يعيش المسلمون هذه الأيام في ظلال الأشهر الحرم التي أهلت عليهم، بما تحمله من نفحات وبشائر وفرص للإكثار من الخير، وقد خصها الله تعالى بالحرمة من دون سائر الشهور وشدد في النهي عن ظلم النفس فيها، وهي أشهر: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الفرد، وأوجب فيها شعائر تعبدية عظيمة، أهمها الحج إلى بيت الله تعالى الحرام حيث تؤدى أهم أركانه في شهر ذي الحجة، وعيد الأضحى المبارك، وما اعتاد عليه الجزائريون من أداء زكاة أموالهم في بداية شهر محرم، وتشرع فيها بعض الآداب ويستحب الإكثار من أعمال البر والخير عبادة ومعاملة؛ لأنها مظنة مضاعفة الثواب، واجتناب المحظورات؛ لأنها مظنة مضاعفة الإثم كما ورد عن بعض العلماء؛ لاسيما في العشر الأوائل من ذي الحجة التي دخلت أمس والتي تعد أفضل أيام العام.
فقد قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) [التوبة: 36] ففي "الصحيحين": أَنَّهُ قَالَ: ( إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ..). وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السالفة الذكر: 'لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب؛ لأن الله سبحانه إذا عظم شيئًا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وروى الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: ((إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)): 'في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.' وعن قتادة: أما قوله: ((فلا تظلموا فيهن أنفسكم))، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل).
لذلك ينبغي للمسلم أن يعظم هذه الأشهر ويحفظ لها حرمتها، فلا يعتدي فيها ولا يقترف ذنبا من عظائم الذنوب، والله سبحانه وتعالى يقول:( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وقال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، فتعظيمها أمارة التقوى ودليل الخيرية عند الله تعالى.
وقد كان العرب يعظمون هذه الأشهر في الجاهلية قبل الإسلام وقد تكون من مخلفات ملة إبراهيم عليه السلام، فنزل القرآن الكريم ليؤكد هذه الحرمة، ويرحم القتال فيها ويحرم النسيء؛ فقال الله عز وجل: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) [البقرة:217] قال ابن كثير: (وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا).
ولئن كانت تقوى الله تعالى بالتزام طاعته والانتهاء عن نواهيه واجبة ومطلوبة في كل الأيام والشهور وفيها الثواب عند الالتزام أو الوزر عن المعصية؛ إلا أنها تكون أكثر طلبا في الأشهر الحرم لأنها ترتبط بتعظيم الشعائر وحفظ حرمتها.
ع/خ
فيديوهات حول فتاوى الحج
بغرض مرافقة الحجاج لأداء حج صحيح يستوفي كل الأركان والواجبات والسنن والآداب ويخلو من كل نقائص ومفسدات شرعت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ابتداء من هذا الأسبوع في بث فيديوهات قصيرة تتضمن مجموعة من الفتاوى المتعلقة باختيارات لجنة الفتوى والإرشاد لبعثة الحج الجزائرية، وطلبت مشاركتها تعميما لاستفادة الحجاج منها لتيسير سبل حجهم.وعملا بما روي من قول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ الدَّالَّ على الخيرِ كفاعِلِهِ) وذلك عبر الرابط الذي نشرته في موقعها.
https://www.youtube.com/playlist...
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
دخلت أمس العشر الأوائل من ذي الحجة وهي الأيام الفاضلة في العام كله و في الأشهر الحرم خصوصا، لما ورد من قوله تعالى: ((وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر))، قال القرطبي: وليال عشر" أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: "وليال عشر" هو عشر ذي الحجة، وهي أفضل أيام السنة؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها اللّه بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها.
