لماذا ظلت الفلسفة والكتابة الفلسفيّة في الجزائر، خجولة في حضورها وقليلة ومحتشمة وخافتة؟، ولماذا ظل الفكر الفلسفي النسوي على قلته وندرته خارج دائرة الضوء، وخارج إطار التقدير والاعتراف، مقارنة بالفكر الفلسفي الذي ينتجه المفكر والباحث الرجل، أيضا ماذا قدمت الكاتبة والباحثة المشتغلة في هذا الحقل للفلسفة والمشهد الفكري الفلسفي الجزائري، مقارنة بما قدمه ويقدمه زميلها المشتغل في نفس الحقل؟. ما هي الأسباب التي أعاقت وتعيق الباحثة عن التميز والإبداع والبروز في مجالات الفلسفة؟.
«كراس الثقافة» في هذا العدد، يفتح ملف «الفلسفة والكتابة الفلسفيّة النسويّة في الجزائر»، وفيه يتحدث مجموعة من الدكاترة والأكاديميين المشتغلين في حقل الفلسفة بكثير من الصراحة والجرأة والتحليل.
من الخطأ الاعتقاد أنّه بالإمكان مناقشة إشكاليّة «الكتابة الفلسفيّة النسويّة» بمعزل عن التاريخ الإنساني بشكل عام، سيكون المسعى عندئذ مجرّد هَرطقات لا معنى لها، إنّ قراءة التاريخ تتيح اكتشاف الزوايا المظلمة، وممارسات الإكراه، والتسلّط، والتهميش، والإقصاء الذي طال النساء بسبب الهيمنة الذكورية وتعسّف القوانين، وتبلّد الذوق، وموت الإحساس والضمير. لقد صاغت النصوص الأدبيّة والفلسفيّة اليونانيّة مقولات تكرّس دونيّة النساء وتقصيهنّ من الحياة الاجتماعيّة والأدبيّة والسياسيّة وتحشرهّن في الأعمال المنزلية وإنجاب النسل وحسب، مدّعية عدم أهليّة المرأة وافتقادها لملكة العقل والتفكير. وانتشرت هذه الأفكار كالنار في الهشيم قرونا طويلة من الزمن، ومن المُبْكِيات المُضْحِكات أنّ الفلاسفة الرجال أنفسهم هم الذين ساهموا في تكريس هذا القول، انطلاقا من الفلسفة الإغريقية مع أفلاطون وأرسطو، ثمّ فلاسفة العصور الوسطى، وصولا إلى المُحدثين منهم، ويعثرُ المرءُ على نصوصٍ فلسفيّة مُثيرة للجدل لـ: روسو وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة تسعى حثيثا لجعل المرأة أقلّ شأنا من الرجل، ومواطنة من الدرجة الثانية، ووفقاً لذلك يعدّ تاريخ النساء صناعة ذكورية بامتياز.
لكنّ انتقال المرأة من موضوع للخطاب إلى صانعة للخطاب قَلَبَ الموازين رأسا على عقب، وخَلْخَلَ الكثير من المفاهيم، وأفْرغَ المقولات السائدة من مَضامينها القديمة، التي لا ريب أنّها كانت عنصرية ومؤدلجة، ولا تمتُّ إلى الإنسانية بصلة.
وفي متون تاريخية حديثة ومعاصرة -يضيق المقام على الولوج في تفاصيلها- طُرِحتْ إشكاليّة «الكتابة النسويّة» أو «النسائية» بشكل عام بغض النظر عن مجال التخصّص، وحَدَثَتْ سِجالات حول التسميّة والتوصيف، وراحتْ بعض المواقف تتّفـقُ معها، بينما عارضتْ مواقف أخرى هذا الوصف، في حين تحفّظ فريق ثالث على ما يوسم بالكتابة النسويّة. كما أُثيرتْ في السياق ذاته مشكلة ذات صلة بالموضوع: فهل الإبداع النسويّ هو ما تكتبهُ النساءُ في قضايا فكريّة ما؟ أم هو ما تكتبه المرأة في مواضيع تتعلّق بالأنثى؟ أو هو ما يَكتبهُ الرجل والمرأة على حدّ سواء في قضايا تتعلّق بالنساء على صعيد أوّل؟ وكيفما كان شكل التعاطي مع هذه القضيّة فإنّ الأمر الأكيد هو أنّ فعل الكتابة عند المرأة أعاد صياغة العالم، بوصف الكتابة شكلاً من أشكال الحريّة ورهانا من رهانات ترسيخ الذات والهويّة.
