تشكل الصناعات التقليدية والحرف رافدا اقتصاديا مهما وواحدا من بين أهم قطاعات التشغيل في بلادنا، وقد كشف ممثلون عن القطاع مؤخرا خلال معرض للحرف احتضنته مدينة وهران، أن نسبة مساهمته في الناتج الوطني الخام بلغت 60 مليار دج في سنة 2023، كما أنه يوفر أكثر من مليون منصب شغل، ويلعب دورا محوريا في حماية التراث الجزائري في ظل السرقات التي تستهدفه.
خيرة بن ودان
قامت النصر، بجولة بين أروقة المعرض الذي سجلت فيه مدن الجنوب حضورا قويا جدا، ميزه تنوع في المنتوجات تقليدية بلمسة عصرية وزخرفة وألوان تعرف بتراث وهوية صحرائنا الشاسعة، و قد كانت لنا دردشة مع عدد من العارضين الذي ساهموا في إعادة بعث حرف وصناعات كان الاندثار يتهددها.
حسين قاديري.. حرفي أعاد بعث سجاد تيميمون بعد 80 سنة
تمكن الحرفي حسين قاديري، من إيصال سجاد تيميمون إلى العديد من الدول الأوروبية وكندا وغيرها من بلدان العالم، بفضل اتفاقيات مع عدة هيئات، وعرف من خلال نشاطه بالتراث الزناتي الذي يميز عمق حضارة الصحراء و يمثل جزء من هويتنا الثقافية، ووفق المتحدث فقد عرض السجاد في معارض وصالونات عبر العالم، ليعود إلى الواجهة من جديد بعدما كان قد نسي تقريبا، وهو السجاد الذي كان شهيرا في القرن 19، وقال محدثنا، إنه تم العثور على سجاد تيميمون الأصلي في إحدى كاتدرائيات «سراسبورغ» وأن القطعة كما علم تعود لسنة 1926..
وحقق الحرفي وهو أيضا رئيس غرفة الحرف والصناعات التقليدية بتيميمون، إنجازا في مجال الصناعات التقليدية من خلال إعادة بعث سجاد من تراث المنطقة كان قد اختفى منذ حوالي 80 عاما، وعمل قاديري منذ سنة 2007 على هذا المسعى، وكانت البداية بتقصي أثر السجاد و استنساخ نماذج معروضة بمتحف الولاية، وبعدها تم على مستوى الجمعية التي يرأسها والخاصة بحقوق الطفل والمرأة الحرفية، تسجيل عدد من الحرفيات اللواتي سبق لهن تلقي تكوين في نسج السجاد التقليدي على مستوى مركز التكوين المهني، أخضعن مرة أخرى لتكوين في مجال حياكة النسيج التقليدي.
وتحصي الجمعية اليوم كما قال، أكثر من 30 حرفية تمتهن هذا النشاط و تحترفنه، بعدما تحكمن في كل مراحل العمل بداية بتجهيز المادة الأولية و إدراج الألوان الطبيعية لخيوط النسيج ليكون السجاد طبيعيا بشكل خالص.
وأردف المتحدث، أن العديد من الحرفيين يقصدون تيميمون للخضوع لتكوين في استخراج الألوان من المواد الطبيعية معقا: «ورشتنا هي الوحيدة وطنيا التي تستخرج كل الألوان من الطبيعة»، وحسب قاديري فإن هذا العمل ذو شقين، إذ يرافقه إنتاج نباتات خاصة تستخلص منها الألوان، وهي حرفة تستقطب الشباب من مختلف ولايات الوطن.
و إلى جانب تكوين 200 حرفية في هذا التخصص، فقد برمجت ورشات لتعلم التسويق الداخلي للسجاد، وقال المتحدث إنه يملك على مستوى تيميمون، علاقات قوية مع مرشدين سياحيين ويتعامل مع فنادق بالمنطقة ليكون قادرا على عرض سجاده للسياح والتعريف «بسجاد تيميمون» الأصلي وتاريخه، وغالبا ما يحقق مبيعات معتبرة لجزائريين ولأجانب أيضا.
وفي ظل الانتشار وارتفاع الطلب، أكد السيد الحرفي أنه يعمل على مشروع لإنجاز مدرسة خاصة بتكوين الحرفيين في السجاد وغير ذلك من الصناعات التقليدية، وتوفير فضاء للعرض لأن كل سجاد له بطاقة تعريف وله اسم خاص به وزخرفة وألوان تميزه عن غيره.