وقد ورد في فضلها ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: ''ما من أيام العمل الصالح فيها أفضلُ منه في هذه العشر ـ يعني العشر الأوائل من ذي الحجة – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء''، وقد فضلت على سائر الأيام لكونها من الأشهر الحرم، ولوقوع يوم عرفة في اليوم التاسع منها، وهو من أفضل الأيام، ولتشريع عيد الأضحى في اليوم العاشر منها، فكل هذه الشعائر جعلت منها أفضل الأيام إطلاقا وإن رجح البعض أن العشر الاواخر من رمضان تفوقها ليلا لوجود ليلة القدر فيها.
ع/خ
أحكام الأضحية عند المالكية
أورد الفقهي المالكي محمد العربي القروي في الخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية أحكام الأضحية منها ما يأتي:
- حكمها:
الْأُضْحِية سنة مُؤَكدَة عينا لحر غير حَاج وَغير فَقير وَلَو كَانَ يَتِيما أما الْحَاج فَإِن سنته الْهدى وَأما الْفَقِير فَلَا تسن لَهُ لِأَنَّهُ لَا يملك قوت عَامه وَيخرج عَن الْيَتِيم من مَاله وليُّه.
- الْأَصناف التي تخرج الْأُضحية
تخرج الْأُضْحِية من الْغنم ضَأْن أَو مع، وَمن الْبَقر وَمن الْإِبِل ويشمل الْبَقر الجواميس وتشمل الْإِبِل البخت وَيشْتَرط فِي الْغنم أَن يكون قد دخل فِي السّنة الثَّانِيَة وَأَن يكون هَذَا الدُّخُول بَينا كالشهر فِي الْمعز بِخِلَاف الضَّأْن فَيَكْفِي مُجَرّد دُخُوله فَلَو ولد يَوْم عَرَفَة أَجْزَأَ أضْحِية فِي الْعَام الْقَابِل وَيشْتَرط فِي الْبَقر أَن يدْخل فِي السّنة الرَّابِعَة وَفِي الْإِبِل أَن تدخل فِي السّنة السَّادِسَة.
- أفضلها
أَفْضَل فِي الضَّحَايَا الضَّأْن [لحديث أنس رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ" رواه الشيخان] فالْمعز فالبقر فالإبل لِأَن الْأَفْضَل فِيهَا طيب اللَّحْم بِخِلَاف الْهَدَايَا كَمَا تقدم فِي الْحَج فَإِن الْمُعْتَبر فِيهَا كثرته وَالْأَفْضَل من كل نوع الذّكر فَيقدم على أنثاه والفحل فَيقدم على الْخصي إِلَّا إِذا كَانَ الْخصي أسمن فَيكون أفضل من الْفَحْل وَالْأَفْضَل بالمضحي أَن يجمع بَين الْأكل مِنْهَا والإهداء لنَحْو جَار وَالصَّدَََقَة على فَقير مُسلم بِلَا حد بِثلث أَو غَيره .
- وَقت الْأُضحية
أما وَقتهَا بِالنِّسْبَةِ للْإِمَام فَيدْخل بعد صلَاته وخطبته فَلَا تجزيه إِن قدمهَا على الْخطْبَة وَيدخل وَقتهَا بِالنِّسْبَةِ لغيره بعد ذبح الإِمَام وَبعد صلَاته وخطبته وَيسْتَمر وَقتهَا لآخر الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام النَّحْر بغروب الشَّمْس مِنْهُ وَلَا تقضى بعده فَلَا تُجزئ إِن سبق ذبحه ذبح الإِمَام وَلَو أتم بعده أَو ساواه فِي الابتداء وَلَو ختم بعده أَو ابْتَدَأَ بعده وَختم قبله ويجزيه إِن ابْتَدَأَ بعده وَختم بعده أَو مَعَه كَمَا يجْزِيه إِذا لم يبرزها الإِمَام للْمُصَلِّي وتحرى ذبحه وَذبح فَتبين أَنه سبقه فَإِن توانى الإِمَام عَن الذّبْح بِلَا عذر انْتظر قدر ذبحه وَذبح وَكَذَلِكَ إِذا أعلمنَا الإِمَام أَنه لَا يُضحي فَإِن لم ينْتَظر قدر ذبحه لم يجزه، وَإِن توانى لعذر انْتظر قدر ذبحه كَمَا ذكرنَا وَاسْتحبَّ لَهُ أَن ينْتَظر لقرب الزَّوَال بِحَيْثُ يبْقى للزوال قدر الذّبْح وَمن لَا إِمَام لَهُ بِبَلَدِهِ أَو كَانَ من أهل الْبَادِيَة تحرى بذَبْحه أقرب إِمَام لَهُ من الْبِلَاد بِقدر صلَاته وخطبته وذبحه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ إِن تبين سبقهوَالْأَفْضَل من الْأَيَّام لذبحها الْيَوْم الأول للغروب وأفضله أَوله للزوال فَأول الْيَوْم الثَّانِي للزوال فَأول الْيَوْم الثَّالِث للزوال فآخر الثَّانِي فآخر الثَّالِث فَمن فَاتَهُ أول الثَّانِي ندب لَهُ أَن يُؤَخر لأوّل الثَّالِث وَقيل بل آخر الثَّانِي أفضل من أول الثَّالِث.