من الواضح جدّا أنّه حدثتْ ثورةً عارمةً على الخطاب الذكوري الكلاسيكي المتعسّفِ في محاولة لتطهير التاريخ من الأكاذيب والخرافات السائدة، ولعلّ الكتابة عند المرأة بشكل عام والفلسفيّة منها بشكل خاص تروم مساءلةَ التاريخ، ودحض المقولة النمطيّة عن كون الكتابة عند الرجل تمثّل المركز بينما تمثل عند المرأة الهامش أو الأطراف، هذا وتسعى الكتابة الفلسفية النسويّة فضلا عن ذلك كلّه إلى التموقعِ داخل نسق ذكوري سائدٍ ومهيمن يمارس إكراهاته. كان الأمل ولا يزال معقودا على مساهمةِ النصوص النسوية الوليدة في إثبات الكينونة على الصعيد المعرفيّ، فلا شكّ أن النصّ المكتوب من طرف المُبدعة سيكون امتداداً لجسدها، وانطلاقا من جُرْحِها التاريخيّ، وسيسعى جاهداً لتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الجسد الأنثويّ، ستعبّرُ النصوص الإبداعيّة في مختلفِ تجلّياتها على الحضور الفعّال، وسَتنقلُ موضوع خصوبة المرأة إلى العقل بعدما كان محصوراً في رحمها فقط.
إنّ إقصاء النساء من حقل النشاط والإبداع الفلسفيّ على مدى التاريخ كان بسبب مسوّغات بائسة لا مبرّر لها علمياً ومنطقياً، إنها صياغة تاريخية واجتماعية للأنثى وفق معايير تقييميّه وأخلاقيّة وثقافيّة وإيديولوجيّة سعت بكلّ ما تملكه من قوّة ونفوذ لتسويغ عمليّة الإقصاء والتهميش الذي طال النساء عهوداً طويلة، سواء أكان ذلك في الغرب أو في البلاد العربيّة، وإنْ كان في هذه الأخيرة أشدّ وطأة وأكثر بؤسا من البلاد الأخرى، والمؤسف حقاّ أنّه لا يزالُ جاثما على صدور النساء في كثير من البلدان العربيّة وفي كثير من الأُسَرِ فيها.
إنّ الفكر الحرّ والفلسفة لا يترعرعان إلاّ في مُجتمعاتٍ تنويريّةٍ تؤمن منظوماتها السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة بمبدأ الحرّية والعدالة والديمقراطيّة والمساواة بين الجنسين، وتستوعبُ بصدر رحب مختلف المتناقضات، وتكرّس الاختلاف، وتؤمن إيمانا عميقا بأنّ المجتمعَ لا يستقيم ولا ينهض وإحدى رئتيهِ معطّلة، وتثقُ في قدرة المرأة على الإبداع والإنجاز متى توفّر لها المناخ المساعد وتمّ احتضانها بإنسانية عميقةٍ.
لا شكّ أنّ المرأة العربيّة تخطو خطوات متواضعة نحو هذا المصير في ظلّ الأوضاع المأساوية السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة التي أخّرتها وثبّطت عزيمتها، ولكنّ لا يزال قطاع كبير من المبدعات العربيّات المشتغلات بالفلسفة يَكْتُبْنَ نصوصاً قيّمة وذات شأن. وفي الجزائر رغم أنّ ممارسةَ الفعل الفلسفيّ النسويّ لا يزال متواضعاً جدّاً وعلى استحياءٍ بسبب حداثة الممارسة الفلسفيّة الفعليّة له، سواء أكان ذلك على مستوى المؤسّسة أو على صعيد إنتاج النصوص، فهذا لا يمنع البتة القول بأنّ ثمّة جهودا صادقةً تُبذلُ لتفعيل الفعل الفلسفيّ في الجزائر، وإبراز أهميّة ودور الباحثة والمبدعة والأكاديمية، ولعلّ انعقادَ أكثر من حلقة دراسية في كثير من الجامعات الوطنيّة، وعقد ندوات، ومؤتمرات علمية تنبري في مجملها لمعالجة قضيّة الفلسفة النسويّة، والكتابة الفلسفيّة النسويّة، وكذا مشاركة الكثير من الباحثات فيها، ليبعثُ على التفاؤل بالمستقبل، ويكفي القول أنّه لا يخلو أي مؤتمر فلسفيّ في كامل ربوع الوطن من الأداء الجيّد للكثير من العناصر الواعدة، وهذا يقفُ دليلاً على أنّ المستقبل يعدُ بالكثيرِ علماً أنّ الفلسفة لا تهتمُّ بالكمّ بقدر اهتمامها بالكيف وبالعناصر الفعالة، التي بإمكانها أن تتركَ بَصماتها في تاريخ الفكر الفلسفي الجزائري المعاصر.
