"أرأيتم! ألم أقل لكم أن ما وقع سيقع. رجاء، لا تجادلوني بعد الآن".
يقول في كلّ مرّة يُخيّب فيها الواقع اجتهاداته في التوقع. ثم يركض في جميع الاتجاهات شارحا براعته في اصطياد المستقبل وتدبر المخارج لكل مأزق تلقي به المشيئات على مرمى بصره، مخارج يقترحها بلا مناسبة على المعنيين بالأمر بعد أن يبرهن على ضرورتهم في الكون و توليهم لما هم فيه في الوقت المناسب وإتيانهم بما لم تستطعه الأوائل. وبلغ من اهتمامه بمن يستحقون الاهتمام أنه صار يعرف مقاسات أحذية حرسهم وأسماء دلع أطفالهم وأعياد ميلادهم. يوثق معلوماته الثمينة في كناشات يحافظ عليها بعناية ، وكلّما سطع منهم نجم، هتف في سرّه: حبيبي!
يسارع دائما إلى الصفوف الأولى عند كل خطبة، إذ لا يُرى إلا وهو يحرّك رأسه بالإيجاب، ولكم ترجته زوجته حين كان يعود إلى البيت، أن يكف عن هذه العادة، لأنه يكرّرها بالطريقة ذاتها أثناء النوم و يتسبب في حوادث مؤلمة.
لكنه كان يعرف أن تسلّق جبل الحياة القاسي يقتضي تمارين من هذا النوع، تماما كما يقتضي التخلي عن ألبسة قديمة من نوع: الخجل و الكرامة... التي يحتفظ بها بلهاء في خزائنهم العتيقة إلى أن يموتوا في السراديب المظلمة دون أن يراهم أحد.
ابتنى بيتا تصيبه الشمس من الجهات الأربع وتخجل الريح من التصفير عند نوافذه، وحصل على شقق كثيرة بعدما كان يفترش جلد خروف لسنوات طويلة. كفت زوجه عن تأنيبه عن تحريك الرأس وصارت تفاخر به في الحمامات وصالونات الحلاقة وتقسم أن أولئك الذين لا يحظون برؤيتهم سوى في التلفزيونات يتصلون به في البيت لطلب المشورة في القرارات الحاسمة أو معرفة رأيه في الأشخاص الذين تسند لهم بعض المهام ذات الخطورة. بل أنها كفت عن مطالبته بالعودة إلى البيت قبل أن تكف عن الاتصال به في الهاتف. أما هو فقد كف عن النوم. ثم كف عن الجلوس ولكثـرة مشاغله وجديته كان أول من يصعد إلى الطائرة في رحلاته الكثيرة إلى درجة أن المضيفات صرن يفردن له ابتسامة أطول من الابتسامات المحددة لعابري السماء وكان أول من ينزل وأول من يصل إلى المواعيد وأول من يعبر أمام مقرات عمل بعض الذين يتشرف الكائن بأن يقع عليه نظرهم وهو يعبر وأول من تتاح له فرصة تحيتهم وأول من يرسل لهم رسائل قصيرة في المناسبات السعيدة والمناسبات الوطنية و أول من يتعاطف معهم إذا أصابهم مكروه أو لفظتهم الآلة لأن التجربة علمته أن الآلة قد تستعيد ما لفظت.
صار الأول حيثما حلّ، تحقق المشاريع التي يُنتدب للإشراف عليها أرقاما قياسية وفق البيانات والجداول التي يعرضها في الساحات العمومية برهانا على الشفافية وتعميما للبراعة على من تعوزهم، لكنه واجه مشكلة حقيقية: لم يستطع المعاونون والعاملون مجاراة براعته. لم يستطع المسؤولون المكلفون بمراقبة حركته ذلك. حتى السائقين الذين حشدهم في تنقلاته فشلوا في مجاراته، فأعرض عنهم.
خاتمة لا بد منها
لم يعد يُرى إلا وهو يركض في الشارع هاتفا: أرأيتم.. ألم أقل لكم!
سليم بوفنداسة