فضّل كاتب ياسين، في سالف العصر والأوان، أن يكون حمّالا في ميناء الجزائر على أن يكون حمّالا لدى سلطة سياسية لا يُؤمن بتوجهها. وفي سلوك الرجل درس للكتّاب والفنانين اللاحقين الذين يفضّلون حمل ما خفّ وزنه!
صحيح أن زمن المثقف المتمرّد قد ولىّ لاعتبارات تاريخية مرتبطة بتداعيات العولمة التي “سلّعت” حتى الإنسان وجعلت من الربح القيمة الأسمى لكل نشاط، لكن ذلك لا يحول دون استدعاء الإشارات المضيئة في تاريخنا الثقافي من باب الحنين أو من باب الهروب من مشهد عزّ فيه هذا النوع من المثقفين، بل وأصبح المثقف فيه يقدم نفسه بطريقة مُخزية، في الكثير من الأحيان، اتقاء لشرّ متوقع أو طلبا لمنفعة، متخليا عن سلطته الرمزية التي تمكنه – لو شاء- من مقارعة بقية السُّلط وإحراجها ووضعها في إطارها الصحيح. و لو سُمع صوت ياسين وغيره من المثقفين “الحقيقيين” في الوقت المناسب، لو أُطلقت الحريات وأحترم التعدّد والاختلاف لتم بناء الدولة الوطنية على أساس سليم وكنا تجنّبنا الحرب الأهلية وهزاتها الارتدادية، وما تلا كل ذلك من تأزّم وعقد وخراب للإنسان. لكن السلطة اخترعت المثقفين المناسبين وتخلّت عن المثقفين المزعجين راسمة خارطة طريق سيتم إتباعها طُوعا، فيما بعد، من خلال إظهار المثقف الولاء للسياسي وجهره بالأمر بل والإمعان في ذلك.
والمخيف الآن والمحزن والمثير للاستياء أن الجزائر المستقلة التي تحصي عشرات الجامعات لا تحصي مثقفين كبارا، حيث تصحّرت الساحة باختفاء الآباء المؤسسين، ولم تنفع أموال الصناديق السخية ولا الهيئات التي تمّ استحداثها ولا الميزانيات ولا التظاهرات في تحريك السواكن أو “إنجاب” مبدعين، لأن المبدع الحقيقي نبات متوحش ينمو من تلقاء نفسه ولا يحتاج إلى يد كاذبة ترعاه.
وتزداد المخاوف بتحول المشهد الثقافي الوطني في السنوات الأخيرة إلى سوق مجزية، استفاد من تجارتها وسطاء موسميون لا يختلفون عن أثرياء البطاطا، وبالطبع فإنهم تمكنوا من صناعة “نهضة” في النشر والإنتاج الثقافي، يكفي أن تفحص فحصا عابرا كتابا ممّا يُنشر وتحصي أخطاءه لتعرف مآلها وتعرف أن “سخاء الدولة” في خدمة الثقافة تحوّل إلى نقمة عليها.
ملاحظة
بإمكان حمّال في الميناء أن يتحوّل إلى كاتب كبير. القاعدة لا تنطبق على الحمّالين في مواقع أخرى.