تشكّل الثقافة وضعا حسّاسا في الوسط الفكري بمجمل أصولياته الاجتماعية السياسية والاقتصادية، خاصة وأنّ الفرد يعمل على تقنين التواصل العقلاني الذي يخدم وضعيات الراهن المتنوعة، وذلك من أجل فهم يُداوم على تواصلية الأصالة والمعاصرة، باعتبار أنّ الفرد يتشكّل من خلال التراث، الذي لا ينفصل عن هويتنا المتنامية في النسق الحداثي، إذ بزحزحة الماضي عن الحاضر تُقام أزمة ثقافية ينجم عنها تخلف في الرؤية التنظيمية للمجتمعات، لذلك يستلزم المراجعة الدائمة لما يحيط بالفرد والمجتمع، إذ يتمّ ذلك من خلال التكتّل الثقافي الذي يخلقه المفكرون، باعتبارهم النخبة الأساس في ترقية الفرد نفسه، من أجل تكوين حضارات متمدنة فكريا. هذا هو الذي تسميه «جوليا كريستيفا» بالنموذج الآخر في إعادة تأهيل التجربة الثقافية والدعوة إلى التعدّد والتنوّع الثقافي المتبادل.
إنّ المرأة كائن بشري يشكّل غيرية الرجل، وباعتبارها الآخر استوجبت الدعوة لإقصائها بمفهوم السلطة السوسيوثقافية، منذ النظرة الدونية الأفلاطونية للمرأة، فظلت الفكرة حبيسة اللاوعي الذي يزدري الآخر فينا باعتباره جنسا ناقصا حسب «فرويد»، وعليه كان الجنس الأنثوي عنصرا تابعا لا مركزا، بحكم استلاب حقها الطبيعي فطُمست صورتها من خلال تكوين مجموع الدلالات النمطية التي تحدّد جوهرها حسب المجتمع لا جوهر ذاتها، ولكنّها ذلك الغريب الذي يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا بمفهوم كريستيفا.
إنّ تأكيد فعل الهيمنة يسعى إلى تزييف خطاب المرأة قراءة وتأويلا. هذا الخطاب الذي يشكل عملية اجتماعية لصنع المعنى وإعادة إنتاجه، هي علاقة بين وعي المرأة وخطابها، التي تتحقّق بوصفها سعيا منهجيا من شأنه أن يكشف عن الأنساق المعرفية المهمشة في كل المجالات. فهل يمكن أن نمتلك القدرة على تأسيس نوع خاص من رؤيا العالم في خلق شكل من أشكال الفوضى التحررية لاستنطاق نمط كتابي وجنس فكري يتمحور حول «الفلسفة النسوية» وتحديدا في الجزائر؟
إن السعي وراء حفريات البحث في هذه المساءلة يستلزم تكتلا ثقافيا جمعيا، ابتغاء التنقيب عن أصوليات الكتابة والفلسفة النسوية العربية أولا، قبل البحث عنها في الجزائر فقط، لأنها رؤية تشترك فيها المجتمعات العربية من حيث غربة ودونية الأنثى. وبالرغم من ذلك نجد الجنس الأنثوي علامة فارقة في الإبداع الفني الجزائري بمختلف تجلياته اللغوية وغير اللغوية، ولمعت فيه أسماء مكثفة بين التراث والمعاصرة، لكن ما نصيبها من الفكر الفلسفي؟ إن كان المفهوم الأساس للفلسفة هو النظر من علٍ، فهل سيتقبل الذكر فكرة اعتلاء المرأة لتنظر ذاتها والعالم من حولها؟
إن جهد التفكير الفلسفي بحكم ميكانيزمات القراءة والنشر في الجزائر، يسعى للارتقاء بتأسيس نظرة علمية جادة ومقاربتها بالراهن، بالرغم من أنها انتُقدت على أنها سيلٌ من الشرح والتفسير، وليس الشرح إلاّ آلية أساسية في القراءة تنمّ عن تأسيس ما ينبغي أن يكون، وقد ساهمت المرأة الجزائرية باعتبارها إطارا باحثا أو مفكرا في إعادة هذا النمط من التصورات، لكن يظل الاعتراف بالفلسفة النسوية هشا جراء اللاوعي الذي يسكننا، فنحن ندرس الفلسفة ونمارسها، لكن لا نعي أنّها أنثى، وأنّها ممارسة إنسانية تمجّد الذات مهما كان جنسها، ويظل العقل أعدل قيمة بين البشر بمفهوم ديكارت.
