أمر بفتح النوافذ، على غير العادة، رغم أن الظرف غير مناسب لذلك. أراد أن يتنفّس هواء حقيقيا. خنقه الهواء الرصّاص الرّاكد في أجواء البيت الواسع. خنقه النهار الطويل كمشقة و الليل الأبيض الذي بات يتمنى لو يركض في شوارعه المقفرة ليصغي إلى ارتجاف الكائنات وهطول الندى.
غالب الأسى الذي اندلع من ترجمة ما هو فيه، وهو المترجمُ العارفُ. لا. لم يصدّق أن الأمور تحدث على هذا النحو. وهو الذي كان يرسم مجاري الأمور ويحدّد مصبّاتها. هو الذي لم يكن يحدث شيء إلا بإشارته. لم يكن يتوقع أن الهواء يصير ثقيلا هكذا، وأن الناس الذين خرجوا من بين أصابعه سيتحوّلون إلى جلادين، يعذّبونه بالكلمات. ماذا أصاب الناس، ماذا أصابني؟ كأني لم أعد أنا، كأن اسمي تعرض لعطب فلم يعد يدل عليّ، كأن وباء النسيان أصاب الناس. حتى الهاتف لم يعد يحمل سوى أصوات اليائسين و الخائفين من تلف أمجادهم، كأنني لم أعد ربا يصون المصائر أو يخرّبها.
صحيح أني كبرتُ في الصمت وفي الظلام، لكنهم كانوا يعرفون مقاصدي فيعفونني من الكلام، وهكذا نبت شعبٌ على ضفاف صمتي ونمت أحزاب وصحف وملائكة وشياطين وسعاة وتجار وغانيات وشيوخ يرسمون طريق التهلكة وشيوخ يشيرون إلى سواء السبيل. اندلعت بجوار صمتي حروب ونُسجت مكائد، سيقول مغرضون أني أصل البلاء، لكنهم يجهلون بأن وظيفة القيّم على توازن الموجودات تقتضي حمل النار في كف وحمل الماء في شقيقتها.
ما الذي أصاب الهواء كي يصير ثقيلا هكذا؟
أمر بفتح النوافذ و أغمض عينيه ليمتحن الغيب بحلم يُسكت الحقيقة. لا ليس ليس حلما. الكلمات السيّاط ليست حلما. الحلم كان يخشاني فيتجنب إفساد ما أنا فيه، حتى الكوابيس كانت تتجمّل حين تزورني وتحذر نفسها مسبقا و تعلن أنها تعني الآخرين فحسب.
خدش الهواء بسبابة التحذير: سأتكلّم، لست كالآخرين. كلامي يصيب. كلامي فصل.
سأوقف هذا الصمت وأكف عن الإيماء بالمقاصد إلى مترجمين تعوزهم الكفاءة. اللعنة. ألم ندرّب مترجمين يحولون النيّة إلى خبر؟
شعر برجفة. رأى يده ترتعش. رأى دخان السيجار يرتعش. اقترب من الليل الواقف خلف النافذة وقال بصمت: لا. لست خائفا.
سليم بوفنداسة