ارتفع منسوبُ التضليل في زمنِ أصبح يُعرّف بما يشهده من انتشارٍ سريعٍ وآنيٍّ للمعلومات، في تناقضٍ محيّر بين وفرة الأخبار واختفاء الحقائق، وتكفي مُتابعة التغطيّة الإعلاميّة "العالميّة" للحرب الدائرة في أوكرانيا للوقوف على روايةٍ وحيدةٍ بأصوات مُتعدّدة وكأنّها تصدر عن مرشدٍ يُلهم صنّاع الأخبار والمحلّلين وحتى فيلسوف العصر الذي اقتحم خطوط النّار من دون خوذةٍ أو سترةٍ واقيّةٍ من الرّصاص، لأنّه فضّل أن تكونا من نصيب جندي في تضحيّة لا تصدر سوى عن وكيل حروبٍ في صورة برنار هنري ليفي.
وتعتمدُ وسائل الإعلام العربيّة واسعة الانتشار التأويل الغربي للحرب الذي تبتلعه جماهير شبكات التواصل ويطوّره منظّرون يتغذّون على الأخبار الجاهزة قبل تحليقهم "على الهواء" لرسم الصّورة التي سيكون عليها المستقبل بعد انقشاع الدخان، ويمكن للمتلقي الفطن أن يعرف نوعيّة الطّبق الذي تناوله المنظّر، قبل التحليق!
ثمّة بروباغوندا كونيّة تراعي مصالح الذين يعتبرون أنفسهم الملّاك الحصريين لكوكبنا، في تقديم الأخبار للعالم، لذلك لا يظهرُ إلا ما يُراد إظهاره، أما حقائق الصّراعات والحروب فتظل طي الكتمان لا يتداولها سوى لصوص المعادن والثـروات وتجار السلاح والنّخب السياسيّة التي يوظفونها، وحتى وإن خرجت إلى العلن فإنّها لا تصدّق في الغالب وتبدو كاذبة أمام سيل الزّيْف العارم.
في فيلم« Truth » تقول البطلة التي جسدت دور الصحفيّة ومنتجة البرامج "ماري مايبس" (الممثلة كايت بلانشيت) لأعضاء اللجنة التي نظرت في قضية بث روبورتاج قِيل إنّه مشكوك في مصداقية مصادره حول استعمال بوش الثاني للنفوذ في التهرب من أداء الخدمة العسكريّة، إن الجمهور لم يعد يصدّق الأخبار الصّحيحة، في استنتاج يعكس استياءها من انقلاب الرأي العام على الفريق الصّحافي الذي أنجز الروبورتاج.
والفيلم مأخوذ عن كتاب للصحفيّة و منتجة البرامج المذكورة، تروي فيه تفاصيل فصلها من شبكة "سي بي أس" بعد بث الروبورتاج.
و إذا كان إنسان ما قبل "الميديا الجديدة" يمتلكُ الوقت للتمعّن والهروب مسنودًا بأفكارٍ نزيهةٍ متوفرة في السّوق، فإنّ الإنسان الجديد يبدو محرومًا حتى من فرصة ٍ للانتباه، وقريبًا سيحوّله فقهاءُ البرمجةِ إلى كائنٍ آليٍّ يردّد ما يتلقّفه من دون تفكيرٍ.
سليم بوفنداسة