يختلج صدرك شعور استثنائي وأنت تضع أولى الخطوات في الممر الضيق المؤدي إلى دار بحري بالسويقة القديمة بقسنطينة، ويتملكك سحر المكان ويرحل بك إلى ماضي المدينة الجميل لتقلب صفحات من ذاكرتها وسجلها الفني، وتتمعن في سطور خطتها أجيال متعاقبة تركت أثرا لم تمحه السنون، يظهر في زوايا دار بحري وموسيقى الوصفان.
بورتريه: أسماء بوقرن
في هذا البيت التراثي العتيق، يحمل الجيل الرابع من الأبناء المشعل سائرا على درب المؤسسين، في إحياء عادات المدينة وأهلها كالشعبانية والمولدية و يحضر الشباب لإطلاق كليب غنائي في طبع الوصفان، ناهيك عن العناية بالبناية التي لا تزال شامخة رغم الخراب الذي طال ما يجاورها من بيوت.
بمجرد التقدم نحو المدخل الرئيسي لدار بحري والمرور عبر الرواق الضيق المزين بقطع فخارية و تشكيلة من النباتات، ستجد نفسك في قلب تحفة معمارية فريدة توثق لماضي المدينة العمراني سيبهرك الانطباع الأول وأنت تلج من الباب الخشبي الرئيسي الضارب في القدم والجميل على بساطته، ستمر أيضا عبر السقيفة، المحاطة بجدران يغطيها الجير، والتي يميزها سقف مرتفع من أعمدة العرعار.
تستقبلك آلة الطبل المعلقة في الزاوية اليمنى، وستحب وسط الدار المبلط بمربعات برتقالية، والذي يتوسطه حوض مبني بالحجارة ومزين بالفسيساء به أسماك مختلفة الألوان.
أكثر ما يميز الدار حالتها الجيدة بفضل ما خضعت له من ترميمات دورية حافظت على شكلها العام، وسمحت بإبراز خصوصية كل جناح وجزء منها، على غرار المقدمات التي تسبق مداخل المجالس المزينة بأواني فخارية قديمة كانت تستعمل لتحضير الطعام وتخزينه، قبل أن أصحاب الدار التي كانت تأوي 8 عائلات قبل سنة 2003، إلى قطع ديكور و أصص للنباتات.
بالمرور عبر ما يسمى «المقدمات» بوسط الدار، وهي عبارة عن درج مؤدي «للمجالس»، تتزين أجزاء أخرى من المنزل بشكل لافت، مثل « البيتة» و»الدهليز» و»المسراق» و»المصرية» و»بيت الصابون»، و»الداير» وهو الطابق الأول الذي يضم عدة مجالس إضافة إلى الحوض الموجود بوسط الدار، والذي كان في الماضي يعبأ بالماء لاستعماله في الغسيل.
وتتزين جدران وزوايا الدار بآلات موسيقية تستخدم في جوق الوصفان، منها ما عمر لـ 100 سنة، كآلة القومبري المعلقة فوق الجدار المحاذي للحوض، والمصنوعة بحطب الجوز وجلد الماعز، وتعد آلة أساسية في جوق الوصفان، نجد أيضا الكركطو المصنوع بجلد الماعز، والبندير والدربوكة إلى جانب الطبول، فالبناية عبارة عن لوحة تمزج عمران قسنطينة العريق، بموسيقى الديوان الضاربة في القدم.
للنساء مكانة مهمة في جوق الوصفان
يعد سليم حشاني، من أبرز شباب الجيل الرابع لعائلة دار بحري هو عضو في فرقة الوصفان، وحفيد الجدة جميلة حشاني، وابن المرحوم أحمد لخضر المدعو الهادي، وقد استلم منه المشعل بعد رحيله سنة 2022.
أخبرنا، أن الدار كانت تستقبل الزوار وسكان المدينة لتقاسمهم الأفراح، وأنها تعد عنوانا لإحياء مناسبات الشعبانية والمولدية، وكانت دائما بمثابة قاعة للأفراح، تفضلها العائلات التي تعشق هذا الطبع لإحياء مناسبات كالختان، كما كانت فرقة بحري تنتقل إلى بيوت القسنطينيين لتحيي أفراحهم. كانت الدار التي تجاوز عمرها 4 قرون، تحتضن كذلك عناصر فرقة طابع الديوان المعروف وطنيا بالقناوة، وهم أعضاء جمعية دار بحري الناشطة منذ سنة 1992، وتتكون الفرقة الموسيقية التي عرفت في المناسبات والمهرجانات حسبه، ، من سبعة رجال وثلاث نساء. مردفا، أن للمرأة مكانة مهمة في أداء هذا الطبع، ومذكرا بأول من أدت الوصفان من النساء، وهي الجدة الخامسة حشاني، يقول محدثنا:» قديما كان أداء الطبع مقتصرا على النساء قبل إشراك الأبناء، وقد ورثت الوصيفة جميلة هذا الفن عن الجدة واستلمت المشعل بعد وفاتها، تلتها الشابة عائشة وهي عضو في الفرقة لحد الآن، علما أن جوق فرقة الخوان يضم كذلك شقيقتي و العمة عائشة».