سالم كابوس يمنح حيـاة أخرى لـ «قمبري» تندوف
أوضح الحرفي سالم كابوس، صانع آلات عزف وترية تقليدية من تندوف، أن استعمال الآلات التي يصنعها لم يعد يقتصر على الفرق الموسيقية بجنوب البلاد، بل انتشر توظيفها موسيقيا في مختلف أرجاء الوطن وحتى خارجه، لما لهذا النوع الموسيقي من جمالية فنية و رمزية اجتماعية، ويقصد هنا فن الديوان الذي قال إنه يجمع بين الموسيقى والمدح وجمع العشائر والعائلات حوله.
وأضاف، أن هذا النوع من التراث، كان منسيا لعدة عقود بمنطقة تندوف بعد أن توفي كبار الحرفيين، وأنه أخذ على عاتقه مهمة إحياء الحرفة ليساهم في الحفاظ عليها ونقل الذاكرة بين الأجيال، وعن أصل الفكرة أوضح السيد سالم، أنه صاحب فرقة موسيقية أراد أفراد فرقته عزف موسيقى الديوان ذات يوم، لكن تعذر عليهم الحصول على «آلة القمبري» التي هي أساس هذا الفن، فدفعه ذلك للبحث عن واحدة وفعلا تمكن من إيجادها بعد جهد جهيد، ثم قرر البدء في صناعة الآلات من أغصان أشجار «الروبينيا» وجلد الجمال الذي يجب استعماله مباشرة قبل أن يجف حتى يكون سهل الاستخدام.
ولإزالة رائحة الجلود وضمان جودتها، أوضح محدثنا أنه أجرى بحوثا مع عدة مدابغ في دول عربية وغربية وبفضل الخبرة التي اكتسبها، توصل إلى طريقته الخاصة التي سمحت له بتفادي كل ما من شأنه التأثير على آلاته الموسيقية وتسهيل تسويقها أيضا، وأشار الحرفي إلى أنه يهدف لتشجيع الشباب على استعادة الموسيقى وفن الديوان أساسا والموسيقى الصحراوية عموما، ومن أجل هذا فهو يعرض آلاته الوترية بأسعار متفاوتة وفي متناول الشباب المولوع بالموسيقى لتلبية رغبته في التعلم وتشجيعه على الحفاظ على التراث اللامادي للمنطقة.
مردفا أن آلاته تسوق خارج الوطن كذلك، وقد لاقت إعجابا لدى مستعمليها مبرزا :» أحد أقارب الراحلة حسنة البشارية، شجعني كثيرا لمواصلة الحرفة لأن الآلات التي تم تسويقها في فرنسا أبهرت مستعمليها»، وعليه يشارك الحرفي في مختلف التظاهرات لتطوير عمله ونقل خبرته للشباب وتقصي فرص التسويق داخل وخارج الوطن.
وفي رده على سؤال حول نقل الحرفة للشباب، أجاب سالم بأن هذه الحرفة مدرجة حاليا في تخصصات التكوين المهني بتندوف، كما يستقبل هو على مستوى ورشته الصغيرة متربصين من أجل التطبيق الميداني للحرفة كونه الحرفي الوحيد بالولاية الذي يمتهنها، ولكن المقر لا يستوعب سوى شابين اثنين، لذلك يسعى للحصول على مقر أوسع للتطوع لمساعدة شباب المنطقة.
ووفق محدثنا، فإن تسميات موسيقى الديوان بالجزائر تختلف من منطقة لأخرى، ففي غرب البلاد يسمى «الشرقي» وفي الشرق يطلق عليه «الإسطمبلي»، وعلى خلاف بلدان إفريقية أخرى، فإن فرق الديوان الجزائرية تختص في مدح الرسول وأداء أغاني دينية وأخرى تحاكي المجتمع.
وإلى جانب الآلات الوترية، يصنع محدثنا آلات أخرى منها طبل «قنقا» الذي هو أساس موسيقى «الوعدة» مثلما قال، وطبل «جامبي» الذي يشبه «القلال»، وآلة «سيزان» التي تشبه القمبري ولكن أصلها من السينغال.
