسقا خاصا بالجدال الهيجلي فهي متورطة كذلك في الحلقة التي تربط بين بنى المعرفة وأشكال القمع التي ظهرت في المائتي عام الأخيرة، وهي الظاهرة التي باتت تعرف بالمركزية الغربية Eurocentrism”
إننا نحتاج إذا عملين جسورين في تقديري؛
- قلب المنطق الهيغلي للتاريخ المبني على ثنائية سادة وعبيد إلى منطق سادة سادة.
- تعديل وضعية العاصمة والضواحي لتصبح الجغرافيا الوطنية واحدة أمام الكتابة التاريخية.
أمام هذا الاِستئناف للدور كسادة نكتب تاريخنا نكون قد تجاوزنا المخيال الكولونيالي للعاصمة باعتبارها منتجا رأسماليا يخدم المركزية في شكلها المتعالي، أي نكون قد جعلنا من الأطراف موضوعا للتاريخ، خارج الوصف باعتباره أحد انهمامات الكتابة التاريخية الكولونيالية، إلى وضعية تشريح الوصف باعتباره سياسة ناعمة في يد المؤرخ الكولونيالي الوصف بغرض السيطرة.
إنّنا أمام تحدٍ كبير هنا؛ أن نكتب بحبر يشبه لون جغرافيتنا السمراء حبر يفكك لعبة القذارة التي تعرضنا لها طوال تاريخنا الكولونيالي أي نحن بحاجة لنعيد المكانة للأطراف لا لكونها كذلك، بل لكونها موضوعا للاختلاف الثقافي، إننا نعمل على ترقيع الكينونة المجروحة بلغة الفيلسوف التونسي المسكيني.
نحتاج بعمق إلى إعادة كتابة -ونصر على لفظة إعادة- حتى لا نبخس حق المحاولات الكتابية العميقة التي باشرها نخبة من المؤرخين الجزائريين على رأسهم العلامة والمؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله وكتابه المهم “تاريخ الجزائر الثقافي” الّذي كان شغوفًا ببيان “مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور، ذلك أنّ المستعمرين الفرنسيين قد بثوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنّه لم يكن لأهلها ماض سياسي ولا ثقافي، وزاد إهمال الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء”.
نُلاحظ أنّ المؤرخ حاول أن يُظهر دور الجزائر في التاريخيين العربي والإسلامي ويرجعها بهذا إلى محضنها المرجعي، ضد كل تلك الادعاءات التي تحاول أن تحمل الجزائر في تاريخ آخر، وقد كشف صراحة مَقصُودَهُ بـ”تاريخ الجزائري الثقافي” أي أنّه سيعيد ترميم واجهة التاريخ الذي انقطع حين يقول: “ومع ذلك فإن لهذا الكتاب رسالة واضحة. فنحن الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية إسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. وهي ثقافة، مهما قيل إنها متقدمة أو منحطة هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمد منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا”.
إذاً فصناعة التّاريخ تنطلق أساساً من الاِعتراف بما هو جزئي وثقافي ومحلي، هذا الوعي الذي يمكنه أن يُقاوم نماذج الإحلال التي تتعمدها الأنظمة السّياسية التي تشعر بحاجة إلى ما نسميه بالتاريخ الكلي لأنه جاهز ومطبوخ يُصدِّرُ نموذجا واحدا ومكتملا عن التاريخ الوطني وهو تاريخ اكتمل بعد الاستقلال على أساس مقاومة كل ردَّات الفعل الاِستعمارية.
ما يعني التاريخ إذا كان كلّ هذا تاريخاً، إذاً فالتاريخ ليس رؤية بيضاء للعالم كما يقول روبرت يانج، لقد جلب إليه حقولاً معرفية متعدّدة، أفرغت التاريخ من صرامته الخالصة ليصبح حقلاً ثقافياً كما يقول فيليب فرناندير آرمستو: “والتاريخ باختصار قد تكاثر، انفجر بالفعل ولم يحدث أبداً أن كان عمل المؤرخين المحترفين بمثل هذا التنوع، وثمّة تغييران آخران ساعدا على هذه الثورة في تكنولوجيا المعلومات تسارعت بما تنتجه الدراسات والبحث وخلفت شبكات التعاون المشترك ووسعت نطاقها كما ولدت قواعد معلومات هائلة للعِلم في التحليل في مجال الفنون والآداب”.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com