تواكب اللغة العربية ركب التطور التكنولوجي، دون أن تتخلى عن أصالتها فضلا عن ثراء تاريخها وتنوعه، فتغازل الذائقة اللغوية لبعض المتحدثين بها من متعددي الألسن ليكتشفوها من جديد، وتجذب داخل بحرها ذوي اللسان الأعجمي ليغوصوا باحثين عن دررها، ولعل التطور الذي عرفه مجال تكنولوجيا المعلومات في العقود الأخيرة ساعد على إدخال لغة الضاد إلى عالم الإنترنت والحوسبة، من خلال برمجيات وتطبيقات جديدة وعملية متاحة على الهواتف الذكية، وجعلها متاحة على نطاق واسع في العالم الرّقميّ.
إيناس كبير
خصصت اليونيسكو هذا العالم، شعار «اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي»، للاحتفاء بنسخة اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر من كل سنة، داعية إلى تشجيع الابتكار والحفاظ على الثقافة ورسم ملامح العصر الرقمي، وترى المنظمة الأممية في هذه المناسبة، فرصة سانحة لاستكشاف مستقبل اللغة العربية في الذكاء الاصطناعي، وسُبل سد الفجوة الرقمية عن طريقه وتعزيز حضور اللغة العربية على الإنترنت، خصوصا أن المحتوى بالعربية على الشبكة العنكبوتية لا يتجاوز نسبة
3 % وفقا لليونسكو.
ويؤكد ، باحثون مختصون في محالات العلوم والحوسبة، للنصر، أن التكنولوجيا طورت المعجم الدلالي للغة العربية لتواكب التوجه الحديث في استخدامها خصوصا لدى الجيل الجديد، كما ساعدت المنصات الإلكترونية على غرار مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصة «بودكاست» على استعادة مكانة لغة الضاد داخل المجتمعات العربية لاسيما المجتمع الجزائري، حيث أصبحت لغة خطاب تتوجه بها نخب وهيئات رسمية عبر صفحاتها إلى المواطنين.
من جانبه، قال الباحث الجزائري في البصريات، بجامعة «ستوكهولم»، وصاحب كتاب ثورة الذكاء الجديد، نسيم محمدي، إنه لابد من التفريق بين لغة العلم ولغة البحث العلمي، واللغة العربية كباقي اللغات الطبيعية الغنية بالمصطلحات العلمية الدقيقة جدا المرادفة للأجنبية.
البودكاست العربي الفصيح خدم اللغة العربية
وفي ظل التحول الرقمي، اعتبر أستاذ اللسانيات في المركز الجامعي أحمد صالحي بالنعامة، وعضو المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، ياسر آغا، اللغة العربية كغيرها من اللغات الطبيعية، لا بد لها أن تطور آلياتها لتساير الركب، مضيفا أن المختصين عملوا على ترقيتها عبر مجموعة من المحطات ذكر من بينها الترجمة الآلية، والمعاجلة الآنية للغات والبرامج والتطبيقات التي تساعد على التصحيح اللغوي والإملائي، والقراءة المباشرة للنصوص، على نحو برامج قراءة المخطوطات وفك رموزها ومعرفة خطوطها، إضافة إلى بعض البرامج التطبيقية ذات الأهمية التي لها بعد تعليمي، مثل التطبيقات التعليمية التي تساعد المتعلمين على فهم الدروس وإحراز الكفايات التعليمية والمعرفية عبر مستويات مختلفة.
أما عن تحول المجتمعات العربية خصوصا الشباب إلى لوحة المفاتيح العربية، فيرى آغا أن هذا التراكم اللغوي، أو ما يسمى بالمستويات اللغوية التابعة للسان الفصيح وهي اللهجات، ساعد بشكل مباشر على إتقان شريحة من المجتمع لها، توظفها في تواصلها كونها أصبحت لغة رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن التحدث بها في بعض برامج «البودكاست» التي يبثها من وصفهم بـ «المؤثرين الإيجابيين».
وأضاف عضو المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، أن هناك شبابا يعملون على إنتاج «بودكاست» عربي فصيح، من أجل نقل هذه اللغة وجعل شريحة من الشباب يتكلمون بها بشكل سلس.
وهو ما أطلق عليه تعزيز استخدام اللغة العربية محليا وخارجيا، وذلك من خلال نقل ثقافتها إلى الغير وجعلها منتجة اقتصاديا وتكنولوجيا، وموردا تثقيفيا وتعليميا لغير الناطقين بها. وفي هذا السياق تطرق آغا، إلى مشروع «التنال العربي» الذي يشرف عليه المجمع اللغوي الأردني والمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، وهو مشروع لقياس مدى كفاءة التحدث بها وتعلمها لغير ناطقيها وذلك ليحرزوا الكفاية التواصلية، وأن يعرفوا التداولية لهذه اللغة عبر مستويات مختلفة.
وأشار المتحدث نفسه، إلى بعض التحديات التي فرضتها العولمة على لغة الضاد، وبالتالي وسعت من معجمها التداولي من خلال استقباله مجموعة من الألفاظ والكلمات الحادثة التي لها استعمال بين أوساط الشباب وداخل المجتمع.
وقال أستاذ اللسانيات في المركز الجامعي أحمد صالحي بالنعامة، وعضو المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، ياسر آغا، إنه يجب إيجاد مقابل لهذه المصطلحات مع تحيين معانيها وأبعادها التداولية لجعلها ضمن الكلمات والمصطلحات العربية المتداولة داخل المجتمع، بالإضافة إلى الدخائل الجديدة مثل البرامج الحديثة، والروائج الإلكترونية والتكنولوجية التي جعلت هذه اللغة تجد مقابلا لها لتوفرها لمستعمليها.