وإن كانت الفلسفة اعتلاء للنظر في ذواتنا والعالم من حولنا إلاّ من أجل النقد والتحرّر وتأسيس سياق المدينة، التي تستقبلنا على كيفية العيش سويا، وإذ نحن نعيش أزمة مفاهيم، فالمدينة نفسها هي جزء دامس لا نفقهه، مثلها مثل المرأة التي تظل تعتلي بالنظر، فتكون نظرتها ناقصة، لكنها تظل تحبو لتفرض وجودها أمام أدغال اللاوعي، لأنّ الكتابة مفهوم تناسلي والقراءة إنتاجية مولّدة، إذن أين المفر من الأنثى؟
إنّ الدعوة لإقصاء تغريب الذات هي ضرورة مدّ التواصل بين الذات والآخر من أجل خلق تفاهم أفضل وحياة اجتماعية أحسن أقل بؤسا مثلما يدعو إلى ذلك «كارل بوبر» في انفتاح المجتمعات.
يقاس تحضر الشعوب والأمم بمقدار شيوع الفلسفة فيها، وما الفلسفة سوى ذلك التفكير النقدي الحر الذي لا يرضى بمقتضيات التقليد والعرف خاصة إذا كانا في صورة بالية بل يُخضع المسائل لتمحيص دقيق يستجيب لمقتضيات العقل. وإن تقدم الفلسفة دليل على تقدم العلوم والمعارف ذلك لأن القلب النابض للتقدم يكمن في إعمال الفكر والنقد البناء، ولكن إذا تعطلت الفلسفة عن أداء دورها الحضاري كما هو الشأن في مجتمعنا فمن المستعجل البحث عن مكمن الداء، ولأجل هذا أحاول في هذه المساهمة تناول وضع الفلسفة في الجامعة الجزائرية. وهو وضع يبدو في ظاهره في أحسن حال في حين الحقيقة أن الفلسفة تعاني اضمحلالا وانحسارا خطيرين، ومن الأهمية بما كان كشف الغطاء عن بعض العوامل المسببة لهذا الوضع. يجد معظم طلبة الفلسفة أنفسهم في قسم الفلسفة من دون رغبة منهم أو اقتناع. وذلك راجع إلى سياسة التوجيه المتبعة. فقد أصبح من النادر جدا أن يضع الناجح في البكالوريا الفلسفة ضمن اختياراته الأولى للدراسة والتكوين في الجامعة. وهذا يثير في الحقيقة مشكل تدريس الفلسفة في الثانوي، ومدى استيعاب التلاميذ لهذه المادة وتقبلهم لها وفهمهم إشكالياتها وقضاياها. المطلوب أن يدرس الفلسفة من يرغب فيها وليس الراغب عنها والمقتاد إليها مكرها لأن ذلك يجلب مضرة كبرى لها. فهي لن تستفيد شيئا من هذا الطالب ما عدا النقمة على الفلسفة والنظر إلى مستقبله بعين متجهمة سوداوية إلى حد الشعور بالنقص مقارنة بالطلبة الآخرين الدارسين للعلوم الاجتماعية (علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم المكتبات، والتاريخ) واللغات. كما أن هذا الأمر لا يتوافق مع احترام مبدأ الرغبة في التعلم، فنظريات علم النفس تؤكد أن الرغبة والميل يشكلان دافعا قويا للتعلم واستيعاب الدروس بسرعة وجودة. ونتساءل كيف يمكن للراغب عن الفلسفة أن ينجح في دراستها أو الإضافة لها؟ إنه عبء عليها. ومن الأدوات الضرورية لدراسة الفلسفة امتلاك ناصية اللغة الأجنبية لكن للأسف معظم طلبة الفلسفة يفتقرون إليها سواء الفرنسية أو الانجليزية أو الألمانية. وبالتالي فهم عاجزون عن قراءة أصول أمهات الكتب الفلسفية وتفويتهم بذلك فرصة اكتشاف كنوز النصوص الأصلية. فلا يعقل أن يمضي الطالب سنوات في مشواره الجامعي من دون أن يطلع على أي مصدر بلغته الأصلية. وشتان أن يقرأ النص في لغته الأصلية وأن