عوامر الشيخ.. حرفي «يستنطق» رسومات الطاسيلي
يختص الفنان عوامر الشيخ في نقل الرسومات والنقوش الموجودة على صخور طاسيلي ناجر، على جلود الجمال ليهدي لزبائنه لوحات فنية تشكل قطعا «مستنسخة» من إبداعات رجل الصحراء الأول، الذي ترك ثروة فنية كبيرة تصنع تاريخ وذاكرة الجزائر.
وأكد عوامر، أنه شارك في الكثير من التظاهرات الخاصة بالصناعات التقليدية و السياحة والأسفار، داخل الوطن و في عديد دول العالم، مردفا أن الحديث عن الطاسيلي هو حديث عن تطور الإنسان ووجوده قبل التاريخ، وهي المرحلة المجسدة في رسوماته والنقوش التي تركها لتكون اليوم دليلا قاطعا على وجود الإنسان فوق أرض الجزائر في بدايات الخليقة.
وقال محدثنا، بأن عدد السياح والزائرين للمنطقة هذا العام فاق كل التوقعات وخاصة السياح الأجانب، مما جعل ساهم في انتعاش الحرف والصناعات التقليدية كثيرا، وبخصوص أعماله والتحف التي يعرضها للسياح، أوضح أنه يستلهم أفكارها مما يراه في كل مرة يرافق الوفود خلال الزيارات السياحية إلى فضاء الطاسيلي، أين يغذي خياله ليجسد نماذج ولوحات فنية صحراوية جديدة على جلود الجمال يقتنيها السياح كذكرى عن المنطقة والبلد عموما.
وعلق محدثنا، أن لوحات ليست للزينة فقط بل هي صفحات تعرف بمحطات و تروي قصص عن المنطقة وتاريخها. ولا يكتفي السيد عوامر بوضع ديكورات مميزة للوحاته، بل ابتكر أيضا طريقة لعرض عمله إذ يزين أطباق الخزف وسلال الحلفاء بتلك اللوحات في مزيج راق بين المواد يضيف جمالية وقيمة لكل قطعة.
مشيرا، إلى أن المواد الأولية متوفرة في الصحراء، و أن التسويق يزدهر في الموسم السياحي الذي يتوافد فيه الأجانب بكثرة، كما تعرف السياحة الداخلية حركية على مدار السنة، وهو ما يضمن طلبا دائما على منتوجاته.
أبو بكر محمود.. يجمع التقليدي والعصري في ألبسة وصناعات جلدية
ومن عمق جانت، قدم الحرفي أبو بكر محمود، ليعرض تشكيلة من الألبسة التقليدية الذي أعطاها لمسة عصرية، حيث قال إن أغلب زبائنه هم صحفيون يقصدون الصحراء سواء للعمل أو السياحة ويحبون ملابسه لكونها مناسبة للطبيعة الصحراوية وتجنبهم أية تحسسات جلدية.
وأضاف، أن كل التصاميم التي يعرضها من ابتكاره حيث يزاوج فيها بين الموروث والاحتياجات العصرية، وتتمثل الملابس في سراويل فضفاضة عليها طرز تقليدي صحراوي، إلى جانبها حقائب يدوية مصنوعة من جلود الجمال والبقر ومحافظ للنقود بألوان وأشكال مميزة و حاملات مفاتيح وغيرها، تعتمد كلها بنسبة كبيرة جدا على الجلد الطبعي المتوفر في المنطقة وبجودة عالية.
قال الحرفي، بأنه تمكن من نسج علاقات مع مختصين في دباغة وتصنيع الجلود للحصول على ما يحتاجه لصناعته، مشيرا أن حرفته ازدهت و الطلب على منتجاته زاد خلال السنتين الماضيتين بفضل تشجيع السياحة الداخلية حيث توافد الكثير من الجزائريين على جانت، التي كانت إلى وقت قريب تستقبل الأجانب فقط، وعليه وفق السيد محمود فإن تسويق منتوجه ارتفع بل و صار مطلوبا خارج الوطن كذلك، ما ساعد على استقرار الأسعار في ظل التنافسية.
مبرزا من ناحية ثانية، أن عدد الحرفيين في هذا الصنف من الصناعة التقليدية قليل، لكن وبفضل دعم الدولة وتشجيعها فإن هناك عودة للاهتمام بالصناعات التقليدية و استفاقة في أوساط الشباب، ما يعد بنقلة نوعية في مجال الصناعات الحرفية عموما.