المنصات الإلكترونية صلحت علاقة الشباب باللغة العربية
من جانبه تحدث المختص في تكنولوجيا المعلومات، يزيد آقدال، عن تغير أنماط استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وقال إن المستخدم على الشبكة العنكبوتية كان سابقا مستهلكا للمحتوى، وبعد وصول مواقع التواصل الاجتماعي أصبح الناس منتجين للمحتوى بمختلف أنواعه سواء كان نصا، أو صوتا، «بودكاست»، أو مقاطع مصورة.
أما عن استخدام اللغة العربية، فأوضح آقدال، أن أغلب مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر على سبيل المثال، يتعاملون بالعربية عدا الفئة التي كان تكوينها الأكاديمي فرنسيا أو ذات ثقافة فرنسية، بالإضافة إلى شبكات التواصل المهنية «لينكد إن» حيث تكون أغلب المنشورات عادة بالفرنسية أو العربية، في حين نجد أن «الفيديو» و»البودكاست» يكونان متنوعين وأغلب المحتوى باللغة العربية لأن ثقافة الناس وتعليمهم بهذه اللغة.
وأفاد المختص في تكنولوجيا المعلومات، بأن العربية باتت مسيطرة وأكثر مقروئية على المنصات، كما يوجد بشكل أقل اتجاه نحو الإنجليزية يطغى على اهتمامات الجيل الجديد.
وعن التأثير الإيجابي لمواقع التواصل الاجتماعي على هذا الاستخدام اعتبر أنها جعلت الأفراد يصلحون علاقتهم بالعربية ويطورن لغتهم، فضلا عن تخاطب النخب والهيئات الرسمية من خلالها.
وعن التحديات التي تواجه اللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا في جانب الفصاحة أو اختلاطها بالدارجة، يرى المتحدث أن الأهم هو أن الناس يكتبون ويعبرون بلسان عربي، بالرغم من أن أغلب المنشورات على الصفحات المشهورة تكون بالدارجة التي يعبر بها المستخدم بأريحية أكبر، أما المشكل الحقيقي حسبه، فهو غياب المحتوى التقني المتخصص، والذي يعد ضعيفا في العالم العربي عموما بالنظر إلى المحتوى العالمي الذي تسيطر عليه اللغة الإنجليزية.
وأكد آقدال، أن قضية تطوير واستغلال اللغة العربية على المنصات الإلكترونية، غير خاضع لخطة واضحة فالأمر يتم بطريقة عفوية، وقد أرجعه إلى حاجة الناس للتعبير وصناعة المحتوى ومخاطبة بعضهم.
اللغة العربية غنية بالمصطلحات العلمية الدقيقة
عاش الباحث الجزائري في البصريات بجامعة «ستوكهولم»، وصاحب كتاب ثورة الذكاء الجديد، نسيم محمدي، تجربة مميزة فتحت له باب الدخول إلى استكشاف ثراء اللغة العربية، وتفنيد الادعاء القائل «إنها لغة فقيرة من المصطلحات الدقيقة ولا تصلح للعلم».
أخبرنا الدكتور محمدي، أن تجربته بدأت في المدرسة العليا للأستاذة بالأغواط عندما اشتغل مدرسا بها، حيث كان المنهاج يُدرس باللغة العربية الأمر الذي تقاطع مع طبيعة تكوينه وهو خريج نظام كلاسيكي مهندس دولة في الإلكترونيك، حيث درس كل المقاييس باللغة الفرنسية، يقول «شكل التدريس باللغة العربية نوعا من التحدي بالنسبة لي، فقد كنت أعتمد على الكتب والمقالات وترجمة النصوص، ما جعل الأمر ممتعا ومفيدا».
أكسبت هذه التجربة الباحث الجزائري، خبرة في الترجمة العلمية خصوصا بعد عمله مع باحثين من مصر في مجموعة كان يُطلق عليها «مقال علمي»، ثم تغيرت إلى «باحث علمي»، كما كانوا يكثفون النشر على منصة «لينكد إن»، موضحا بأن هدفهم كان تبسيط المقالات العلمية وتقديم ترجمات لمواضيع محددة آخرها الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا، لينشر بعدها كتابه المعنون بـ»ثورة الذكاء الجديد» سنة 2021 ووضعه في خدمة الطلبة والأساتذة ليستفيدوا منه.
ويرى الباحث الجزائري في البصريات بجامعة «ستوكهولم»، أن النظرة النمطية للعربية كلغة «لا تصلح للعلوم» خاطئة وكذلك باقي لغات العالم، والأصل وفقا له، التفريق بين لغة العلوم ولغة البحث العلمي، فالأخير يعتمد على الإنجليزية التي يستخدمها كل الناس في نشر المقالات العلمية والبحوث وبراءات الاختراع، لكن تدريس العلوم يمكن أن يكون باللغة المحلية.
كما أن تجربة محمدي، أكدت ثراء اللغة العربية بالمصطلحات الدقيقة جدا، حيث علق قائلا «يمكن أن نجد مرادفات باللغة العربية لمصطلحات أجنبية في العلوم الفيزيائية والإلكترونيك مثلها مثل باقي اللغات»، كما كشف أنه سيكون له لقاء باللغة العربية في الجزائر حول «الحوسبة الكمومية»، كما سيقوم بنشر كتب أخرى بمواضيع متعددة.
إ.ك