يقرأه مترجما خاصة أن الترجمة في زماننا وفي مجتمعاتنا عموما يغلب عليها في غالب الأحيان المطلب التجاري النفعي على المطلب العلمي. كذلك عدم ربط الإشكاليات الفلسفية محل الدراسة بالواقع المجتمعي الراهن يجعل الفلسفة تبدو في نظر الطالب إنشاءات عقلية نظرية محضة لا علاقة لها باليومي المعاش. وعليه لا بد من إيلاء عناية خاصة لما يسمى «الفلسفة التطبيقية» Applied Philosophy التي تعنى بمشكلات الإنسان في الواقع المجتمعي اليومي ويقصد بها البحث عن الإجابات الفلسفية التي تتطلبها جماعة تعيش في مجتمع معين. والفلسفة التطبيقية تؤكد الارتباط بالواقع الحي المعيش وبالحس العام المشترك الموجود في مجتمع الطالب.
في الأخير من المهم التأكيد أن استعادة الفلسفة لعافيتها في جامعاتنا مرهون بيد الأستاذ فهو الوحيد القادر على منح الفلسفة مكانتها اللائقة في المجتمع. وذلك بتبيان جدواها في تناول معضلات الإنسان المختلفة والمتجددة على كافة المستويات. وعليه أيضا تقع مسؤولية محاربة فكرة أن الفلسفة معادية للدين. وهي فكرة ما تزال مغروسة بمتانة في ذهنية المجتمع حيث جرى الاعتقاد أن الفلسفة كلام باطل لا طائل من ورائه ومضر بالمعتقد الديني مما ينفر الطالب من تحصيلها.
بداية الكتابة الفلسفية النسوية بوصفها قضية ونضالا ومقاومة ليست حكرا على المشتغلات بالفلسفة بحثا وتدريسا وكتابة بل تمتد وتشمل جميع الكاتبات في الحقول والفروع الأدبية والعلمية والفنية الأخرى التي يستوعبها ويستوجبها نضال الكتابة النسوية وفي مقدمتها الفلسفية. في هذا التأكيد العام ما يدفعني إلى تخصيص فلسفي وهو الإقرار بأن المرأة تعيش في واقعنا وضعا مزيفا مليئا بالتناقضات، وبالتالي من توجهت طوعا أو كرها إلى الفلسفة أو قُذف بها في فضائها أو إليها، لم تجعل من الفلسفة أداة للمقاومة أو التعبير بحرية وشجاعة عما تفكر به وتشعر به وتحياه حقا، لا كما يراد لها أن تكون وفق صورة ووضعية حددت لها سلفا، وهي في هذا سواء مع الرجل الذي ينتمي إلى حقل الفلسفة أو يُخيّل إليه أنه كذلك فعلا. الكتابة عند الاثنين منقوصة من جانب أساسي أسماه كانط الجرأة والشجاعة على استعمال العقل إلى أقصى مداه. وما الفلسفة إلا إعمال للعقل في مختلف نواحي الفكر والحياة والواقع، بيد أن هذا المسلك غائب أو غيّب بفعل عدم الاقتناع بالانتماء أو الوعي بالانتماء للفلسفة لعدم توافر النقد والتمرد كشرطين أساسيين لكل أرضية للفكر الفلسفي وآداتين ضرورتين لكل توجه فلسفي جاد ونوعي همه الأول الوضع الإنساني. إن انعدام هذه الخلفية والوسيلة عندنا يرجع باعتقادي لثلاثة أسباب: أولا، عدم القدرة على مجابهة الأفكار الخاطئة عن الفلسفة في المجتمع إلى درجة مسايرة تلك التصورات على الرغم من خطئها، ومنها صورة المرأة السلبية اجتماعيا، على الرغم من كل التشريعات والقوانين التي تظن المرأة أنها جاءت محررة لها ولكنها لم تصب في صالح توطيد فكر فلسفي نسوي يعالج ويساهم في وضع أسس فلسفية تكرس حرية المرأة وحقوقها لكن للأسف هذا لم يتم وهو ما أدى إلى سبب آخر ونتيجة في آن واحد.