- شروط صحة الْأُضحية
الأول-النَّهَار فَلَا تصح بلَيْل وَالنَّهَار يعْتَبر بِطُلُوع الْفجْر فِي غير الْيَوْم الأول أما الْيَوْم الأول فَالشَّرْط للْإِمَام صلَاته وخطبته وَلغيره ذبح الإِمَام.
الثَّانِي: إِسْلَام ذابحها فَلَا تصح بِذبح كَافِر أنابه رَبهَا وَلَو كتابيا وَإِن جَازَ أكلهَا.
الثَّالِث: السَّلامَة من الاشتراك فِي ثمنهَا [وأجاز الجمهور الاشتراك في البدن والبقر غير الضأن] أما التَّشْرِيك فِي الْأجر قبل الذّبْح لَا بعده فَيجوز بِشُرُوط ثَلَاثَة: أَن يكون الَّذِي وَقع تشريكه قَرِيبا كابنه وأخيه وَابْن عَمه وتلحق بِهِ الزَّوْجَة وَأَن يكون فِي نَفَقَته سَوَاء كَانَ الْإِنْفَاق وَاجِبا على المضحي كأب وَابْن فقيرين أَو غير وَاجِب كالأخ وَابْن الْعم، وَأَن يكون سَاكِنا مَعَه فِي دَار وَاحِدَة فَإِذا توفرت الشُّرُوط سَقَطت الضحية عَن الَّذِي وَقع بشريكه
الرابع: السَّلامَة من الْعُيُوب الْبَيِّنَة.
- ممنوعاتها
أولا-بيع شَيْء من الْأُضْحِية جلد أَو صوف أَو عظم أَو لحم وَلَا يعْطى الجزار شَيْئا من لَحمهَا فِي نَظِير جزارته وَهَذَا الْمَنْع شَامِل لما إِذا أَجْزَأت الْأُضْحِية أَو لم تُجزئ كَأَن سبق الإِمَام بذبحها أَو تعيبت حَال الذّبْح قبل تَمَامه أَو تعيبت قبل الذّبْح أَو ذبح شَاة مَعِيبَة جهلا مِنْهُ بِالْعَيْبِأَو جهلا يكون بِالْعَيْبِ يمْنَع الْإِجْزَاء وَسبب الْمَنْع أَنَّهَا خرجت لله سَوَاء أَجْزَأت أم لَا
ثانيا-الْبدل لَهَا أَو لشَيْء مِنْهَا بعد الذّبْح بِشَيْء مجانس للمبدل مِنْهُ فَإِن كَانَ غير مجانس للمبدل مِنْهُ كَانَ بيعا وَقد تقدم مِنْهُ ويستثني الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ والموهوب لَهُ فَيجوز لَهما بيع مَا اتصلا بِهِ من اللَّحْم وَلَو علم رب الْأُضْحِية بذلك.