السبت 21 ديسمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

البارع

"أرأيتم! ألم أقل لكم أن ما وقع سيقع. رجاء، لا تجادلوني بعد الآن".
يقول في كلّ مرّة يُخيّب فيها الواقع اجتهاداته في التوقع. ثم يركض في جميع الاتجاهات شارحا براعته في اصطياد المستقبل وتدبر المخارج لكل مأزق تلقي به المشيئات على مرمى بصره، مخارج يقترحها بلا مناسبة على المعنيين بالأمر بعد أن يبرهن على ضرورتهم في الكون  و توليهم لما هم فيه في الوقت المناسب وإتيانهم بما لم تستطعه الأوائل. وبلغ من اهتمامه بمن يستحقون الاهتمام  أنه صار يعرف مقاسات أحذية حرسهم وأسماء دلع  أطفالهم وأعياد ميلادهم. يوثق معلوماته الثمينة في كناشات يحافظ عليها بعناية ، وكلّما سطع منهم نجم، هتف في سرّه: حبيبي!
يسارع دائما إلى الصفوف الأولى عند كل خطبة، إذ لا يُرى إلا  وهو يحرّك رأسه بالإيجاب، ولكم ترجته زوجته حين كان يعود إلى البيت، أن يكف عن هذه العادة، لأنه يكرّرها بالطريقة ذاتها أثناء النوم و يتسبب في حوادث مؤلمة.
لكنه كان يعرف أن تسلّق جبل الحياة القاسي يقتضي تمارين من هذا النوع، تماما كما يقتضي التخلي عن ألبسة قديمة من نوع: الخجل و الكرامة... التي يحتفظ بها بلهاء في خزائنهم العتيقة إلى أن يموتوا في السراديب المظلمة دون أن يراهم أحد.
ابتنى بيتا تصيبه الشمس من الجهات الأربع وتخجل الريح من التصفير عند نوافذه، وحصل على شقق كثيرة بعدما كان يفترش جلد خروف لسنوات طويلة. كفت زوجه عن تأنيبه عن تحريك الرأس وصارت تفاخر به في الحمامات وصالونات الحلاقة وتقسم أن أولئك الذين لا يحظون برؤيتهم سوى في التلفزيونات يتصلون به في البيت لطلب المشورة في القرارات الحاسمة أو معرفة رأيه في الأشخاص الذين تسند لهم بعض المهام ذات الخطورة. بل أنها كفت عن مطالبته بالعودة إلى البيت قبل أن تكف عن الاتصال به في الهاتف. أما هو فقد كف عن النوم. ثم كف عن الجلوس ولكثـرة مشاغله وجديته  كان أول من يصعد إلى الطائرة في رحلاته الكثيرة إلى درجة أن المضيفات صرن يفردن له ابتسامة أطول من الابتسامات المحددة لعابري السماء وكان أول من ينزل وأول من يصل إلى المواعيد وأول من يعبر أمام مقرات عمل بعض الذين يتشرف الكائن بأن يقع عليه نظرهم وهو يعبر وأول من تتاح له فرصة تحيتهم وأول من يرسل لهم رسائل قصيرة في المناسبات السعيدة والمناسبات الوطنية و أول من يتعاطف معهم إذا أصابهم مكروه أو لفظتهم الآلة لأن التجربة علمته أن الآلة قد تستعيد ما لفظت.
صار الأول حيثما حلّ، تحقق المشاريع التي يُنتدب للإشراف عليها أرقاما قياسية وفق البيانات والجداول التي يعرضها في الساحات العمومية برهانا على الشفافية وتعميما للبراعة على من تعوزهم، لكنه واجه مشكلة حقيقية: لم يستطع المعاونون والعاملون مجاراة براعته. لم يستطع المسؤولون المكلفون بمراقبة حركته ذلك. حتى السائقين الذين حشدهم في تنقلاته فشلوا في مجاراته، فأعرض عنهم.
خاتمة لا بد منها
لم يعد يُرى إلا وهو يركض في الشارع هاتفا: أرأيتم.. ألم أقل لكم!

سليم بوفنداسة

 

المزيد من الأعمدة

أبوابٌ ونوافذٌ

بيّنت الأحداث الأخيرة، التي استخدم فيها طرفٌ أجنبيٌّ، كاتبين جزائريين ضدّ بلدهم الأم، في حرب...

  • 09 ديسمبر 2024
صوتُ الحياة

شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس...

  • 25 نوفمبر 2024
المُنمركون !

يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا...

  • 18 نوفمبر 2024
لا تلوموا أسامة!

يطرحُ الإقبال "غير المتوقّع" على الكاتب السعودي أسامة المسلم في صالون الجزائر الدولي للكتاب،...

  • 11 نوفمبر 2024
«لأسبابٍ سياسيّة» !

قبل سويعات من الكشف عن الفائز بجائزة الغونكور، أمس، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ناشرٍ قوله، إن...

  • 04 نوفمبر 2024
الصّورة و النّص

عاش كاتب ياسين حياةً قليلة وبسيطة، عانى فيها من "سوء الفهم" و الأسطرة، فضلا عن الجدل الذي لم يفتر...

  • 28 أكتوير 2024
المُستريحون

تُخفي الفرحةُ بموت أحدٍ، حالة قهرٍ عاشها الفَرِحُ في وجود الرّاحل الذي حقّقت ميتتُه زوال غمٍّ،...

  • 21 أكتوير 2024
طفولــة

سليم بوفنداسة ينشغلُ عددٌ غير قليل من الجزائريين بنظرة الآخر التي تتحوّل إلى مصدر فخرٍ أو سبب...

  • 15 أكتوير 2024
ضرورة الفرز

سليم بوفنداسة لا يواجه الأدب الجزائري مشاكل في التلقي فحسب بل يواجه أيضًا مشاكل في الكتابة...

  • 01 أكتوير 2024
سُقــــوط

سليم بوفنداسة فرضت ثقافة السّوق التي تهيمن على عالمنا المعاصر نمطًا جديدًا من النّخب، تنتجه...

  • 24 سبتمبر 2024
حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
المهيمنُ لا يتحرّج

لا يستريحُ القتلةُ في الصيّفِ، فكلّ الفصول مُناسبة لإراقة الدم، ولعلّهم نجحوا في تحويل المقتلة...

  • 29 جويلية 2024
كرمٌ مُعلن

يمكن اعتبار الاحتفاء بالناجحين علامة صحيّة، لما في ذلك من تقديرٍ للعلم ومُحصّليه، شرط أن يكون...

  • 22 جويلية 2024
محنة الرواية!

تعرّضت الكاتبة إنعام بيّوض إلى حملة تشهير بالغة السوء على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر صوّر...

  • 15 جويلية 2024
محاذير الفرح!

أثار الفرح "المبالغ فيه" بالنّجاح في مختلف امتحانات نهاية السنة، الجدل بين مناصرين للحقّ في...

  • 01 جويلية 2024
«ترندينغ»

تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام...

  • 24 جوان 2024
سِرُّ مالك!

بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت...

  • 03 جوان 2024
«الطريق»

توفر الوسائط التكنولوجيّة "حياةً جديدةً" للإبداع، من خلال القنوات التي تفتحها مع المتلقّي، مختصرةً الجهد والوقت...

  • 27 ماي 2024
الفيلسوف متوحشا

أصاب الحراك الطلّابي في الغرب، الفيلسوف الفرنسي الصهيوني الهوى ألان فينكلكروت بالرّعب، إلى درجة...

  • 20 ماي 2024
الخروج من حُجرة الكتابة

خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو...

  • 06 ماي 2024
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com