ثانيا: انفصام الذات النسوية، بين مظهر مطلوب ومرغوب اجتماعيا وبين جوهر مسلوب ومحبب ذاتيا. هذا الانفصام ولّد لدى المرأة الفيلسوفة ازدواجية في الشخصية خارجية وداخلية، خارجية: الخوف من تجاوز النسبة المحددة لها في الفضاء الفلسفي الرجالي حتى على مستوى الكتابة والبحث والدرس فهي تلج هذا الفضاء بخطى محتشمة ليس لإثبات الذات وتكسير قواعد الهيمنة الذكورية بقدر ما هي تسجيل حضور خافت، مقنّع لا أثر له. وداخلية لأنها حتى في الكتابة تستجيب دوما لإقتضاءات وإملاءات ذكورية لا تترك آثارا أنثوية ولا تسعى إلى التميّز من زاوية فلسفية نسوية.
ثالثا: ازدواج شخصية المرأة المتفلسفة أدى بها إلى التيه وسط أروقة الدين وأخطأت طريقة الانتماء فجعلت من الدين واجهة لفكرها وسلوكها ومظهرها وهذا ليس من اعتقاد بمصالحة بين الدين والفلسفة بل بخلط وعدم وضوح في الرؤية الفلسفية التي لا تزال تتأرجح فيها الممارسة الفلسفية ببلادنا ووقعت هي نفسها ضحية لهذا الخلط، وهكذا صارت أقسام الفلسفة عندنا أقرب إلى فروع من دراسة الشريعة والفقه والدين عامة. مع العلم أن الفرق بين الاثنين بيّن، فللدين علماؤه ورجاله وللفلسفة محترفوها والمختصون والمختصات فيها.
والحال هذه كيف يمكن للكتابة الفلسفية النسوية، سواء فهمناها على أنها كتابة فلسفية بأقلام نسوية أو كتابة فلسفية نسوية في موضوع الفلسفة النسوية خصوصا، أن تتموقع من دون تحرر أنطولوجي للمرأة ككيان متفرد تكتب انطلاقا منه بما تملك من قدرات ووسائل عقلية ومادية تباشر بها معالجة وتفكيك المشكلات التي تخضع لمساءلتها من موقع إنساني في وجودها، في واقعها، في أمومتها، في عملها، في مجتمعها، في صحتها، باختصار في منظومة الحقوق.
لا ينبغي أن نطرح سؤال الكتابة الفلسفية النسوية على وجود أستاذات باحثات في الفلسفة بجامعاتنا وببعض المراكز البحثية وهذا أمر جيد لم نكن لنراه في وقت سابق – فترة السبعينات من القرن الماضي وحيث كان الحضور الفلسفي رجالي إلا فيما ندر– إنما القصد هو حضور السؤال النسوي والهوية النسوية والمقاربة النسوية في معالجة قضايا نرى أن المرأة الكاتبة والفيلسوفة أولى بها من كتابة المتطفلين من الرجال والذين لن يقوموا بذلك إلا من تكريس الهيمنة الذكورية.
في تصوري اليوم، أن البيوإتيقا تمثل –وقد كانت كذلك بالنسبة لدول أخرى في زمن غير بعيد- حلقة مهمة تمكن الحركة النسوية من تحقيق وثبة مهمة على درب تكريس الحريات والحقوق ومعالجة معضلات العدالة والشغل والصحة والتسامح والتضامن بما يضمن فرصا أكثر لصالح العيش المشترك بين أفراد المجتمع نساء ورجالا في كنف المواطنة والسلم وهي تتيح فرصة أخرى في بلادنا لاسيما بعدما لاحظناه من تزايد المهتمات بالفلسفة في واقعنا الجزائري –داخل الجامعة وخارجها– على الاشتغال والاعتناء بمسائل المرأة بعيدا عن الديماغوجية إنما بتحليل عقلاني وواقعي يتكرس فيه حضور الكتابة النسوية الفلسفية سؤالا ومعالجة، فعالية ونجاعة.
