استغربت مقدمة نشرة أخبار كيف وصل رجال الحماية المدنية سريعا إلى «الحفرة» وتأخر الخبراء، ولم يتساءل جميع مقدمي الأخبار وصنّاعها عن السبب الذي دفع إسرائيل إلى التفكير في قتل سكان ميلة. قد ينام الخبراء باكرا، وهذا سلوك معيب لا يليق بأشخاص يعوّل عليهم في التعليق على الحوادث وتقديم تفسيرات ومعلومات قد تعوز ناقلي الأخبار. قد يكون الخبراء في أمكنة لا تسمح لهم بسماع الأخبار وتلك كارثة أخرى إذ يفترض في الخبير أن يكون في المكان المناسب في الوقت المناسب وعلى أتم الاستعداد لخدمة بني وطنه بالمعلومات المفيدة. قد يكون الخبراء مرضى أو على سفر، لكن ذلك لن يكون عذرا مقبولا من فئة كان حريا بأفرادها أن ينظموا أنفسهم بالشكل الذي يجعلهم لا ينقطعون عن الحياة العامة. ربما لا يشاهد الخبراء التلفزيونات المحلية وبالتالي لا يشاهدون البث المباشر من الحفر وهذا عذر أقبح من جميع الذنوب، فالخبير المنقطع عن محيطه لا يستحق لقبه الفخم.
لكن، لماذا فكرت إسرائيل في قتل سكان ميلة وعمدت إلى دس أسلاك معدنية في أقراص الباراسيتامول التي يستهلكونها بكثـرة لمقاومة الصداع؟ وكيف عرفت إسرائيل أن أهل ميلة عرضة للصداع؟ ثمة مؤامرة لا فضل لأحد، غير الصحافة المحترفة، في الكشف عنها: إسرائيل تملّكتها الغيرة من اكتشافنا لدواء السكري فحاولت الانتقام منا في دواء الرأس.
و إسرائيل تعرف أننا ننتج الباراسيتامول محليا فعمدت إلى اختبار يقظتنا بإرسال كميات من هذا الدواء إلى ميلة، لكن الصحافة كشفت خيوط اللعبة ونجحت في حماية المواطنين، حتى وإن كان المسؤولون المعنيون بشؤون الدواء قد نفوا تسويق الباراسيتامول القاتل في بلادنا، دون أن يلقوا باللائمة على الصحافة التي أثبتت في أكثـر من مرة احترافيتها ونالت إشادة المسؤولين، بعد أن كسبت احترامهم ، بدليل أن الكثير من النشاطات لم تعد تنطلق في انتظار الصحافيين الذين قد يتأخرون بسبب الزحام أو لقدومهم راجلين لعدم تلقيهم رواتب كون الكثير منهم يشتغلون دون أجر، وحين يصل حملة الكاميرات والميكروفونات الذين يرتدون في الغالب قمصان فرق أوروبية لكرة القدم، تنبسط أسارير المسؤولين وتنطلق الأشغال، فنجاح الأشغال متوقف على مرورها في التلفزيون. وعلى الذين لا يعرفون قوة التلفزيون من أهل الكتابة مثلا أن يعلموا أن التلفزيون هو أحسن وسيلة للانتقام من الواقع. أي أنه يحول – على سبيل المثال- شخصا لا وجود له في الواقع إلى نجم، وبفضل التلفزيون يصبح عملك مرئيا حتى وإن لم تقم بأي عمل على الإطلاق، إذ تكفي كلمات قليلة تقولها في وجه الطفل حامل الكاميرا أو الطفلة حاملة الميكروفون كي تثبت أن ما تقوم به ليس هينا وأنك جدير بما أنت فيه وأكـثـر.
لم يكن مقدمو الأخبار في حاجة إلى مقارنة عدد براءات الاختراع في إسرائيل مع بنات عمها حرصا على عدم إطفاء جذوة التفاؤل لدى المشاهدين الأعزاء، وللإبقاء على الخوف الضروري لاستمرار الحياة، خوف أثبت جدواه في إجهاض “الثورات” المصدرة في "كراطين" الحريات. وخدمة لطمأنينة رسخها قاهرو الجن الذين سخروا التلفزيونات ومفبركو المعجزات.
سليم بوفنداسة