«المحور» الطبق الرئيسي للاحتفال
و تشتهر دار بحري بإحياء مناسبات دينية واجتماعية، أبرزها الشعبانية والمولدية، مناسبتان يتم التحضير لهما مسبقا وبطقوس خاصة، فالاحتفال بالشعبانية بدار بحري، هو جمع إعانات للمحتاجين لقضاء الشهر الفضيل، وهي غاية تتشارك فيها كل الطبوع بقسنطينة، لكن طريقة الاحتفال تختلف. يوضح:» بدار بحري يبدأ بالتحضير المسبق للمناسبة بالتعاون بين فرق الديوان والأخوان، حيث يجتمع كبار الشيوخ في أحد البيوت بدار بحري، أو في دار برنو أو دار حوصة الكائنتين بحي سيدي جليس، وذلك لتحديد يوم الشعبانية، الذي يكون عادة قبل أسبوع أو أربعة أيام من الشهر الفضيل، حيث تحيى كل من فرقتي الأخوان والديوان الاحتفالية بتأدية الطبع، من خلال غناء جوق للديوان للنساء بعد صلاة العصر بالاعتماد على الطبول، فيما تباشر فرقة الأخوان الغناء للرجال بعد صلاة العشاء، بالذكر وتقديم حزب». وحسبه، فإن الموسيقى الثانية أقل هدوءا من التي تقدم نهارا، منبها للفرق بين الديوان والأخوان، فالطبع الثاني يعتمد على القمبري إلى جانب الدربوكة والقراقب والطار، والديوان يقوم على الطبول والكركطو. وبخصوص العادات التي ترافق الفعالية، أشار إلى أن العائلات المشاركة فيها تحضر معها أشهى الوجبات لتزين سينية العصر، فيما يقدم طبق تقليدي في العشاء وهو «المحور» الكسكس بمرق أبيض، أو «المزيت» وهو الكسكس الأسود، لتوزع في اليوم الموالي الإعانات على العائلات المحتاجة.
مردفا، بأنه من بين العناوين التي كانت تحتضن احتفالية الشعبانية دار بوالجبال وزايتي الغراب وسيدي سليمان، ومن الأيام المباركة التي تحتفل بها دار بحري إلى جانب ذلك، ليلة 27 من رمضان، للتحضير لعيد الفطر، حيث يتم ختان الأيتام ومساعدتهم في شراء كسوة العيد، أما المولد النبوي الشريف فتجتمع العائلات القسنطينية مرفقة بحلويات لتزيين القعدة، ومنها ما تفضل ختان أبنائها في هذا اليوم.
هكذا نحضر لرمضان
«نسيسوا الدار»، هي عبارة تتداول بكثرة مع اقتراب حلول شهر رمضان المعظم بدار بحري، حيث تباشر العائلات طلاء جدران المجالس وباقي أركان الدار بالجير، وقد تحدث سليم، رئيس جمعية دار بحري، عن التحضيرات التي تبدأ بطلاء الجدران وسد التشققات، ثم تحضير الفريك وطحنه وكذا تحضير القهوة باستخدام الحماص مع خلطها بالحمص وماء الزهر ثم تطحن بعد أن تجف. تنظف الأواني النحاسية كذلك بالليمون ورماد الكانون، لإعادة البريق للنحاس، أو باستعمال الملح والليمون، كما توجد عائلات تغير فرش المجالس و «الكلة» وهي عبارة عن ستار يستعمل عند باب البيت ليحجب الرؤية.ومع قرب انقضاء الشهر تشرع النسوة في التحضير لعيد الفطر، وهي مناسبة يجتمع فيها كل أفراد عائلة دار بحري في الدار، على مائدة الغذاء التي تزين بطبقي «الجاري الأبيض و الرفيس»، ليتجدد اللقاء على مائدة العشاء لأجل طبق المحور.
وفي عيد الأضحى، يلتقي كل أفراد دار بحري لتناول وجبة الفطور يوم عرفة، وفي صباح يوم العيد ينحرون الأضاحي ويقضون اليوم سويا حتى وجبة العشاء التي تكون عبارة عن رأس الخروف وشواء الكبد.وفي اليوم الثاني، يحضر الكسكس بالكتف الأيمن للخروف بعد تقطيع الأضحية خلال الصبيحة، وهناك حسب محدثنا من يفضل تحضير «العصبانة» لاستقبال الأقارب.
عائلات لا تزال وفية لطبع الوصفان
وعن سر غياب طابع الوصفان وجوق دار بحري، قال الشاب بأنه تغييب عن المناسبات المحلية، بالرغم من عراقة الطبع ومشاركة الجوق منذ سنوات في مهرجانات كبيرة، منها مشاركته في الطبعة الأولى للمهرجان الثقافي الإفريقي باناف سنة 1969 كما كانت ثاني مشاركة فيه سنة2009.
مع ذلك، أكد محدثنا أن هناك عائلات لا تزال وفية للدار و للطبع الموسيقي، كما لا تزال دار بحري الممتدة على مساحة 240 م مربعا، تفتح أبوابها أمام أبناء قسنطينة والزوار من مختلف المناطق، منهم من يتبركون بذكرى الولي الصالح موسى بحري المدفون في البيت، كما تحظى الدار بزيارات من قبل باحثين وطلبة سواء من أجل الدراسة حول هندسة الدار أو البحث في مجال العادات والتقاليد، وهي أيضا محطة في مسارات السياحة. وتحرص جمعية بحري على إحياء لقاءات فنية في مواسم الربيع والصيف والخريف، كما تحيي حفلات نجاح، وذلك منذ عودة العائلة للإقامة في الدار سنة 2014، عقب مغادرتها لمدة بسب الترميمات.وكشف محدثنا كذلك، أن جوق بحري يحضر حاليا، لكليب غنائي في طبع الوصفان لإبراز مكانة دار بحري وما تضفيه من جمالية لعمران المدينة القديمة.
أ ب