يمكننا أن ننظر لعلاقة المرأة بالفلسفة أو الفلسفة بالمرأة من وجهة نظر تاريخية -تعاقبية، أي لا يمكن فهم تلك العلاقة اليوم سواء في تناقضاتها أو في تنافرها أو حتى في تصالحها حينا آخر، دون أن نتكئ على جينالوجيا التهميش والإقصاء في حدّ ذاته، والذي تمت ممارسته وفق لاشعور جمعوي، إنه نوع من التهميش المقدس، لهذا يمكن أن نعتمد المقاربة النتشوية في منهجيتها –وليس في موقفها من المرأة- ونقصد بذلك كشف المسكوت عنه، والبحث عن الأسباب الحقيقية التي حالت دون أن ينتج الفكر الفلسفي نساء فيلسوفات أو تنتج النساء فكرا فلسفيا مثلما هو الحال مع الفلاسفة الرجال، بالرغم من أن الإنتاج قد تم فعلا في التاريخ وفق نماذج حقيقية، ولكن ما تم هو التهميش والإقصاء والردم لحقيقة العطاء الفكري للمرأة، وقدرتها في مقارعة الحقيقة، لهذا فإن السؤال الذي لا مفر منه اليوم، والذي يُراد له أن يضمن الإنصات للأنثى عندما تتفلسف أو حينما تكتب فلسفة، لا يجب عليه -على السؤال- أن يستشرف المستقبل سواء القريب منه أو البعيد، كل ما عليه هو ترتيب العلاقة التاريخية بين الرجل والمرأة، ومن ثمة تصحيحها ماضويا، إذ سيكون الاعتراف التاريخي كافيا لتوجيه علاقة مستقبلية عادلة. غير أن عوامل تاريخية وابستيمية ودينية حالت دون تكافؤ الفرص، فإذا كان عصر الحداثة يرتبط أساسا بالتنوير والعقلانية والإنسانية والفردانية والحرية، فإنه يرتبط أيضا بشكل أو بآخر بالهيمنة والتمركز والإقصاء والذاتية، لصالح القول الذكوري على حساب القول الأنثوي، فهو عصر تغلب العقل على العاطفة، ومن ثمة فهو عصر لا يستقيم إنسانيا، لاختزاله للإرث الإنساني في الرجل وحده قولا وفعلا، حتى أن النصوص الفلسفية التي أنتجها فلاسفة عصر الحداثة كانت نصوصا ذكورية من حيث الطرح المنهجي أو من حيث المحتوى وأيضا من حيث المقاصد والغايات، إنه يبدو طرحا فحوليا، فكانط -مثلا– اعتبر العقل ذكوريا بامتياز في مقارعته للحقيقة الميتافيزيقية خارج دروب الحساسية، واعتبر العاطفة وهم ومضللة للقيمة الأخلاقية، وحتى نهاية عصر الحداثة ومطلع القرن التاسع عشر لازال الفيلسوف نيتشه يبدد الحقيقة كمعطى ثابت، ويرفض المرأة كموجود تاريخي.
