جرت الأمورُ على نحوٍ غير محسوبٍ. تصرّف بعفوية كما كان يفعل دوماً. لم يعد يشعر بحاجةٍ إلى القيّام بأفعالٍ فتوقّف عنها. التخطيط ليس من هواياته. حتى حين كان يكتب تلك الزّاوية اليوميّة لسنواتٍ طويلةٍ كان يجلس فتأخذ اللّغة مجراها.
انقطعت الكهرباء فلم يفكر في إعادتها. انقطع الماء فلم يكترث. هو لا يشرب الماء ولا يحتاج إلى الضوء كي يرى. انقطع الأهلُ. انقطع الأصدقاءُ. انقطعت اللّغةُ فكفّ عن الكتابة. انقطعت اللّغة ثانية فكفّ عن الكلام. لم يعد في حاجةٍ إلى الجدل. لم يعد في حاجة إلى تعريفات «الرّفاق» للأشياء. لم يعد في حاجة إلى رفع يديه كي يثبّت كلماته ولا إلى تحريك كتفيه أو اللّهو بقدميه وهو يتحدّث. لم يعد في حاجةٍ إلى إشادة الأصدقاء بلغته الماكرة وتأويلاته الخبيثة لما يحدث. انتهت الأشياء من تلقاء نفسها. لم يعد في حاجةٍ إلى امرأة تركض في أثره وهو يهرول في شوارع المدينة التي لم يعد في حاجة إليها. لم يعد في حاجة إلى طفلٍ يحمل اسمه أبعد من حدود العمر القليل. لم يعد في حاجةٍ إلى لغةٍ. اللّغة تشيخ. اللّغة تموت. لم يعد في حاجة إلى زاوية في جريدة يطلق منها «رصاصات الرحمة». لم يعد في حاجة إلى صوت أو اسم يرتديه ثم ينقشه على شاهدة سريره الأخير.
هناك في أعماقه السحيقة تجري الأمور على نحوٍ غير محسوبٍ. تتآلف أشعار قديمة مع ذكريات غير مبوّبة وأفكار مهملة بسبب انحرافات التاريخ القاسيّة. حتى الجسد لم يعد في حاجة إليه، الجسد سجن الرّوح ظل يسقيه بالنار ليحرق أعشابه.
لم يعد في حاجةٍ إلى السير. تكفي خطوات قليلة ليتعب من العالم ويعود. لم يعد في حاجة إلى بصرٍ أو سمعٍ. الحواس آلات تضليل. الحواس ترجمان سيء النيّة. لم يعد في حاجة إلى الذاكرة. الذاكرة خزانة أدوات قديمة. لم يعد في حاجةٍ إلى نيتشه. لم يعد في حاجةٍ إلى كاتب ياسين. لم يعد في حاجةٍ إلى أحدٍ.
كلّ صباح يخرج (الداوداس) من مغارة روحه ليسير قليلا. يعبر بأصدقاء قدامى لا يتذكرونه. لا تتذكره شوارع قسنطينة. لا تتذكره الجدران. لا تتذكره زاويته في الجريدة. لا تتذكره اللّغة. اللّغة تنسى، من يخرج منها لا تعود إليه.
كلّ صباح يخرج الداوداس إلى شوارع قسنطينة ويتوغّل في النّسيان.
سليم بوفنداسة