إن القطيعة الفلسفية حتى في أوجّ مظاهرها عبر العصور الفلسفية المختلفة لم تستطع أن تتغلغل إلى جنس التفكير في حدّ ذاته، بل استبدلت المضامين المعرفية والمنهجية، وكذلك غيّرت الآليات التي تنتج المعرفة بآليات جديدة، وحتى النقد في أخصب فتراته وأكثر راديكالية فلم يسلم من هذا الصمت الطويل تجاه قضية المرأة الفيلسوفة، غير أن تحولات العصر التي عقبت الحداثة بما هو العصر ما بعد الحداثي كان قد ربح معركته المنهجية مع العصر السابق، حيث أصبح عصرا ينفتح على مناهج لسانية وعلمية وفلسفية وتاريخية، ومن ثمة أصبحت الحقيقة متعددة بتعدد المقاربات المنهجية التي تأخذها، فأصبح الحق في الاختلاف والتعدد والتنوع والتغير، وسيكون على فلاسفة هذا العصر الجديد أولا وقبل كل شيء كأنه نوع من الاقتصاص الفلسفي- المنهجي من عصر الحداثة، إذ بدأت العودة النقدية وبمعاول التفكيك تؤتى ثمارها من خلال فضح النسيان والإقصاء والتمركز، ومن ثمة تغيير الخريطة الفلسفية سواء لتاريخ الفلسفة أو للحظة الفلسفية الراهنة، وأصبح الهدف هو ترتيب العلاقة الفلسفية بين الرجل والمرأة، والإنصات –هذه المرة- لحسّ الأنوثة وعاطفتها والاستفادة من براكسيسها أيضا، لأنها أصبحت -المرأة- ليس فقط موضعا للتفسير كما كان في السابق بل هي أداة لتفسير العالم، وحتى تغييره، إن استعرنا ههنا لغة ماركس، والأكثر من ذلك ليست فقط كأداة منهجية، ولكن كمعطى أنطولوجي ينخرط في كل حدث إنساني، لهذا سيكون الهدف ترتيب العلاقة الفلسفية بين الذكورية والأنثوية خارج سياق الإقصاء والتمركز، وذلك بأدوات تفكيكية تكشف قبل كل ذلك بؤر التمركز الذكورية. وإذا كانت امرأة الأمس مسلوبة الوسائل، فإن امرأة اليوم تمتلك الأداة -بلغة هيدغر- التي من شأنها أن تعطي معنى حقيقيا لوجودها بحيث تنتقل من الوجود الزائف إلى الوجود الأصيل، إن الرهان اليوم على فيلسوفات العصر -أو على الأقل المشتغلات في الحقل الفلسفي وباقي الحقول المعرفية أيضا- هو التوجه نحو نوع من الغراماتولوجيا –على حدّ تأسيس جاك دريدا- نحو الكتابة بما هي نوع من الأثر، وحفظ للذاكرة النسوية من عوامل النسيان والتهميش والإقصاء، ولن يتأتى ذلك إلا بفعل الكتابة. أخيرا يجب أن نحترز أيضا من أدلجة واحتواء الفلسفة النسوية ضمن التيارات السياسية والحزبية، فذلك لا يختلف خطورة وشناعة من الصمت والتهميش والإقصاء الذي تم تاريخيا، ويجب أن نحذر أيضا من أن تتحول الفلسفة النسوية إلى مجرد ردّ فعل تجاه الفلسفة الذكورية، فتسقط حينئذ في مقص الثنائيات المقيتة، وتصبح أشبه بفلسفة سكولائية تجيب عن سؤال (هل أنت مع الفلسفة النسوية أو ضدها؟)، ويتحول بذلك هذا الحسّ الجنيني للأنوثة الفلسفية إلى حسّ امبرطوري، فيكون بذلك لزاما علينا طرح السؤال التالي: هل قدر الفلسفة أن تبدأ ذكورية في إجابة رجل مُحب للحكمة يباشر علاقته البحثية بالله؟ هل قدر الفلسفة والحكمة معا أن تقتص من الرجل الإغريقي الذي اخترعها فيلولوجيا فخرجت من ريقه بين فكه العلوي والسفلي؟ أمام الحراك الفلسفي النسوي هل معناه أن لعنة فيثاغورس تطارد العقلية الذكورية؟ أم أنه على النساء الفيلسوفات عدم لوم فيثاغروس لأن مكانه لم يؤنث آنذاك، وإلا لشاركته امرأة بجانبه اللقب الفلسفي؟. أعود وأقول كم نحن بأمس الحاجة -اليوم- في مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلى شخصية فلسفية بحجم «بروموثيوس» أو أكثر من ذلك بكثير، لأن المشكلة مضاعفة، نحن بحاجة إلى شخصيات فلسفية رجلا كانت أو امرأة تعمل قبل كل شيء على رسم خريطة إنسية للإنسان، واختراق عالم الفقهاء ورجال الدين والسياسيين لجلب قبس الحقيقة وتقديمها لبني البشر، إن المهمة مضاعفة اليوم مما كانت عليه، لأن آلهة «بروموثيوس» قد عادت أكثر محايثة ومزاحمة لعالم البشر، وأصبحت البشرية مخيّرة بين الآلهة الجدد أو خراب العالم وفق المفكر علي حرب، على الفلاسفة أن يقدموا من أكبادهم حتى يبلغوا هم أيضا كبد الحقيقة، مثلما قدّم جدّهم «بروموثيوس» من كبده.